ظلٌّ كثيرُ الضوء (*)

الزهد والتقشّف اللذان طبعا سيرة حسن العبد الله، جعلا علاقته بالظلّ علاقةً راسخةً، توارى خلف قصيدته وكلمته، لكنه بمقدار ما توارى خلفها جعلتْه قصيدته أكثر حضوراً، مثلما يفعل الآن وهو يجمعنا غائباً في حضرة خيرات الشّعر والمودة والوفاء.

يقول جلال الدين الرومي إنّ بحّة النايّ الشجيّة تعبّر عن حنينه الدائم إلى أمّه نبتة القصب التي جرى اقتلاعه منها. 

الشاعر اللبناني حسن عبد الله (1943 - 2022) هو الناي، الخيام نبتة القصب، الجنوب سهل القصب، والقصائد نوتات حسن وأنغامه. قصيدته "ذلك الزمن" في كتابه الجديد الصادر بعد رحيله خير دليل على مدى حنينيه إلى زمن مضى.

الماء الحاضر دوماً في شعره يختزل حنينه إلى الدردارة والخيام والجنوب. والماء لا يحضر هنا بمعناه الطبيعيّ فقط، بل أيضاً بمعناه المجازيّ. جملته مائية، عذبة، سلسة، منسابة برفق ونعومة، لكنها متى شاءت قادرة على اقتلاع كلّ ما يعترض طريقها.

أما الطبيعة الريفية التي سكنها يوماً، فقد سكنتْه دوماً، يتجلّى ذلك في شعره ولوحاته على السواء. بالنسبة إليه "الطبيعة ترسل خدماتٍ مجانيّةً إلى البيوت"، وأيضاً إلى الحواس بوصفها ملهمةً أولى، لا تنافسها في ذلك سوى المرأة التي لم تغب يوماً عن قصيدته، وظلتْ عنده كثيرةً، أكثر من حياة كاملة، وهو القائل: "الحياة قليلةٌ، الحياة أقلّ منّ امرأتين".

حسن عبد الله أمينٌ للأمكنة، وفيٌّ لها، هذا ما تقوله الدردارة وقصيدة صيدا، وحضور الخيام الدائم في قصائده.

حنينه إلى الماضي لا يعني أبداً أنه منسلخ عن الحاضر، أو عن الواقع. على العكس تماماً هو مشغول حتى آخر رمق حبرٍ بالحرب وما جرّته من ويلات، وبراهن الحال اللبنانيّ البائس. "لبناني؟ إلى متى سأظلّ مرتدياً هذه الصفة كثوبٍ ممزّق".

والأهم بالنسبة لي هو ثبات شاعر "أجمل الأمهات" على موقفه من قوى الهيمنة الاستعمارية، ومن حقّ الشعوب في مقاومة الاحتلال، انطلاقاً من انتمائه العميق إلى مسقط الرأس والوعيّ الأول، ومن رؤيته المستشرفة لما سوف يحدث بوصفه أحد الذين اختبروا معنى الاحتلال الذي هجّره بعيداً من ملاعب طفولته وفتوته، وينسحب موقفه هذا على كلّ ظلم واضطهاد ترتكبه القوى الاستعمارية في حقّ بلادنا وأوطاننا. يقول: "إلى دول الغرب الفالتة في بلادنا كوحوش في البريّة: لماذا لا تخافون منا؟"، وهذا ما يمكن أن نسمّيه سؤال العارف الذي يضمر إجابته في علامة استفهامه. وهنا لا يمكنني نسيان موقفه الصارم الرافض للغزو الأميركي/الأوروبي للعراق، واستشعاره مسبقاً للويلات التي جرّها على المنطقة كلّها.

لا يستقيم كلامٌ عن حسن عبد الله من دون التوقّف عند مقدرته على تحويل الكلام اليوميّ المباشر إلى شعر ساحر وساخر في آنٍ واحد، إذ يمكنه أن يقول موقفاً عميقاً من العالم والوجود بنصّ قصير أشبه بنكتة: "يمكن القول بالنسبة إليّ إن أهم ما حدث في القرن العشرين هو مجيئي إلى هذا العالم، وأهم ما سيحدث في القرن الحالي هو رحيلي عن هذا العالم. وبين هذا وذاك يا لها من فوضى".

للوهلة الأولى تبدو هذه العبارات نوعاً من النرجسية التي تصيب الشعراء والأدباء عادةً، لكنها في الواقع نوع من السخرية السوداء المرّة والمريرة، سخرية من الذات المتعبة المرهقة، وسخرية من هذا العالم الغارق في فوضى الحروب والنزاعات ومصالح القوى العظمى.

أما احترافه الكتابة للأطفال، أو إصراره على الكتابة للأطفال فهو برهانٌ على تمسّكه بالطفل الذي في داخله، وبروح الطفولة العذبة، وبدهشتها الولّادة حين اكتشاف كلّ جديد. كأنه لا يريد أن يكبر، محاولاً أن "يتخبّى من درب الأعمار" كما قال الرحابنة وفيروز. يقول في "ظلّ الظلّ": "الرجل الكبير طفلٌ منحرف".

أفهم الانحراف هنا بمعنى الإصرار على التمسّك بالطفولة مهما تقدّم العمر بنا، وعدم التخلّي عن دهشتها وفضولها المحرّض على اكتشاف ذلك الجديد الذي أشرنا إليه. لأننا حين نكفّ عن الطفولة، نكفّ عن التجدّد.

كان حسن زاهداً في كثير من الأمور التي نسعى جميعاً إليها، أو نلهث وراءها. دائماً يؤجّل، وكأنّه يملك الوقت كلّه. وهذا أيضاً دليل طفولة راسخة. أكثر الناس شعوراً أو اعتقاداً بأنّ الوقت ملك أيديهم وطوع بنانهم هم الأطفال. فالزمن أبطأ حين نكون صغاراً، وحسن الشاعر الطفل كان يعتقد أنّ الزمن ملكٌ له، لذا كان يؤجّل أموراً كثيرة مهمة مثلما يؤجّل التلميذ المدرسي واجباته المدرسية.

يقول في "ظلّ الظلّ"(ص17): "لم يزعجني عملٌ في حياتي مثل ذلك العمل الذي لا أستطيع أن أؤجّله إلى الغد".

الزهد والتقشّف اللذان طبعا سيرته، جعلا علاقته بالظلّ علاقةً راسخةً، توارى خلف قصيدته وكلمته، لكنه بمقدار ما توارى خلفها جعلتْه قصيدته أكثر حضوراً، مثلما يفعل الآن وهو يجمعنا غائباً في حضرة خيرات الشّعر والمودة والوفاء.

كثيرةٌ المداخل إلى حضرة شاعر "من أين أدخل في الوطن"، ومنها المدخل الوجوديّ حيث نقرأ في نصوص الديوان الأخير(خصوصاً) كثيراً من نظرته الوجودية، ومن علاقته الشائكة مع الحياة التي كانت بالنسبة إليه" مدهشةً ومسليةً وممتعةً أحياناً ومؤلمة أحياناً أخرى ولينة وقاسية ومخيفةً ومؤنسةً، لكن الأهمّ من ذلك هو أنها كانت مضحكةً على الدوام". كأنّه يتداوى بالضحك من مأساة الحياة التي قيل في من يأتيها "اللي خلق علق".

كما نقرأ في نصوص "ظلّ الظلّ" ملامح خافتةً وشحيحةً من تجربته مع المرض العضال الذي أصابه في سنواته الأخيرة "قلبي معتمٌ، أفكاري معتمةٌ، يداي معتمتان، تدخل الشمس إلى غرفتي، لكن لا يدخل جبل حرمون"، إنه يحتاج ضوء البياض، بياض الثلج، بياض الحياة وبياض القلب والسريرة. 

يرحل عنا حسن عبد الله لكنه يبقى معنا إلى الأبد ظلاً أكثر سطوعاً من ضوء.

(*) تزامناً مع الذكرى السنوية الثانية لرحيل الشاعر اللبناني حسن عبد الله، وصدور ديوانه الجديد "ظلّ الظلّ" (دار الرافدين) أقيمت لدى ملتقى خيرات الثقافي في محلة قريطم بيروت أمسية تكريمية لذكرى شاعر "أجمل الأمهات" المغناة بصوت الفنان مرسيل خليفة.