كتاب "فضيحة القرن" ... أهم روائع ماركيز الصحفية
كرّر ماركيز مراراً بأنّ الصحافة كانت دائماً شغفه الرئيس الأكثر ديمومة: "لا أريد أن يتذكّرني أحد برواية "مئة عام من العزلة"، ولا من خلال جائزة نوبل، بل من خلال الصحيفة.
-
فضيحة القرن... أهم روائع ماركيز الصحفية
صدور كتاب "فضيحة القرن: مختارات من ماركيز في الصحافة (1950 ـــــ 1984)" لصاحب نوبل الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز يعيد إلى الذاكرة شيئين:
الأول العلاقة الحميمة بين أي الروائي وبين الصحافة، فلا يوجد صحافي عريق إلا وصدرت له مؤلفات سواء سياسية أو روائية، مثل صاحب رائعة "ست الحسن" رئيس تحرير "أخبار اليوم" المصري مصطفى أمين، أو صاحب رائعة "الجبل" الروائي المصري فتحي غانم، الذي كان يرأس تحرير مجلة "صباح الخير"، أو رئيس تحرير صحيفة الأنوار اللبنانية سعيد فريحة صاحب رواية "إسمع يا رضا"، أو صاحب رواية "صقر قريش" لكرم ملحم كرم رئيس تحرير صحيفة "البيرق" اللبنانية.
والثاني أنه من الضروري أن نعرف أنّ الروائي العظيم الذي يطلق عليه صاحب رائعة كذا، كما يُطلق على ماركيز لقب صاحب رائعة "مئة عام من العزلة" هو وليد الصحافة العريقة، وإلا لماذا يقول ماركيز عن رواياته: "هذه الكتب تتميّز بقدر كبير من البحث والتدقيق في الحقائق، ودقّة تاريخية، لدرجة أنها في الواقع تقارير خيالية أو فانتازية رائعة، لكنّ أسلوب التحقيق وطريقة التعامل مع المعلومات والحقائق هو أسلوب الصحافي".
ولهذا ظل ماركيز، وفياً لجذوره الصحافية، على الرغم من إسهام روايته "مئة عام من العزلة" في حصوله على جائزة نوبل للآداب عام 1982. وفي تعزيز مكانته كأحد أعظم كتّاب القرن العشرين.
إقرأ أيضاً: "بلا قيود".. المقالات الصحافية لغابرييل غارسيا ماركيز
تستحضر مقدّمة الكتاب وصف غابرييل غارسيا ماركيز للصحافة بأنها "أفضل وظيفة في العالم". وعرّف نفسه كصحافي أكثر منه ككاتب: "أنا صحافي في الأساس. طوال حياتي كنت صحافياً. كتبي هي كتب صحافي، حتى لو لم تكن ملحوظة جداً"، كما قال ذات مرة. و"كتب باستمرار وبغزارة للصحف والمجلات طوال حياته المهنية، حتى في ذروة شهرته بعد فوزه بجائزة نوبل في الأدب في عام 1982".
كرّر ماركيز مراراً بأنّ الصحافة كانت دائماً شغفه الرئيس الأكثر ديمومة: "لا أريد أن يتذكّرني أحد برواية "مئة عام من العزلة"، ولا من خلال جائزة نوبل، بل من خلال الصحيفة... لقد ولدت صحافياً واليوم أشعر بأنني مراسل أكثر من أيّ وقت مضى.
إنّ ولعه بالصحافة جعله يؤسس "مؤسسة غابرييل غارسيا ماركيز للصحافة الأيبيرية الأميركية الجديدة" أو "مؤسسة غابو" كما اعتادوا على تسميتها. لتعزيز الديمقراطية وحرية الصحافة عام 1995.
يستمدّ كتاب "فضيحة القرن: مختارات من ماركيز في الصحافة (1950 ـــــ 1984) الصادر عن "دار التنوير" في بيروت، عنوانه من التقرير الذي أرسله غارسيا ماركيز من روما، والذي نُشر على 14 جزءاً متتالياً في صحيفة "إل إسبكتادور" الكولومبية في أيلول/ سبتمبر 1955. وهي سرد مفصّل لجريمة على نطاق أوسع. استمرّت لمدة 60 صفحة، وهي أطول قطعة في الكتاب. لم تكن مقالة قائمة بذاتها بقدر ما كانت قصة متسلسلة.
وقد أثار هذا التقرير "فضيحة القرن" ضجة كبيرة. فكشف عن فضيحة في الحكومة الكولومبية. حيث أنّ ثمانية من أفراد طاقم مدمّرة تابعة للبحرية الكولومبية لم يلقوا حتفهم نتيجة عاصفة جرفتهم من على متنها، بل نتيجة "إهمال" من حكومة فاسدة. وقد أكسبه سعيه الجامح لتحقيق العدالة شهرةً واسعةً، وغيّر مسار حياته المهنية.
يأتي كتاب "فضيحة القرن" ليسلّط الضوء على هذا الجانب الصحافي من مسيرة ماركيز، مبرزاً كيف شكّلت الصحافة أساساً لإبداعه الأدبي الخالد.
يضمّ كتاب "فضيحة القرن" 50 مقالاً صحافياً لغارسيا ماركيز نشرت بين عامي (1950 و 1984)، تمّ اختيارها من بين مئات المقالات التي جُمعت في مجموعة جاك جيلارد الضخمة المكوّنة من خمسة مجلدات، "الأعمال الدورية" التي تحتوي أعمال ماركيز، وذلك لتزويد قرّاء رواياته بنموذج من كتاباته للصحف والمجلات التي عمل بها فترة طويلة من حياته. إذ لطالما اعتبر ماركيز تدريبه كصحافي أساساً لعمله الروائي.
تعكس هذه المقالات تنوّع اهتمامات ماركيز وجرأته في تناول القضايا الإنسانية والاجتماعية. فمن بين هذه المقالات، قصص استقصائية عن وفاة شابة إيطالية، وتجارة الرقيق الأبيض بين باريس وأميركا اللاتينية، إلى جانب كتابات عن الروائيين الذين ألهموه. كما يكشف الكتاب عن الإرهاصات الأولى لشخصيات عائلة بوينديا، التي شكّلت لاحقاً جوهر روايته الشهيرة "مئة عام من العزلة".
يتحدّث ماركيز من خلال مقالة عن رحلة استكشافية قام بها إلى كوبا في عام 1959، بعد أسبوعين من استيلاء فيدل كاسترو على السلطة.
سيعرف القارئ من خلال قراءة كتاب "فضيحة القرن" بالترتيب، تطوّر غارسيا ماركيز ككاتب. ففي العديد من كتاباته المجموعة هنا، سيجد قرّاء رواياته وقصصه القصيرة صوتاً سردياً مميّزاً قيد التكوين.
ففي هذا الكتاب نصوص صحافية من شبابه يحاول فيها الراوي الناشئ إيجاد سبب لعبور الخط إلى الأدب، كما في القصة الافتتاحية عن "حلّاق الرئيس"، ومقتطفات مبكرة من السرد حيث تبدأ الشخصيات أو الأماكن التي ستملأ "مئة عام من العزلة" في الظهور؛ وتقرير من روما عن وفاة امرأة شابة غامضة يبدو أنّ النخب السياسية والفنية في البلاد متورّطة فيها.
ومن بين هذه المقالات بيانات صحافية، وتقارير إخبارية، وأعمدة، ومقالات رأي، ومقالات خاصة، ومقالات شخصية. كما سيجد القارئ بعض المقالات الأدبية المنشورة بالتزامن في الصحف أو المجلات الأدبية.
يمكن للراغبين في التعمّق في هذا الموضوع أن يجدوا شرحاً شيّقاً وواسع الاطلاع لمسيرة غارسيا ماركيز الصحافية في مقدّمات مجموعة جاك جيلارد. وكما كتب جيلارد: "كانت صحافة غارسيا ماركيز في المقام الأول بمثابة تعليم لأسلوبه، وتدريب على فنّ الخطابة الأصيل".
ويوضح مقدّم الكتاب "جون لي أندرسون" في اختياره لهذه الكتابات، بقوله: حرصتُ على تجنّب أيّ تصنيف أكاديمي أو أسلوبي أو تاريخي. وبصفتي قارئاً ومحرراً لأعمال غارسيا ماركيز، اخترتُ نصوصاً تحمل في طيّاتها توتراً سردياً كامناً بين الصحافة والأدب، حيث تتمدّد خيوط الواقع بفعل دافعه السردي الذي لا يُقهر، مما يتيح لنا فرصة الاستمتاع مجدداً بـ "راوي القصص" الذي كان عليه.
وبتعبير آخر فكتاب "فضيحة القرن" هو مجموعة واسعة من الموضوعات المعروضة. هناك قصص عن الترجمة وجائزة نوبل. يتمّ التعامل مع لقطات حضرية حيّة من عودته إلى مسقط رأسه، أراكاتاكا؛ مناقشة محبّبة للمكسيك؛ وذكرياته عن باريس، "أجمل مدينة على وجه الأرض". نلتقي أيضاً "بقاتل القلوب الوحيدة"، مقاتلي الساندينيستا وإرنست همنغواي، ونقوم بجولة في "مقبرة الرسائل المفقودة".
يبرز الكتاب شغف ماركيز بالتحقيقات الاستقصائية ومغامراته الصحافية التي تجاوزت حدود كولومبيا لتمتدّ إلى أوروبا، مما يظهر رؤيته الكونية وجرأته في تناول قضايا عالمية.
وعلى الرغم من أنّ بعض قصصه الروائية الأولى كُتبت قبل عمله كمراسل، إلّا أنّ الصحافة هي التي أتاحت لغارسيا ماركيز الشاب ترك دراسته للقانون والبدء في الكتابة لصحيفة "إل يونيفرسال" في قرطاجنة وصحيفة "إل هيرالدو" في بارانكويلا. فسافر لاحقاً إلى أوروبا كمراسل لصحيفة "إل إسبكتادور" في بوغوتا. عند عودته، وبفضل صديقه وزميله الصحافي بلينيو أبوليو ميندوزا، واصل الكتابة في فنزويلا لمجلتي "إليت" و"مومينتو"، حتى انتقل إلى مدينة نيويورك عام 1961 كمراسل لوكالة الأنباء الكوبية "برينسا لاتينا". في وقت لاحق من ذلك العام، استقرّ في مدينة مكسيكو مع زوجته مرسيدس بارشا وابنه رودريغو، حيث نشر رواية "لا أحد يكتب إلى الكولونيل"، وبدأ العمل في كتابة السيناريو، ثم كرّس وقته لكتابة "مئة عام من العزلة". ورغم أنّ عمله ككاتب كان يشغل معظم وقته، إلا أنه عاد دائماً إلى شغفه بالصحافة. خلال حياته، أسس ستة منشورات، منها "ألترناتيفا" و"كامبيو".
وقد أثار غابرييل غارسيا ماركيز، الملقّب بـ "الواقعي السحري"، ضجة عالمية واسعة مع صدور روايته "مئة عام من العزلة" (1967). واليوم، لا يزال أسلوبه وصوته يُذكران في عالم الأدب كواحد من أبرز كُتّاب القرن العشرين.
وُلد في السادس من آذار/مارس 1927 في كولومبيا، ويُنسب إليه أعمال آسرة مثل "الحب في زمن الكوليرا" (التي حُوّلت إلى فيلم سينمائي عام 2007)، و"خريف البطريرك"، و"لا أحد يُراسل العقيد"، و"ذكريات عاهراتي الكئيبات".
في أواخر حياته، شُخّص بسرطان الغدد الليمفاوية عام 1999، ثم بالخرف أثناء كتابته روايته الأخيرة "سنلتقي في اَب/أغسطس". توفي في مدينة مكسيكو في 17 نيسان/ أبريل2014.
نشير إلى أنّ هناك أعمالاً صحافية منشورة ككتب لماركيز وهي: "قصة بحّار غارق" (1970) ومختارات من المقالات المكتوبة في فنزويلا بعنوان "عندما كنت سعيداً وغير موثّق" (1973). أما "السجلات والتقارير"، وهي مجموعة مختارة من أعمال المؤلف، فقد نشرها المعهد الكولومبي للثقافة عام 1976. يقدّم كتاب "غابو بيريوديستا"، الذي اختاره زملاء غارسيا ماركيز الصحافيون، ونُشر عام 2012 من قِبل مؤسسة "الصحافة الأيبيرية الأميركية الجديدة" و"كوناكولتا" المكسيكية، تسلسلاً زمنياً مفصّلاً لمسيرته المهنية.