بياتيغورسك: هنا قُتل ميخائيل ليرمنتوف

ماذا يخبرنا متحف ميخائيل ليرمنتوف عن صاحب "بطل من هذا الزمان"؟ وما الأسباب التي أوصلته إلى المبارزة ثم إلى مقتله؟

في شهر تموز/يوليو من كل عام، تعيد الأوساط الأدبية الروسية إثارة جملة من الشائعات المرتبطة بمصرع الشاعر والكاتب الروسي، ميخائيل ليرمنتوف، عن 26 عاماً، في 27 تموز/يوليو 1841، وذلك في مبارزة مع صديقه الرائد المتقاعد، نيقولاي مارتينوف.

ويتردد من جديد أن هالة من الغموض لا تزال تحيط بوفاته: لماذا قُتل ليرمنتوف وكيف؟ لماذا أطلق النار في الهواء ولم يوجّه مسدسه نحو غريمه؟ وهل لعب القيصر نيقولاي الأول (1796-1855) دوراً في مقتله؟

تقودنا هذه الأسئلة إلى منزل فوق تلة أومانوف المشرفة على مدينة بياتيغورسك القوقازية، التابعة لمقاطعة ستافروبل الروسية، قضى فيه ليرمنتوف آخر أيامه، ولو قدّر له ألا يشارك في تلك المبارزة لاحتل عرش الشعر الروسي طويلاً بعد رحيل أمير شعراء الروس، ألكسندر سيرغيفيتش بوشكين (1799-1837). 

متحف الشاعر الذي أنقذت مقتنياته الثمينة من النازيين 

  • مكتب ميخائيل ليرمنتوف
    مكتب ميخائيل ليرمنتوف

نصل إلى بياتيغورسك (الجبال الخمسة) بالقطار الكهربائي السريع الذي ينطلق من مدينة مينفودي (المياه المعدنية) إلى كسيلوفودسك (المياه الحمضية). وقد التفت الروس، أثناء اجتياحهم بلاد الشركس في القرن الــ 18، إلى الأهمية الصحيّة لهذه المنطقة الشاسعة التي شكلت جزءاً من "قبارديا". الدولة التي اعترف بها بموجب معاهدة بلغراد سنة 1739 بين السلطنة العثمانية والإمبراطورية النمساوية. وأطلق أهل البلاد على هذه المنطقة اسم "قبارد تشيرك"، وعلى ناحية بياتيغورسك الحالية اسم "بسيخوآب" أي المياه الدافئة. 

في انتظار انطلاق الجولة في متحف ليرمنتوف، التي تقودنا فيها الباحثة العلمية كسينيا، نبحث في الفناء عن ظل نحتمي به من شمس القوقاز اللاسعة. يتألف المجمع الأدبي التذكاري من عدد من المباني، وأُنشئ على أساس أحدها، وهو المنزل الذي قضى فيه الشاعر الأشهر الأخيرة من حياته، والذي وُضعت فيه جثته بعد المبارزة.

  • بياتيغورسك بريشة ليرمنتوف في لوحة زيتية سنة 1837
    بياتيغورسك بريشة ليرمنتوف في لوحة زيتية سنة 1837

بنى المنزل الرائد المتقاعد، فاسيلي تشيلاييف، وزوّده بشرفة وعرضه للإيجار. وقد استأجره عدد من الكتّاب والضبّاط الروس قبل ليرمنتوف، وفي أيار/مايو 1841، ورد في سجل المنزل: "استلمنا 100 روبل فضي من النقيب أليكسي أركاديفيتش ستوليبين والملازم ميخائيل يوريفيتش ليرمونتوف من سان بطرسبورغ مقابل المنزل المتوسط ​​بأكمله". 

ولم يتحوّل المنزل، مع المنازل المحيطة به، إلى متحف إلا بعد 7 عقود، حين اشتراه مجلس دوما بياتيغورسك، وافتتحه في ذكرى وفاة الشاعر في تموز/يوليو 1912. 

  • جولة داخل متحف ليرمنتوف
    جولة داخل متحف ليرمنتوف

تبرعت يفغينيا شان غيري، ابنة عم ليرمونتوف، بأولى المعروضات الأصلية لمجموعة المتحف، وهي عبارة عن طاولة وكرسي جُلبا من سان بطرسبورغ. وتجمعت مقتنيات المتحف شيئاً فشيئاً في ظل السلطة السوفياتية، حيث نُقل إليه 27 صندوقاً تحتوي على معروضات من متحف روستوف للفنون الجميلة. ويعود الفضل إلى عاملتين في المتحف أنقذتا المقتنيات الثمينة من النهب على أيدي النازيين أثناء احتلالهم المدينة.

لماذا حصلت المبارزة بين ليرمنتوف ومارتينوف؟

  • أمام منزل الشاعر ليرمنتوف
    أمام منزل الشاعر ليرمنتوف

بحلول عام 1840، كان اسم ميخائيل ليرمونتوف، قد انتشر على نحو واسع في العاصمة القيصرية، فبعد نفيه من قبل القيصر إلى القوقاز بسبب قصيدته "وفاة شاعر" التي أبّن بها ألكسندر بوشكين، شارك في معركة فاليريك (نهر الموت)، وكان من المفترض أن يمنح وسام القديس فلاديمير من الدرجة الرابعة مع القوس. لكن الشاعر نشر في العاصمة ديواناً ضم قصائده إلى جانب رواية "بطل من هذا الزمان"، التي احتجزتها الرقابة. 

أثارت الرواية التي قدّمت صوراً لاذعة للبطل، استياء نيقولاي الأول، كما أثارت تصرفات الضابط المنفي غضب الأمير الأكبر، ميخائيل بافلوفيتش. إذ تجرأ ليرمونتوف على الظهور بزيّه العسكري في إحدى الحفلات أمام أفراد العائلة المالكة. لم تتجاهل السلطات العسكرية هذه المخالفة، وأصدرت أمراً بعودة ليرمونتوف السريعة إلى القوقاز. حاول المماطلة والبقاء في العاصمة لكن من دون جدوى، فغادر إلى موسكو، ومنها ذهب مع قريبه أليكسي ستوليبين إلى حيث سيلقى حتفه. 

ما إن وصل ليرمنتوف إلى بياتيغورسك حتى سأل عن صديقه القديم نيقولاي سولومونوفيتش مارتينوف، الذي كان يلقبه بالقرد. كان مارتينوف يحلم بالرتب والجوائز، لكنه تقاعد برتبة رائد، ولم يكن لديه أي جوائز عسكرية، وبات يرتدي ثياب الشركس البسيطة، ويعتمر قبعتهم البيضاء وعلى خصره خنجر لا يفارقه. 

وكان ليرمنتوف يسخر من مظهر صديقه وصوّره في رسومات كاريكاتورية حظيت بشعبية بين أوساط ضيقة من أصدقائه. وكان موضوع نكاته الرئيس هو الخنجر، الذي عدّه مارتينوف سمة من سمات الرجل الحقيقي، ولم يطق السخرية منه أبداً.

تكتظ قاعات المتحف بعشاق الأدب الوافدين إلى المدينة. وتشكل الرحلة بين منازل المتحف مواكبة الشاعر في أيامه الأخيرة حتى مصرعه. 

في المنزل الأول، حيث قاعة احتفالات المالك تشيلاييف، نظم الجنرال حفلاً راقصاً، وإلى جانب آلة البيانو دارت محادثةً بين ابنة زوجة صاحب المنزل إميليا ألكسندروفنا وليرمونتوف، وفي لحظة صمت ذكر الشاعر الخنجر المشؤوم، فدوّت الكلمة في أرجاء القاعة، ولفتت الفتاة انتباه الشاعر إلى استياء مارتينوف. 

طالبه مارتينوف بـــ "التوقف عن هذه النكات، وخاصةً أمام السيدات"، واستمرت الأمسية. لم يُعرِ المشاركون في الحفل ما حدث اهتماماً كبيراً، ولكن في نهاية الأمسية، قصد مارتينوف منزل ليرمنتوف لإنهاء شجارهما. ودار الحوار بينهما على عتبة المنزل الثاني:

"- تعلم يا ليرمونتوف أنني أتحمّل سخريتك منذ زمن طويل، ولا تزال مستمرة على الرغم من مطالبتي المتكررة لك بالكف عنها.

- ماذا، هل أنت مستاء؟

-  نعم، بالطبع مستاء.

- هل تريد أن تطلب المبارزة؟

- لمَ لا؟!

- أنا مندهش من مزاحك ونبرة صوتك... ومع ذلك، كما تعلم، لا يمكنك إخافتي بتحدٍّ... إذا أردت القتال، فسنتقاتل".

"ميشا، سامحني"

  • نصب تذكاري في مكان مقتل ليرمنتوف على سفح جبل ماشوك
    نصب تذكاري في مكان مقتل ليرمنتوف على سفح جبل ماشوك

تستمد بياتيغورسك اسمها الروسي من قمم جبل بيشتاو الخمس، ويطل على المدينة جبل آخر وهو "ماشوك" (المعشوق) ارتبط اسمه باسم ليرمنتوف، فعلى سفح هذا الجبل وقعت المبارزة التي أنهت حياته في 27 تموز/يوليو 1841. 

وفق قواعد المبارزة، التي كانت عملاً خارجاً عن القانون، كان بإمكان الخصمين إطلاق النار واقفين، أو أن يقتربا من الحاجز أو أثناء الحركة، لكن كان عليهما القيام بذلك بين العددين "اثنين" و"ثلاثة". 

وقف ليرمونتوف على منصة مرتفعة، ما حرمه من الأفضلية. بعد أمر "التواجه"، سار مارتينوف نحو الحاجز بخطوات سريعة، مصوّباً مسدسه بحذر، بينما مدّ ليرمونتوف يده بالمسدس إلى أعلى، من دون أن يتحرك من مكانه. 

يتذكر الأمير فاسيلتشيكوف، مساعد ليرمنتوف، بعد المبارزة: "دوّت الرصاصة، وسقط ليرمونتوف كما لو أن ساقه قد قُطعت، من دون أن يجد الوقت الكافي لإمساك موضع الجرح، كما يفعل عادةً المصابون بالكدمات أو الجروح. ركضنا نحوه... تصاعد الدخان من الجرح في جانبه الأيمن، ونزف الدم في جانبه الأيسر... وبقي المسدس فارغاً في يده...". 

ندم مارتينوف بعد مصرع الشاعر فصرخ: "ميشا، سامحني". وتوجه فوراً إلى القائد ليسلم نفسه للعدالة. 

لم تُقم جنازة ليرمونتوف وفقاً للطقوس الكنسية على الرغم من كل جهود أصدقائه. وجاء في النبأ الرسمي لوفاته: "في 15 تموز/يوليو (أي 27 تموز/يوليو وفق التقويم الجورجي الحديث)، نحو الساعة الخامسة مساءً، اندلعت عاصفة رهيبة مصحوبة برعد وبرق. في تلك اللحظة تحديداً، بين جبلي ماشوك وبشتاو، توفي السيد ليرمونتوف". 

وصل الخبر إلى سان بطرسبورغ، وقوبل موت الشاعر في أوساط الطبقة الراقية برد فعل: "إنه يستحق ذلك". في مذكراته، أشار الأمير الشاعر، بيوتر فيازيمسكي، مستشهداً بكلمات المساعد العسكري العقيد لوزين، إلى أن الخبر وصل إلى القيصر نيقولاي الأول بعد قداس الأحد، فرد بقوله: "موت كلب". 

إلا أن الأميرة الكبرى ماريا بافلوفنا ثارت وردت على كلمات القيصر بتوبيخ لاذع. فدخل إلى غرفة أخرى ليستقبل من بقوا بعد القداس، وأعلن: "أيها السادة، وردتنا أنباء عن مقتل من كان بإمكانه أن يحل محل بوشكين لدينا".

  • الصعود إلى تل أومانوف في بياتيغورسك
    الصعود إلى تل أومانوف في بياتيغورسك

أُقيمت جنازة ليرمونتوف في 29 تموز/يوليو 1841، في مقبرة بياتيغورسك القديمة. توافد الكثيرون لتوديعه في رحلته الأخيرة: سكان بياتيغورسك، والمصطافون، وأصدقاء ليرمونتوف وأقاربه، وأكثر من 50 مسؤولاً. وحُمل نعش الشاعر على أكتاف ممثلي جميع الأفواج التي خدم فيها. 

استراح جثمان الشاعر في تراب بياتيغورسك لمدة 250 يوماً. وبعد قبول الإمبراطور بنقل جثمان الشاعر إلى قريته والحصول على إذن بذلك، في 27 آذار/مارس 1842، تم نقل رفات ليرمونتوف في نعش من الرصاص والقطران إلى سرداب العائلة في قرية تارخاني.

اخترنا لك