حبرٌ يحرسُ الذاكرة!

يحرس الحبر الدم المراق في سبيل الحق ويحول دون نسيانه، لأنه يستطيع تخليده عبر الفنّ والأدب العابرَين للزمن.

  • هذه الاحتفالية هي مناسبة لتأكيد أهمية الفنّ والأدب في الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي
    هذه الاحتفالية هي مناسبة لتأكيد أهمية الفنّ والأدب في الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي

أكتب هذه الأسطر بُعيد احتفالية إزاحة الستارة عن لوحة تذكارية باسم الشاعر محمود درويش في مدينة بولينانو جنوبي إيطاليا، والتي أقيمت برعاية بلدية المدينة، وبدعم مجموعة من الهيئات الإيطالية والفلسطينية، وبمبادرة من جمعية "همسة سماء الثقافة" في الدنمارك، وبحضور الفنان مرسيل خليفة والفنان الفلسطيني نبيل سلامة، ومجموعة من الشخصيات الإيطالية الداعمة للقضية الفلسطينية.

هذه الاحتفالية هي مناسبة لتأكيد أهمية الفنّ والأدب في الصراع الضاري الذي يخوضه الشعب الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي. إذاً ليس حدثاً عابراً، وفي هذا الزمن بالذات، أن تتبنّى مدينة أوروبية مبادرة تكريم شاعر عربي فلسطيني انحاز على الدوام لحقّ شعبه في الحرية والاستقلال.

المناسبة تجعلنا نعيد التأكيد أن الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي ليس فقط صراعاً على الجغرافيا (رغم أهمية الجغرافيا في هذا السياق)، بل أيضاً هو صراع على التاريخ. فالمحتل هنا يزعم حقاً تاريخياً في الجغرافيا التي يحتلها، ويحاول تالياً احتلال الذاكرة عبر السطو عليها، وتزييف الوعي عبر اشتغاله على ترسيخ وعي مضاد كاذب، لكنه يمتلك معظم أدوات تزييف الحقائق وغسل الأدمغة. لنعترف بمرارة أنه بلغ أشواطاً في معركته هذه، رغم تراجعه في معارك أخرى كثيرة، ورغم فقدانه قوة الردع وتآكل هيبة جيشه الذي كان يوماً لا يُقهر. 

فبعد أن كانت فلسطين قضية كل عربي من المحيط إلى الخليج، صرنا نقرأ لدى بعضهم شعار "فلسطين ليست قضيتي". نعلم أن هؤلاء قلّة لا تمثّل رأياً عامّاً، ولا تعبّر عن الوجدان العربي العميق، لكن مجرد امتلاك هذه القلّة الجرأة على قولها المستهجن يعني أن الاحتلال الذي يخسر بالمعنى الوجودي أمام إرادة مقاوميه، يربح نسبياً في معركة تزييف الوعي والضمير.

لأنّ الاحتلال الإسرائيلي مختلف عن "الاحتلالات التقليدية" التي كانت تحتل الأرض طمعاً بخيراتها وثرواتها وبهدف السيطرة على شعوبها وقرارها، نجد أن هذا الاحتلال يكدّ ويجهد للإتيان بأدنى دليل يؤكد مزاعمه التوراتية والتاريخية، ولأنه يفشل في هذا المسعى يلجأ إلى السطو على الذاكرة الفلسطينية وينسبها لنفسه زوراً وبهتاناً. يسرق الفولكلور والتراث والأزياء والموسيقى والأطعمة التي ورثناها أباً عن جد عبر مئات السنين، ويدّعي أنها جزء من ذاكرته وماضيه المزعومَين.

أمام هذا الواقع المختلّ إعلامياً لمصلحة المحتل، يصبح الصراع في جانب من جوانبه صراعاً بين روايتين: رواية الحق الفلسطيني ورواية الباطل الإسرائيلي. وأي رواية هي التي ترسَخ في الوعي والوجدان، خصوصاً أننا نشهد كثيراً من الاستلاب الثقافي لدى شرائح واسعة من مجتمعاتنا العربية تجهل تاريخها وحقائق هذا التاريخ، وتعاني من مأزق حتى في علاقتها مع لغتنا العربية التي هي واحدة من أجمل لغات الأرض (ولهذا بحث لاحق).

هنا يأتي دور الكتابة بمعانيها المتعددة أدباً وفكراً وفناً، من كتابة القصيدة إلى كتابة النوتة، ومن رواية الأدب إلى حكاية اللون، ومن حياكة الثوب إلى مقادير الطبخة. كلّ شيء مهم في هذا الصراع الضاري مع المحتل، كلّ تفصيل مهما بدا بسيطاً وعادياً له موقعه وأهميته في الصراع. حتى قرص الفلافل لم يسلم من شرّ الاحتلال الذي يزعم أنه من ضمن مائدته المختلَقة. وهذه ليست طرفة أو دعابة، فكثير من المطاعم في العالم تقدّم المأكولات الفلسطينية بوصفها مأكولات إسرائيلية!

القصيدة عابرة للزمن، والرواية تنتقل من جيل إلى جيل، والأغنية ترسخ في الوعي والذاكرة، والموسيقى ترتقي بالحسّ والذائقة، وكلّها أدوات معرفية تساهم في تشكيل الوعي وتراكم المعرفة، خصوصاً متى كانت ملتزمة الدفاع عن الحق والحقيقة. ولئن كان الشهداء يحفظون بدمائهم الأرض ويحرسون الجغرافيا، فإن الكتّاب يحفظون بحبرهم الذاكرة، أي التاريخ. التاريخ نفسه الذي يحاول الاحتلال السطو عليه، واختلاق أكاذيب لا سند واقعياً لها. 

وفي الوقت نفسه فإن هذا الحبر يحرس الدم المراق في سبيل الحق ويحول دون نسيانه، لأنه يستطيع تخليده عبر الفنّ والأدب العابرَين للزمن. وكما قال درويش في جداريته الرائعة: "هَزَمَتك يا موتُ الفنونُ جميعُها، هَزَمَتك يا موتُ الأغاني في بلادِ الرافدينِ، مسلَّةُ المصري، مقبرةُ الفراعنةِ، النقوشُ على حجارةِ معبدٍ هَزَمَتك، وانتصَرتْ وأفـلتَ من كمائِنِكَ الخلودُ، فاصنعْ بنا، واصنع بنفسِك ما تُريدُ".