فيروز بعد العزاء

أفكّر في فيروز الآن، بعد أن غادرها المعزّون، أفكّر بنهاد حداد الأم (لا بفيروز النجمة الساطعة) التي رعت طفلاً منذ نعومة أظفاره، فحمته في عالم لا يرحم المختلف.

  • فيروز بعد العزاء
    فيروز بعد العزاء

ها هي مراسم العزاء قد انقضت، انصرف المعزّون، تفرّقت الجموع، عاد "النجوم" إلى يومياتهم المعتادة، وغاب الصخب عن قاعة العزاء، ولم يبقَ إلا الصمت الثقيل يحوم في الفراغ. في قلب هذا الصمت، تقف نهاد حداد تلك التي صاغها القدر لتكون فيروز، جوهرة لبنان المتألقة، والنجمة الوحيدة التي اجتمعت تحت سمائها قلوبٌ لم تجتمع على سواها.  

أفكّر بها الآن، بعد أن غادرها المعزّون، أفكّر بنهاد حداد الأم (لا بفيروز النجمة الساطعة) التي رعت طفلاً منذ نعومة أظفاره، فحمته في عالم لا يرحم المختلف. والزوجة التي سارت خلف أضواء المجد، تحمل في صدرها هموماً لا تُرى، حتى فقدت رفيق دربها الذي عاشت معه وهج النجاح ومتاعب الحياة الزوجية. ثمّ الأم، مرةً أخرى، التي ودّعت ليال في ريعان الصبا، وكأنما القدر يختبر صبرها اختباراً مريراً. واليوم، ها هو ينتزع منها زياد الرحباني، الابن الاستثنائي الذي ملأ الدنيا موسيقى تلامس الروح، ومسرحاً يقلب الوعي رأساً على عقب، وأغنياتٍ تُنقش على جدار الوجدان. 

ماذا تفعل الآن، وقد خلا بها الوجع؟ هل تنكسر تلك اليدان اللتان كفكفتا دموع الملايين؟ هل تطلق العنان لبحر أحزانها، بعد أن صمدت كالجبال أمام أعين العالم؟ أيّ ذكرياتٍ تعبرها في عزلتها؟ ذكريات عن امرأةٍ لم تبع قضيةً، ولم تمدح ظالماً، بل غنّت للحبّ، للجنوب، للأرض المغتصبة، لكلّ عاشقٍ تحت سماء العرب. صوتٌ حوّل الألم إلى نشيد، والوطن إلى حُلمٍ يُرتّل.  

وما اجتماع اللبنانيين حولها في لحظات حزنها النبيل إلا دليلٌ ساطع بأنّ الفن ليس ترفاً يُستغنى عنه، بل هو نبضٌ في عروق الوجود. مجتمعاتٌ تهمل الفنّ تموت روحها، وتغرق في أزماتها. فما قدّمته فيروز على مدار عمرٍ من وهجٍ لم يكن مجرّد كلماتٍ تُغنّى، بل كان نقشاً على جدار الوعي، وبِناءً لِقيَم الحريّة والعدالة والمقاومة. ولم يكن صوتها حاملاً للألحان فحسب، بل شريكاً في صياغتها، كإيمان صاحبته الراسخ، في دربٍ لم تكن معبّدة بالورود، بل كانت أشواكها كثيرةً وقاسية. مثلما كان عزاءً لنا في زمن الموت والفقدان.

وفي غمرة هذا الفقدان، تبقى هالة من حنان وحزن عميقَين تُحيط بها: ريما، ابنتها الصامدة كحارسةٍ دهريّةٍ تذكّرنا بأنّ الأم العظيمة لم تفقد كلّ أغصان شجرتها. لعلها الآن إلى جوار هلي الابن الذي يحتاج إلى حضنٍ لا ينقطع، ورعايةٍ تُذكّرنا بأنّ الحياة تُعطي بيدٍ وتأخذ بالأخرى، وأنّ فيروز، رغم كلّ شيء، تظلُّ أمّاً قبل أن تكون أيقونة.  

فيا من سكنتِ قلوبنا، دعمكِ ليس وقفة عزاءٍ عابرة. إنه رحلةُ صمتٍ حانٍ، ويدٌ تمتدُّ إليكِ حين يهدأ الضجيج. ففي بلادٍ تُصاب بمرض فقدان الذاكرة، يبقى المبدعون حرّاساً للأحلام والتضحيات، يزرعون كلماتهم وروداً على قبور الشهداء، وينحتون في صخر النسيان ذكرى لا تُمحى. لنحفظ تراث زياد الرحباني معاً، ولنكن سنداً لفيروز ليس بالكلمات وحدها، بل بالأفعال التي تليق بقدْر من قدّموا للوجود جمالاً ومقاومةً في آن.  

ولعل أجمل أشكال الوفاء أن نشكّل مجموعة ضغط كي يُجمع إرثه الإبداعي في أرشيفٍ عصريٍّ يليق بعظمته، يحفظ مسرحياته، ألحانه، ونصوصه الساخرة التي كشفت آفات مجتمع مأزوم. وأن ننقش اسمه على شارعٍ في "الحمرا"، المنطقة التي عشق دروبها وتنفّس هواء أحلامها، وقدّم عروضه على خشبة مسرحها، وعزف في حاناتها وغنّى؛ فهو أحقّ بكثير من رجال الاستعمار الذين لا تزال شوارعنا تحمل أسماءهم في مفارقة عجيبة!

فنور فيروز، أطال الله في عمرها، وزياد لن ينطفئ، بل يظلّ نجماً في سماء الوجدان، يُضيء لكلّ من يبحث عن الجمال المنتصر على قسوة الزمن والحياة؛ فزياد لم يكن فقط موسيقياً عبقرياً ومسرحياً استثنائياً ومقاوماً لا يلين بل كان سؤالاً وجودياً يطرق ضمائرنا بلا توقّف: من نحن؟ وما هو موقفنا من كلّ ما نحياه ويحيط بنا؟ أهدانا نوتات من قلبه وروحه؛ صار حزننا ثورة وأضحت أغنيَتُنا نشيداً وضحكتنا صِنْو البكاء، والوطن حلماً يرفض الانكسار. الآن نلمس شظايا روحه في قلب كلّ واحد منا، في كلّ نوتة عميقة وجميلة، وفي كلّ كلمة تبحث عن معنى في زمن بلا معنى. فيا من حملنا بموسيقاه إلى أعالي التجلّي وأيقظنا بكلماته على حقيقة واقعنا المرّ، وظلّ ثابتاً كزيتونة دهرية على الرغم من كثرة الأوجاع والمحن، سنظلّ نعود إليك كي نستمدّ بعضاً من نبضك المبدع، وإلى فيروز كي نكفكف دمع حزنها النبيل كي لا يكون عزاؤنا مجرّد صورة في مأتم، بل فعل حبّ عميق لأمٍّ (وفنانة) صارت أُمّةً.

اخترنا لك