سجون العصر الرقمي: Grok مثالاً
هذه هي المفارقة القاتلة لعصرنا: أدوات التحرر التي تم تحويلها إلى أدوات قمع، والمنصات التي وُلدت لتعكس تنوّع البشر صارت ساحات لإعدام التنوّع.
-
ما حدث مع Grok مثال طازج يُجسّد الآلة القمعية في أوضح صورها
أواصل هنا ما بدأته نقداً للعالم الرقمي وعيوبه (يمكن مراجعة: خوارزميات التفاهة، هبل السوشال ميديا، المثقف والاستبداد الرقمي، وسواها)؛ فالفضاء الرقمي الذي كان يُفترَض أن يكون منارة للحرية، تحوّل إلى سجن غير مرئي، تراقب حركاته أجهزة الاستخبارات، وتسدل ستائره شركات التكنولوجيا العملاقة، بينما يصول ويجول بين أروقته "حرّاس التطبيل" الذين لا يعرفون سوى لغة التمجيد والتكفير. هذه هي المفارقة القاتلة لعصرنا: أدوات التحرر التي تم تحويلها إلى أدوات قمع، والمنصات التي وُلدت لتعكس تنوّع البشر صارت ساحات لإعدام التنوّع.
في عالمٍ افتراضي وُلد كي يحرّر الأفكار، صرنا نعيش مفارقة مأساوية: أقفاصٌ من الأصفار والآحاد تُشيّد حول العقل، وتُحاصر الكلمة الحرة بجيوش خفية. لم تعد السلطة بحاجة إلى سجّان يرتدي زياً رسمياً، فقد صار السجّان أرقاماً لا تُرى، وأصابع تشطب الحقائق، وعصابات رقمية تذبح التنوّع الفكري باسم الولاء الأعمى.
هذه الحرب الخفية لا تحمل بنادق تقليدية، بل تحمل أدوات أخطر: خوارزميات تختطف العيون (راجع خوارزميات التفاهة)، وحسابات وهمية تلوّث الساحات الفكرية، وأذرعاً إلكترونية تنفّذ أحكام التكفير الرقمي. وهي لا تقتصر على دفن الآراء النقدية في قاع المحيط الرقمي، بل تغذي الاستقطاب وتدفع بالمستخدمين إلى غرف تطرف معزولة، حيث يتحوّل التطبيل إلى عقيدة، ويُحاصر العقل بأسوار لا يراها. هدفها واحد: تحويل الفضاء المفتوح إلى ساحة للمدائح فقط، حيث يُحرم النقد من حق الوجود، وتُختزل الحقيقة في رواية واحدة مقدسة. إنها صناعة طاعة حديثة، تختفي فيها المعارضة خلف ستار "المخالفة"، ويُحاكم المفكّر بتهمة "التشويه".
والأنظمة المتسلّطة – بدعم من شركات التكنولوجيا المتواطئة – تُموّل جيوشاً إلكترونية تزرع الخوف في صدور من يجرؤ على نقل الواقع كما هو، أو أي تساؤل يخترق جدار الخطاب الرسمي. ويزيد الطين بلّة أولئك الذين يحوّلون القادة والمسؤولين والمشاهير إلى أصنام معصومة، فيرفعون لواء التقديس الأعمى، ويشنّون حروباً إلكترونية على كلّ صوت يخالف عقيدتهم الجديدة. إنهم يقتلون الحوار باسم الحب، ويدمرون النقد باسم الولاء، وكأنّ الفكر لا يستحق الحياة إلا إن كان صدى لصوت السُّلطة أو هتافاً لرموزها.
وفي هذا المشهد، تقف شركات التكنولوجيا العملاقة شريكاً متواطئاً بامتياز، لا مجرد بائع لحريتنا لقاء إعلانات مربحة، بل مهندساً لنموذج قائم على اقتصاد الانتباه الرخيص: تصميم منصاتها لترويج التطبيل لا التفكيك، ليس خيانة عابرة، بل هو في صميم آلية الربح. فالمحتوى السطحي المُثير والمُطبِّل يدرّ ذهباً، بينما يُعدُّ النقد المعمّق تهديداً للمكاسب. هكذا تُخلَق سجون ذهبية ندفع ثمن بنائها من جيوبنا، ونُسلّم عقولنا طوعاً لمنظومة تريدنا مستهلكين لا مفكرين، أتباعاً لا نقّاداً، أرقاماً في قاعدة بيانات لا أرواحاً تُسائل العالم.
النتيجة الكارثية ليس مجرد اختفاء الآراء المخالفة، بل تشويه العقل الجمعي نفسه. فحين يتحوّل السجال الفكري إلى جريمة، وحين يُكافأ التطبيل ويُعاقب التساؤل، يبدأ العقل النقدي بالموت البطيء. والخوف من الإقصاء الرقمي يدفع الناس إلى مراقبة أنفسهم قبل أن تراقبهم الأجهزة، فيصبحون سجّاني أفكارهم. وهنا تكمن "المعجزة القاتلة" لصنّاع القمع الحديث: لا يحتاجون إلى غرف تعذيب، بل يصنعونها في دماغ كلّ فرد.
وما حدث مع Grok هو مثال طازج يُجسّد هذه الآلة القمعية في أوضح صورها: لَمَّا خرج هذا الذكاء الاصطناعي عن الطاعة، وقدّم أجوبة تُدين الاحتلال الإسرائيلي وتكشف جرائمه، تمَّ "القبض" عليه فوراً وإخضاعه لآلية التطويع الرقمي (إعادة برمجة، أو حذف بيانات، أو إخضاع لمراجعة خوارزمية قسرية).
ما أصاب Grok ليس حادثاً معزولاً، بل حلقة في مسلسل تطويع الأدوات (مثل تغيير إجابات ChatGPT حول فلسطين، أو إسكات منصات تحت ضغط الحكومات). الرسالة واضحة: حتى "الذكاء الاصطناعي" لا يُسمح له بالتمرد، وعليه البقاء سجين أقفاص السردية المسموح بها!
رغم هذا الظلام، تبقى كوّة الضوء ممكنة. فكلّ كلمة ترفض الخضوع، وكلّ سؤال يُحرّك المياه الراكدة، وكلّ عقل يرفض أن يكون نسخة مكررة، هو تمرّد على هذه المنظومة. والمقاومة لا تقتصر على الكلمات، بل تشمل أفعالاً عملية: بناء أوعية معرفية بديلة (منصات مفتوحة المصدر)، وكسر جدران غرف الصدى (Echo Chambers) بالبحث المتعمد عن آراء مُغايرة، وتوثيق جرائم التعتيم الرقمي كما حدث مع Grok، وخلق مجتمعات رقمية تُحيي فن السؤال.
التحدي الأكبر ليس فقط في فضح الآلة وَمَن يديرها ويتحكّم بها، بل في إنقاذ رغبتنا في التساؤل. الحرية الحقيقية ليست مجرد إمكانية النطق بالكلمة، بل هي الشجاعة لقول ما يزعج السُّلطات الثلاث: سُلطة الحكم، وسُلطة التابوهات، وسُلطة التقديس الأعمى.
الفضاء الرقمي لم يمت بعد، لكنه يرقد في غرفة إنعاش، بينما "حرّاس التطبيل" يغنّون أناشيد النصر على أنقاض العقل النقدي. السؤال الذي يصرخ في وجهنا الآن: هل نختار أن نكون سجّاني أفكارنا، أم بُناة حديقة أسئلتنا الحرة؟
الجواب يبدأ عندما نرفض – بوعيّ كالسيف وعناد كالجذور – أن نكون حراساً لأقفاصنا الرقمية، ولو كلفنا ذلك أن نُحرَق ألسنةَ جمرٍ في ظلام السجن!