جنان وغدير

في غزة لن تستطيع الاختيار بين أشكال الموت. قد يكون الموت بطلقة أو قذيفة أو مدفوناً تحت الركام أو أن تموت جوعاً أو عطشاً أو قهراً، وربما يأتيك الموت بكلّ الحالات مجتمعة.

  • طفلة من غزة
    طفلة من غزة

صوت المدافع وقصف الطائرات وانفجار القذائف وانتشار الغبار وتطاير الشظايا والجثث لم يمنع الصغيرتين جنان وغدير، من الهروب إلى الشارع خوفاً من قصف البناية التي لجأتا إليها، بعد أن نزحتا للمرة الرابعة وفقدتا والديهما في قصف البرج الذي كانوا يسكنونه قي غزة. ما زالتا تتذكّران كيف تمّ انتشالهما من تحت الأنقاض بعد 3 أيام من قصف المبنى من دون ماء أو غذاء أو دواء.

كانت جثتا والديهما لا تبعد عنهما كثيراً، ولكنهما لا تنسيان رائحة الموت والعطش والجوع والظلام والألم. طوال الوقت تستغيثان ورجال الدفاع المدني يسمعانهما ويحاولان الوصول إليهما باستخدام الأدوات البسيطة المتوفّرة في حوزتهم. أخيراً تمكّنتا من الخروج وأخذتهما سيارة الإسعاف إلى مشفى الشفاء للمعالجة. الصدمة على وجهيهما كانت واضحة وخصوصاً بعد فقدانهما والديهما. كانتا مغبرتي الشعر ملابسهما ممزّقة وحافيتين، وكانتا تردّدان "الحمد لله" رغم ما حلّ بهما.

أما مجمّع الشفاء فكان يغصّ بالمرضى وغير المرضى من النازحين الذين فقدوا بيوتهم بسبب الدمار أو للاحتماء من القصف في الأماكن التي من المفترض أن تكون آمنة وفقاً للقانون الدولي. لكن الجثث كانت ملقاة في الساحة بانتظار دفنها، بعد أن هدّد "جيش" الاحتلال بقتل كلّ من يقترب منها كي يدفنها.

في غزة لن تستطيع الاختيار بين أشكال الموت. قد يكون الموت بطلقة أو قذيفة أو مدفوناً تحت الركام أو أن تموت جوعاً أو عطشاً أو قهراً، وربما يأتيك الموت بكلّ الحالات مجتمعة. فالموت واحد. فراق وراحة وطريق بلا عودة سواء في بيت أو خيمة أو على قارعة الطريق. لا يهمّ عدد الشهداء والجرحى، ولا عدد الأطفال والنساء. الكلّ غادر في لحظة نائماً أو مستيقظاً راكباً أو ماشياً أو هارباً أو مقاوماً، محبّاً أو عاشقاً أو منتظراً. مات كلّ شيء، حتى الأحاسيس، لك الله يا غزة، فالكلّ خذلك حتى نحن.

ما زالت تجول في ذاكرتيهما تلك الأيام التي عاشتاها في غزة قبل الحرب، وكيف كانتا تذهبان مع والديهما وأصدقائهما للتنزّه واللعب على شاطئ البحر أو في الحدائق العامّة والاستمتاع بنسيم البحر أو السباحة بمياهه وخاصة في أيام الحرّ الشديد. فرغم الحصار الشديد من العدو والصديق كانت هناك حياة وكان هناك مجال للفرح وإن كان شحيحاً. 

كنت تسمع ضحكات الأطفال وصراخهم فرحاً وترى سرورهم بالهدايا البسيطة سواء في الأعياد أو المناسبات الدينية المسيحية والإسلامية. كانت هناك حياة وإن كانت منقوصة وصعبة لكن تمّ التكيّف معها. كانت الطائرات المسيّرة الإسرائيلية والتي يطلق عليها الغزيون "الزنّانة" لا تغادر الأجواء على مدار اليوم، وتغتال وتقتل المواطنين والمقاومين. جاء السابع من أكتوبر نتيجة الحصار والتطاول على المقدّسات وزيادة وتيرة القتل وهدم البيوت بعد صعود غُلاة المستوطنين لسدّة الحكم في "دولة" الكيان، وتغيّرت الموازين والمعادلات بعد أن كسرت المقاومة شوكة الاحتلال انتقاماً لدماء الشهداء والأبرياء الذين ارتقوا في الضفة الغربية والقدس.

عاشتا أياماً صعبة في المستشفى ورأتا الموت والأشلاء بأعينهما، وفي منامهما لا تريان إلّا الكوابيس وتناجيان والديهما لكن ما من مجيب. كيف للطفولة أن تُسلب براءتها وقدسيّتها وتُداس بالأرجل وجنازير الدبابات والمدرّعات؟ 

تنزحان من جديد مع الألوف المؤلّفة إلى رفح بعد أن تمّ تدمير مستشفى الشفاء وتقطعان عشرات الكيلومترات مشياً. وصلتا إلى واحدة من مدارس (الأونروا)، والتي أصبحت مركزاً لإيواء الآلاف من نازحي الشمال. الأوضاع كانت هادئة نوعاً ما، وكانتا تسمعان صوت الانفجارات من بعيد، إلا أنّ غطرسة المحتل وعشقه للقتل وسفك الدماء، لم يدع رفح تعيش بأمان، فبدأ حملته الشرسة في قصف المباني السكنية ومدارس الإيواء والمستشفيات وحتى الخيام لم تسلم منه، فمات الكثيرون حرقاً وهم نيام. أطفال ونساء وشيوخ. لم يبقَ لجنان وغدير مكان تلجآن إليه، فأصبحتا تنامان على قارعة الطريق، وتحلمان بخيمة تؤويهما من حرّ الصيف الشديد.

في يوم من الأيام جلست جنان وغدير على قارعة الطريق، تقدّم منهما شخص يعمل مع إحدى المنظّمات الإنسانية ورأى الحزن في عيونهما وأخذته الشفقة بهما وأجرى معهما هذا الحوار:

-  "السلام عليكم، لم أنتما حزينتان عمو.

- لأننا فقدنا ماما وبابا وبيتنا في غزة تهدّم.

- ممكن إتعرف عليكما"؟

- أنا اسمي غدير وهذه أختي جنان.

- ما هي أمنيتكما؟

فأجابت جنان: 

- نتمنّى أن تكون لنا خيمة، فالفلسطيني الذي نزح في النكبة الأولى عام 48 وفي نكسة حزيران عام 67، أصبح الآن في نكبة جديدة ويعاني من الجرائم ومن حرب إبادة عرقية وحكومات دول العالم الغربي والعربي والإسلامي غير مكترثة لما يحصل، رغم أن قضية فلسطين أصبحت في الصدارة وكشفت الوجه البشع للاحتلال الإسرائيلي والذي سيعيش عزلة عالمية وسيحاكم في محكمة الجنايات الدولية.

- كم عمرك يا جنان، فأنت تقولين كلاماً لا يقوله الكبار؟

- أنا عمري 8 سنوات وأختي غدير 7 سنوات.

- أنا بعدما سمعتك سأكافئك بهدية، فماذا تريدين؟

أجابت جنان بعد تفكير: أريد خيمة.

-  ستحصلين أنت وأختك على خيمة وملابس جديدة وشبشب وحذاء جديد.

لم تصدّقا ما يقوله هذا الشاب الغريب الذي عاد بعد لحظات حاملاً الخيمة والملابس والهدايا التي وعد بها. وبعد أن نصب الخيمة دعاهما إلى الداخل، ورأى الفرحة في عيونهما الصغيرة، لتعيشا فيها مؤقتاً بانتظار العودة إلى بيتهما المدمّر في غزة، بعد إعلاء راية الانتصار على العدو وسحقه وزواله نهائياً، وهذا لن يكون حلماً بل حقيقة تاريخية، لأنّ كلّ احتلال نهايته الزوال ولو بعد حين، وخصوصاً أن السابع من أكتوبر قد كشف هشاشته وتأرجحه نحو الهاوية وبيّن فاشيته وعنصريّته بشكل لا يقبل الشكّ.