علاقة إشكالية.. لماذا نُخضع الأدب للتحليل النفسي؟

هل يمكن إخضاع النصّ الأدبيّ وكاتبه للتحليل النفسيّ؟ وماذا عن علاقة القارئ بالنصّ الأدبيّ أيضاً؟

إنّ صلة علم النفس بالأدب والنقد ممتدة جذورها في التراث الإنساني، ولا سيما تلك التي تربط الأدب بصاحبه. يمكن استشفاف هذه الصلة عند أفلاطون وأرسطو ومن سار على نهجهما من فلاسفة ونقّاد وعلماء نفس لاحقاً، إلا أنّ العلاقة الإشكالية بين الأدب والتحليل النفسي بدأت تتأسس منذ القرن الــ 19، وشهدت على امتداد أكثر من 100 عام، تطوّرات مهمة وتحوّلات نوعية وولدت أسئلة وإشكاليات جديدة.

من هذه الإشكاليات وجود عشرات المصطلحات التي تعنى بالربط بين الأدب وعلم النفس، ويميّزها كتاب "دليل الناقد الأدبي" (سعد البازعي وميجان الرويلي - المركز الثقافي العربي - 1995)، وبين سيكولوجية الأدب والنقد النفسي والتحليل النفسي للنص والقراءة النفسية له، على النحو الآتي:

سيكولوجية الأدب هي مجال يبحث في طبيعة العلاقة بين مضمون الأثر الأدبي وعالم النفس اللاشعوريّ عند الكاتب. ظهر في البداية على يد فرويد وأتباعه في أواخر القرن الــ 19، ويُعَدّ هذا الاتجاه الأثر الأدبي وثيقة معرفية، كالمذكّرات الخاصة التي تكشف خبايا العالم النفسي للكاتب.

أما النقد النفسي فأحد اتجاهات النقد الحديث، وهدفه أن يحلّل لغة النص الأدبي، ليصل إلى مخبّآت النفس اللاشعورية للكاتب عن طريق دراسة شبكة الاستعارات والصور البلاغية المضمرة في بنية العمل الأدبي. يجمع هذا الاتجاه بين الأسس النفسية والأسس النقدية، ليقف على حقيقة منطق اللاشعور من خلال لغة النص ولغة اللاشعور. 

أما التحليل النفسي للنص، فهو الكشف عن عناصر التداعي الحرّ في المسوّدات لمحاولة تأويل الظواهر اللاواعية في مرحلة ما قبل النص. يعتمد الناقد في هذا الصدد على قراءة مقننة لعناصر النص تشبه عملية القراءة النفسية، ويرفض مفهومي الكاتب والأسطورة الشخصية، ويستعين بمفهوم لاوعي المكتوب، بينما القراءة النفسية للنص هي دراسة العمل الأدبي في ضوء قراءة تعتمد على أسس العلوم الإنسانية بصورة عامة، وعلم النفس بصورة خاصة، وأسس النص الأدبي، لتحاول دراسة العلاقات القائمة بين البنى الشعورية والبنى اللاشعورية الكامنة في بنية النص. 

في الطرف الآخر، فإن النقد التحليلي - النفسي هو نقد تأويلي، بمعنى: التحليل النفسي يساوي تحليل النفس، كقولنا: تحليل النص. وسوف تظهر مصطلحات جديدة تحدّد خصوصية هذا الإجراء مثل: نقد نفسي، تحليل نفسي سيميائي،  تحليل نفسي نصي، قراءة نفسية... إلخ.

فرويد: التحليل النفسي والأدب 

يقول صلاح فضل، في كتابه "مناهج النقد المعاصر"، إنّ للمنهج النفسي في النقد الأدبي جذوراً بعيدة تتمثّل بتلك المراحل التي لم تكن قد تبلورت فيها بصورة منهجية، إنّما كانت تظهر دائماً كملاحظات على بعض ظواهر الإبداع. يمكننا - مثلاً – أن نجد في نظريّات أفلاطون عن أثر الشعراء على منظومات القيم والحياة في مدينته الفاضلة، بدايةً لهذا الالتفات العميق للجانب النفسي في بعث فلسفة الأدب ووظائفه. كما يمكننا أن نلاحظ أنّ نظريّة التطهير عند أرسطو تربط الإبداع الأدبي بوظائفه النفسيّة.

على الرغم من ذلك، فالمنهج النفسي بدأ بصورة علمية منظّمة مع بداية علم النفس ذاته في نهاية القرن الــ 19 بصدور مؤلّفات فرويد في التحليل النفسي وتأسيسه علم النفس، واستعان في هذا التأسيس بدراسة ظواهر الإبداع في الأدب والفن كتجلّيات للظواهر النفسيّة. من هنا يمكن عدّ ما قبل فرويد من قبيل الملاحظات العامّة التي لا تؤسّس منهجاً نفسياً بقدر ما تُعَدّ إرهاصاً له، لكن المنهج ذاته يبدأ مع تكوّن علم النفس، أو علم التحليل النفسي عند سيغموند فرويد.

كانت النقطة التي انطلق منها فرويد في هذا الصدد تتمثّل بتمييزه بين الشعور واللاشعور، بين الوعي واللاوعي، واعتبار اللاوعي أو اللاشعور هو المخزن الخلفي غير الظاهر للشخصيّات الإنسانيّة.

وكان اهتمامه منصبّاً – في الدرجة الأولى – على تفسير الأحلام كونها النافذة التي يطلّ منها اللاشعور، وكونها الطريقة التي تعبّر بها الشخصيّة عن ذاتها، وتلتفّ حول قوانين الكبت والمنع الاجتماعيّين. وكان التناظر بين الأحلام من ناحية والفن والأدب من ناحية ثانية، مغرياً لعدّ الفن مظهراً آخر من مظاهر تجلّي العوامل الخفيّة في الشخصيّة الإنسانيّة.

والحلم عند فرويد يعمد إلى تكثيف الظواهر المبسوطة بصورة بالغة، ثمّ يقوم بنقلها من مجال حسّي إلى مجال حسّي آخر، ويستخدم في ذلك رموزاً متعدّدة. وأدرك فرويد وتلامذته أنّ هذه القوانين المتمثّلة بالتكثيف والإزاحة والرمز، هي التي تحكم أيضاً طبيعة الأعمال الفنيّة والأدبيّة على وجه الخصوص. إذاً، فالأدب والفن يعبّران عن اللاوعي الفردي، كما الحلم. 

لجأ فرويد إلى تاريخ الأدب فاستمدّ منه كثيراً من مقولاته ومصطلحاته، مثل عقدة أوديب وغيرها، وكان التحليل النفسي عند فرويد يهتمّ بالمبدع أي الأديب نفسه، ويربط بين إنتاجه من ناحية، وتاريخه الشخصي من ناحية أخرى؛ هذا التاريخ الذي يتمثّل بمجموعة الخبرات المتراكمة لديه منذ الطفولة الباكرة.

استعان فرويد بالأدب منذ بدايات النظرية الأولى، إذ لم يكفّ منذ عام 1897 عن ربط قراءته لمسرحية "أوديب ملكاً" للمسرحي الإغريقي سوفوكليس، ومسرحية "هاملت" لشكسبير بتحليل حالات مرضاه وبتحليله الذاتي لنفسه بغية إنشاء واحد من مفاهيمه الأساسية، وهو "عقدة أوديب".

في كتابه "التحليل النفسي والفن، دافنشي ودوستويفسكي"، يحاول فرويد قراءة شخصية الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي من خلال روايته "الأخوة كارامازوف" وأعمال أخرى. وتشير بعض المراجع إلى أنّ فرويد قال ذات مرة أيضاً إنّ "دوستويفسكي هو أول إنسان أعطانا فكرة عن الناس الذين هم نحن".

ما بعد فرويد

لاحقاً، تباين علماء النفس أمثال كارل يونغ وكارن هورني مع فرويد، وأدّى عمل يونغ في التحليل النفسي إلى استكشاف فروع أكثر غنىً من النقد النفسي، بينما أخذت طرائق هورني التحليليّة منحىً نسويّاً، على سبيل المثال نظريّتها "حسد الرحم"، وفي هذه النظرية تشير إلى حسد الذكور للوظائف البيولوجيّة للأنثى، مثل الحمل والإنجاب والإرضاع. 

واتّجه يونغ إلى دراسة الأنماط الأوليّة واللاوعي الجمعي. وكان عمل يونغ مؤثّراً، مضافاً إلى عمل الأنثروبولوجيّين كلود ليفي شتراوس وجوزيف كامبل، وقاد إلى اكتشاف حقلين نقديّين جديدين هما: النقد الأسطوري وتحليل الطرز الأوليّة.  

أما المحلّل النفسي الفرنسي، جاك لاكان، فلُقّب بأكثر المحلّلين النفسيّين إثارة للجدل بعد فرويد. وكان لاكان قارئاً متعطّشاً إلى الأدب، واستخدم أمثلة من أعمال أدبيّة في عمله في التحليل النفسي. شجّعت نظريّات لاكان على قيام أسلوبٍ في النقد النفسي لا يركّز على الكاتب، وإنّما على العمليّة اللسانيّة للنص، وضمن هذا التوكيد اللاكاني، أصبحت نظريّات فرويد أساساً لطرح أسئلة تتعلّق بالتفسير، والخطابة، وأسلوب الكتابة.

لكنّ الباحثين اللاكانيّين يشيرون إلى أن لاكان لم يكن مهتمّاً بالنقد الأدبي في حدّ ذاته، وإنّما بقدرة الأدب على تمثيل مفهوم أو أسلوبٍ نفسيّ تحليلي.

في الطرف الآخر، يندرج عمل نورمان هولاند تحت الاستخدامات النقديّة الحديثة للنقد النفسي، فيما يسمّى "استجابة القارئ"، ويركّز هولاند في عمله على العلاقة بين القارئ والنص، ويقترح أنّنا جميعاً نقرأ الأدب بشكلٍ انتقائي، ونسقط رغباتنا على نحوٍ لاواعٍ على انتقائنا للأدب. مثلاً: عندما يختار القارئ قراءة أدب الجريمة هذا يدلّ على تجسيدٍ للعدائيّة الكامنة التي يكنّها القارئ لأحد أبويه.

أما مُنشئ النقد النفسي، وهو شارل مورون، فاستبعد أن يكون الأديب أو الفنّان إنساناً عصابيّاً، أو أن يكون أدبه كشفاً عن أمراضه، علماً بأنّه لم يهمل بعض فرضيّات التحليل النفسي في تناوله شخصيّة الأديب وعمله الأدبي.

وشهد الربع الأخير من القرن الماضي وأعوام الألفية الجديدة إثراءً جديداً واستثنائياً للنقد النفسي، عبر استكشاف حقول جديدة للدرس والنقد أهمها: التكوين النصي وما قبل النص – التحليل النصي ولاوعي النص – تطبيق الأدب على التحليل النفسي، وفقاً لحسن المودن في كتاب "الأدب والتحليل النفسي"، وهو مترجم كتاب جان بيلمان نويل "التحليل النفسي والأدب" (المشروع القومي للترجمة - مصر).

بالإضافة إلى صدور مؤلفات نقدية، نظرية وتطبيقية، بأسئلة وإشكالات تتجاوز تلك التي حكمت مؤلفات النقد النفسي التقليدي، يمكن أن نذكر من أبرز الأسماء في النقد النفسي الجديد: جان بيلمان نويل، أندري غرين، جان بيم، بيرنار بانغو، بول لوران أسون، فيليب ويلمارت، والناقد الفرنسي والمحلل النفسي بيير بيار، الذي أصدر عام 2004 عملاً يقترح فيه، بغير قليل من السخرية، نظرية جديدة، تتلخّص في عنوان كتابه: "هل يمكن تطبيق الأدب على التحليل النفسي؟".