رحيل محمد قجة.. حلب تودّع قلعتها الثقافية

مُكتشف منزل المتنبي في حلب وحامل لقب "قلعة حلب الثقافية". من هو محمد قجة الذي رحل عن دنيانا اليوم؟

  • محمد قجة بريشة الفنان سعد يكن
    محمد قجة بريشة الفنان سعد يكن

رحل عن دنيانا، الأربعاء، الباحث السوري الموسوعي محمد قجة (1939 - 2024)، بعد أن أمضى حياته مولعاً بالكلمة والثقافة والدفاع عنهما، كونهما الحصن الأهم في مواجهة الأخطار التي تلم بحضارتنا العربية وتراثنا الغني، والذي يُراد له أن يندثر.

المتتبع لمسيرة قجة الفكرية سيكتشف أن معرفته بالتاريخ والأدب والتراث واللغة والنقد تراكمت منذ طفولته الأولى، وتحديداً عام 1943، حين بدأ حفظ القرآن الكريم وتعلم الحساب وجدول الضرب في "الكُتَّاب" على يد شيخ جليل، ليعود إلى بيته في حي "قارلِق" ليكتشف الكتب والمخطوطات التي حوتها مكتبة والده الصغيرة، ومنها ديوان المتنبي المكتوب بخط اليد، الذي صار رفيقه وواظب على قراءة أشعاره من دون أن يفهمها، لكنه كان مقتنعاً بأن ثمة شيئاً سحرياً يسكن كلمات هذا الشاعر.

بعد 3 أعوام دخل المدرسة النظامية في حلب، وبرز فيها طالباً متفوقاً وقارئاً نهماً. وما إن وصل إلى المرحلة الإعدادية حتى كان قرأ "الأغاني"، و"يتيمة الدهر"، وكتب الجاحظ والتوحيدي وروايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس، ورحل في عوالم ابن هانئ الأندلسي وعمر أبو ريشة وشعراء المهجر، حتى إنه قاسم ابن زيدون عشقه لولّادة.  

حب قجة للأدب جعله يدرس اللغة العربية في جامعة حلب منذ عام 1959، وثمة حادثة طريفة جمعته بأستاذه سعيد الأفغاني في الامتحان الشفهي النهائي لمادة "القرآن والحديث"، إذ طلب منه الأفغاني أن يفتح المصحف ويقرأ، وبعد أن أنهى قراءة الصفحة لم يطلب أستاذه منه التوقف، حينها أغلق قجة المصحف، وبنبرة تحدٍّ قال: "إذا كنت تنتظرني لأخطئ فستنتظر طويلاً"، وتابع القراءة من محفوظه، فهلل الأفغاني ومنحه درجة 87، التي لم ينلها أحد قبله، وهكذا يتخرج الأول على دفعته.

وبعدها بدأ حياته المهنية مدرساً للغة العربية في مدرستي "الباب" و"المعري"، ثم أصبح مديراً لثانوية "المأمون"، أشهر مدارس المدينة. ونظراً إلى مكانة تلك المدرسة، أصدر عنها كتاباً توثيقياً بمناسبة مرور 75 عاماً على تأسيسها، مُشبِّهاً إياها بجامعة السوربون الفرنسية بسبب رفعة التعليم فيها وتخريج المتفوقين والمتألقين منها.

في عام 1970، سافر إلى الجزائر مدفوعاً بحماسته القومية لتأدية دوره في حملة التعريب هناك، وبقي فيها 4 أعوام، زار خلالها الأندلس، وحاجّ دليله السياحي الذي كان يشرح أن هذه الأعجوبة المعمارية بنتها أيدي اليهود، ليصحح له قجة بأن العقول والسواعد العربية المسلمة هي من أنجزها.

في الجزائر نال قجة درجة الماجستير في تاريخ الأندلس، التي لطالما عبّر عن إعجابه بأيام عظمتها حينما كانت عاصمةً للفكر والثقافة في العالم، واعترف أكثر من مرة بأنه لو كان سيختار عصراً ما ليعيش فيه، فسيختار عصر قرطبة الأندلسية.

عاد الراحل إلى حلب وفي ذهنه المخاطر التي تحوق بتراث أمتنا وتاريخها الذي يُمحى، وحينها انكب على الدراسة والبحث والتأليف، وأصدر عشرات الكتب والمخطوطات والمقالات. وفي الوقت نفسه، بعد رؤيته كيف تباين وجه مدينة حلب التي سكنتها عائلته منذ أكثر من 600 عام، واختفت أغلبية أحيائها وشوارعها العتيقة، أحس بأن من واجبه الدفاع عن مدينته في وجه الزحف الإسمنتي. وحقق ذلك من خلال إدارته جمعية "العاديات" المعنية بالتراث والمحافظة عليه، ثم عبر كونه الأمين العام لاحتفالية "حلب عاصمة الثقافة الإسلامية"، بحيث أعاد إلى المدينة كثيراً من ألقها ودورها الحضاريين، إقليمياً ودولياً، كما يُحسب له مشروعه إقامة متحف في بيت الشاعر المتنبي، بعد اكتشافه أنه يقع في مكان "المدرسة الصلاحية".

قجة، صاحب الإرث المعرفي الشامل، وضع أكثر من 20 كتاباً تحوّلت إلى مراجع أساسية عن حلب، منها: "الكتاب الذهبي لتوثيق فعالية حلب عاصمة للثقافة"، و"فلسفة العمارة الإسلامية - حلب نموذجاً"، "قلعة حلب صوت من التاريخ"، وكتاب "حلب في كتاباتي وقصائدي"، وتضمَّن تاريخ حلب وحضارتها وعمارتها، إلى جانب وصف عادات أهلها وطقوسهم، وأيضاً الحياة الأدبية لكل كاتب عاش فيها.

كانت حياة قجة حافلة بتسلمه مناصب متعددة، منها ترؤسه جمعية "العاديات" عام 1994، والتي عمل على توسيع نشاطها ونشر فروعها في المدن السورية ورفد مكتبتها بأكثر من 15 ألف عنوان، بالإضافة إلى مئات الأشرطة المسجّلة وأشرطة الفيديو وآلاف الصور والوثائق.

وفي عام 2006 تسلّم منصب الأمين العام لاحتفالية "حلب عاصمة الثقافة الإسلامية". كما عُيّن مستشاراً لمنظمة "اليونيسكو" في سوريا لشؤون التراث اللامادي عام 2010. ونال عضوية "الاتحاد العام للآثاريين العرب"، و"اتحاد الكتّاب العرب"، و"الجمعية السورية لتاريخ العلوم"، و"معهد التراث العلمي العربي" في جامعة حلب، وترأَّس تحرير لجنة السجل الوطني للتراث الثقافي، ورئاسة تحرير مجلة "التراث"، وعضوية لجنة ترميم الجامع الأموي في مدينة حلب.

في حديث خاص إلى "الميادين الثقافية" أوضح صديق الفقيد، الأديب نذير جعفر، أن الحديث عن محمد قجة يطول، وإن كان في الإمكان اختصار مسيرته بلقب فسيكون "قلعة حلب الثقافية"، بكل تراثها وأبوابها وثقافتها ومقاومتها للاحتلالات المتتالية، وخصوصاً أن في جعبته ما يزيد على 40 مؤلفاً في تاريخها وعاداتها من الماضي البعيد وحتى الحاضر، وترك بصمة في حياة حلب كمهتم بآثارها وتراثها، حتى إنه نال جائزة العلامة خير الدين الأسدي الرفيعة لاهتمامه ذاك.

وأضاف جعفر: "كان قجة ذائع الصيت في الدول العربية، ومن أصدقائه في مصر مثلاً نجيب محفوظ وجمال الغيطاني، ونال كثيراً من التكريمات من جهات عربية متعددة، وظل بيته المليء بلوحات أهم الفنانين التشكيليين، مقصداً لكثير من الكتاب والأدباء والفنانين من مثل أدونيس وفاتح المدرّس وطلال حيدر وصباح فخري ويوسف زيدان، وفيه كانت تتم لقاءات ثقافية دورية ونقاشات مديدة بشأن الواقع، ثقافياً وأدبياً وتراثياً".

وختم جعفر حديثه معنا بالقول: "أنا حزينٌ على رحيل صديقي، وحزينة تلك المصادفة التي أخذته منّا في يوم الجلاء الذي شارك في تدوين كثير عنه، وخصوصاً ما يتعلق بالمقاومة الحلبية للمحتلين ضمن كتبه التي ضمت تاريخ حلب وآثارها وعادات ناسها".