غادة السمّان... متى تفرج عن أرشيفها السّري؟
لا نعرف شيئاً عن غادة السمّان خارج نصوصها. ماذا قالوا عن علاقتها بغسان كنفاني وأنسي الحاج؟ وهل تفرج عن أرشيفها غير المنشور؟
ما إن يحضر اسم السورية، غادة السمان (1942)، حتى تهبّ رائحة ياسمين دمشق من سطور كتبها، المدينة التي غادرتها في منتصف ستينيات القرن الماضي إثر مضايقات أمنية، مكتفية بوعودٍ مؤجلة بزيارة مسقط الرأس، فنحن نكاد لا نعرفها اليوم خارج نصوصها. إذ يستحيل أن نشاهدها في مقابلة تلفزيونية أو في صورة شخصية حديثة!
هكذا بقيت صاحبة "أعلنت عليك الحب" أسيرة صورها القديمة بصحبة طائر البوم الذي يمثّل شعاراً لدار النشر التي تحمل اسمها، لكننا في المقابل يصعب أن نتجاهل الكاتبة المتمرّدة التي هدمت الأسوار العالية كسلوك لغوي أو حياتي.
ففي بيروت الستينيات، المدينة التي أسهمت في تكوين وعيها، أعلنت تمرّدها الحقيقي، وناوشت بمقالاتها الصحافية كل المناطق المحرّمة على أنثى مثلها، وعاشت قصص حب عاصفة من دون تردد أو مواربة. الأمر الذي أربك الجميع من حولها، وهي تميط اللثام عن أقنعة كثيراً ما كانت ترفضها في كتاباتها وحياتها: امتطت الدراجة النارية "فيسبا" في شوارع بيروت، واقتحمت مقاهي المثقفين والملاهي الليلية كأي فتاة حرّة تعيش زمن "الروك" جسداً وروحاً، وإذا بها سيمون دو بوفوار أخرى، تتحدّى محيطها لتعيش قناعاتها وفلسفتها في الضياع والاغتراب والحرية والفوضى والقلق الوجودي.
في قصائدها، شحنة أخرى من البوح العالي، وأمواج الأنوثة المتفجرة والعري اللغوي، والنرجسية المفرطة: "أنا المرأة التي غرّبتها المراكب، وخذلتها حين لم يبقَ لها من الأشرعة غير جناحيها، تعلّمتْ كيف تتحوّل من امرأة إلى نورس".
رعشة الحرية
-
لو كان أنسي الحاج يعتبر رسائله إلى غادة السمان نصوصاً أدبية لنشر بعضها لكنه يعلم أنها مجرد انفعالات رفع فيها من منسوب تصوّره لمعشوقته
هكذا عاشت السمان الحياة كتجربة للكتابة، وهي تعلم أنّها في كل علاقة مع رجل ستخرج خاسرة، وبجرح سيكون سبباً للبوح مرّة أخرى على الورق. ولعل هذا الشغف العارم بالحياة هو ما أشار إليه غالي شكري في كتابه "غادة السمّان بلا أجنحة" (1980)، فهو يكتب: "كما لو كانت في حالة تقمص دائمة، تحيا أكثر من حياة في اللحظة الواحدة. الحلم في حياتها ليس شريطاً سحرياً تديره مخيلتها أثناء النوم".
ستكشف السمان لاحقاً عن علاقتها بالكاتب الفلسطيني الشهيد، غسان كنفاني، وذلك بنشر رسائله إليها، ما أثار ضجة وسجالات في الأوساط الثقافية العربية تتعلّق بتشويه صورة المناضل ورفض صورته كعاشق، لكنها لم تكترث بما طالها من اتهامات. إذ أتبعتها بعد سنوات برسائل الشاعر اللبناني الراحل، أنسي الحاج، إليها.
اللافت أن هذه الرسائل تعتني بغادة الأنثى المشتهاة، لا الكاتبة المتمرّدة، وهو ما ينفي الحضور الأدبي لقيمة هذه الرسائل المغرقة بالحسيّة والشهوة.
-
محمد العباس: إصرار السمان على إعلان أسماء من أغرموا بها يؤكد حاجة شخصية ملّحة يمكن اختصارها في توهمها بأنها ما زالت تعيش (رعشة الحرية)
يشير الناقد محمد العباس إلى أن "هذا الإصرار على إعلان أسماء من أُغرموا بها يؤكد حاجة شخصية ملحّة، يمكن اختصارها في توهمها بأنها ما زالت تعيش (رعشة الحرية) بأقصى امتداداتها الذاتية، إذ لا علاقة لها بفكرة نشر الرسائل كنصوص أدبية. وهو المبرر الذي اتكأت عليه في الحالتين. ولو كان أنسي الحاج يعتبرها نصوصاً أدبية لنشر بعضها، بعد تنقيحها، ولكنه يعلم أنها مجرد انفعالات رفع فيها من منسوب تصوّره لمعشوقته إلى مستوى المثال. ولذلك جاءت مزدحمة بالأفكار والكلمات المجرّدة للالتفاف على فكرة إعلان رغباته الحسّية الصريحة".
من جهتها بررت صاحبة "الحب من الوريد إلى الوريد" نشر هذه الرسائل بقولها: "أنا متمردة على القوالب الجاهزة التقليدية المثقلة بالمحرمات و(التابو) في أدبنا العربي، وأحاول المساهمة في إدخال اللون الناقص في لوحته (أي أدب الاعتراف) بأنماطه كافة: الحميم من الرسائل، المذكرات وسواهما، الشائعة في آداب الغرب، والذي نفتقر إليه مقصرين بذلك عن أجدادنا التراثيين الذين لم تقم قيامتهم حين تغزّلتْ جدتي ولّادة بنت المستكفي بالحبيب الشاعر ابن زيدون وتغزّل بها حتى الثمالة والجنون".
بانتظار الأرشيف السّري
-
تنفي سمر يزبك الفكرة التي تقول إنّ غادة السمان حبيسة صورتها عن نفسها
لكن مهلاً، هناك أرشيف غادة السمان غير المنشور والذي أودعته في أحد البنوك السويسرية، ويضم رسائل إضافية يتوقّع أن تكشف عن علاقات غرامية مع شخصيات أدبية أخرى، لم تكشف عنها بعد.
في هذا السياق، لن نتوه عن خطوات غادة السمان أو "زين الخيّال" في روايتها "الرواية المستحيلة - فسيفساء دمشقية"، وهي تستعيد شوارع دمشق في ستينيات القرن العشرين بعيني غادة السمّان نفسها.
ذلك أنّ كل وقائع الرواية تشي بسيرتها كأنثى متمرّدة وعاشقة للحرية في مجتمع يحيط رغبات المرأة داخل أقفاص الممنوع، لكنها ستحطّم الحجارة الصلدة للأعراف، وتتزوج مَن تحب، قبل أن تطلب منه الطلاق بقوة الإرادة نفسها.
استعادة أمس المدينة بمسح طوبوغرافي هي السكة الموازية لسيرة كاتبة وجدت نفسها محاصرة في "زقاق الياسمين"، فكان عليها أن تهرب بعيداً عن الهواء المعلّب بعد عملية إجهاض.
قبل مغادرتها دمشق إلى بيروت للدراسة في الجامعة الأميركية، ستتعرّف إلى "غزوان العائد" الفلسطيني الذي عشقها من النظرة الأولى، على مقعد في "حديقة السبكي" وسط دمشق. لن نحتاج إلى فحص عميق في معرفة هويّة هذا العاشق، إنه غسان كنفاني ولا أحد سواه. ستتطوّر هذه العلاقة في بيروت إلى حدود الجنون. وإذا ببيروت تفتح ذراعيها على اتساعهما لهذين العاشقين. يعترف في إحدى رسائله قائلاً: "هذه المرة سأمضي وأنا أعرف أنني أحبك وسأظل أنزف كلما هبت الريح .. على الأشياء العزيزة التي بنيناها معاً".
تلجأ غادة السمّان في هذه الرواية إلى سردية متعددة الأصوات في إعادة ترميم سيرتها ما بين دمشق وبيروت. إذ تدخل الكاتبة على خط الأنثى في تفسير "مذاق الحريّة"، وترويض الحنين إلى مدينتها الأولى، رغم مكابداتها ومطاردتها من سلطة أمنيّة دمغت سجلّها باتهامات باطلة.
عند هذا المنعطف، تتسع فتحة العدسة لتضيء على أحوال دمشق في ظل الانقلابات العسكرية، في موازاة جرحها الشخصي بوصفها "ليمونة معصورة"، كأن هذه الرواية محاولة في الكتابة والمحو، بقصد تصحيح أخطاء الماضي، وإزاحة الشوائب عن فكرة "الحق في الحب والحياة" سلوكاً ومجازاً.
-
في روايتها "الرواية المستحيلة - فسيفساء دمشقية" تستعيد السمان شوارع دمشق في ستينيات القرن العشرين
كانت "زين الخيّال" لا تتردد في اقتحام "مقهى الهافانا" الذكوري، وتقود سيارتها في شوارع دمشق، وتُصلح عجلاتها المثقوبة، وتكتب بجرأة في الصحف. لن تغيب دمشق البعيدة عن ذاكرة الكاتبة، فهي تستحضرها بطقوسها وبخورها وآثامها.
تعترف بأنها لا تمتلك "مناعة ضد الحنين". ذلك أن دمشق بالنسبة إليها ستبقى على الدوام: "لقاحاً ضد النسيان".
في كتاب "غادة السمان: المهنة كاتبة متمرّدة"، حاولت سمر يزبك مقابلة صاحبة "ختم الذاكرة بالشمع الأحمر" من دون جدوى: وعود على الهاتف وفاكسات متبادلة، انتهت أخيراً بإنجاز الكتاب بعيداً عن صاحبته.
تنفي سمر يزبك الفكرة التي تقول إنّ غادة السمان حبيسة صورتها عن نفسها: "أعتقد بأننا نختبئ من البشاعة داخل مكان خاص لعيشنا، وغادة تختبئ داخل مكانها الخاص بالعيش، وهو مكان متوحش، وبرّي فعلاً، يشبه روحها، لا يطاوعها دائماً، لكنّه يسمح لها بالاعتقاد بفعل الحرية، ربما هي وحيدة ولا تحتاج الآن إلا إلى ملعبها البري: نصها".
-
غادة السمّان: أنا متمردة على القوالب الجاهزة التقليدية المثقلة بالمحرمات في أدبنا العربي وأحاول المساهمة في إدخال اللون الناقص في لوحته (أي أدب الاعتراف)
هكذا، اقترنت التجربة الحياتية لصاحبة "عاشقة في محبرة" بالنص لتدخل المناطق المحرّمة، وهي بذلك رائدة الكاتبات العربيات في اقتحام قاموس الجرأة لإعلان حريتها القصوى في مجتمع ذكوري لا يستسلم بسهولة لحبر أنثوي طليق... كأن هذه الكاتبة "تكتب بالسكين مثلما يفعل رسام قلق ومجنون".
والآن، هل ستعود غادة السمّان إلى دمشق وتستعيد رائحة ياسمينها وبخورها أم ستكتفي باستعادتها على الورق، من مكان إقامتها في باريس؟
