كلمة - شهادة على قيد الحياة

كل نص يكتب في غزة الآن، كل عبارة تكتب على جدار، كل رسمة لحنظلة أو لسواه من أيقونات فلسطين، هي برهان على تمسك الغزيين بحقهم في الحياة، وهي شهادة على قيد الحياة لوطن عصيّ على الموت والفناء.

(إلى جواد العقَّاد ورفاقه)

لا تنفك غزة تدهشنا وتثير فينا الأسئلة عن سرّ هؤلاء الناس الذين لا يتركون وسيلة من وسائل المقاومة إلا ويلجؤون إليها شاهرين حبهم للحياة، للأرض، وللوطن الذي لا يرتضون عنه بديلاً. 

رغم جسامة التضحيات والخسارات، والحزن العارم على كل روح زهقت بفعل جريمة الإبادة الإسرائيلية المتمادية، يبهرنا أبناء غزة بقوة الحياة التي يصرون عليها، وعلى حقهم في أن يعيشوها بحرية وكرامة أسوة بكل شعوب الأرض. 

قطعاً أن الأرواح التي صعدت إلى بارئها هي أرواح نفيسة وغالية، ولا شك في أن كل أم مكلومة تبكي بدل الدموع دماً لن تعوضها الدنيا كلها بديل فلذة كبدها، وكل طفل يتيم يستحق كل الحب والرعاية والاحتضان، وكل بيت تهدّم يجب أن يعود أفضل مما كان. لكن، كل هذه التضحيات الجسام وغير المسبوقة، لا يجوز أن تقابل بالخنوع والخذلان، أو بالخضوع لإرادة المحتل وشروطه. فمهما بلغت التضحيات تظل الحرية أغلى، والكرامة أنفس، والاستقلال حقّاً بديهياً لا تنازل عنه ولا بديل منه.

أشكال المقاومة كثيرة ومتعددة نراها، فضلاً عن قبضات المقاومين، في كلمات طفل كبر قبل الأوان، في صرخة أم ثكلى ترفع شارة النصر الآتي لا محال، في عزم طبيب رفض أن يرحل حتى لو دُمِّر مستشفاه فوق رأسه، وفي زفاف عروسين داخل خيمة كأنهما يقولان إن الحياة أقوى من كل هذا الموت، كل هذا الخراب.

الكلمة أيضاً سلاح. هذا ما تقوله غزة أيضاً.

في خضم الإبادة الصهيونية المروعة، ومن وسط النار والبارود، وفوق ركام المنازل المدمرة فوق رؤوس أصحابها، والتراب المضمخ بدماء أهله. وتحت هدير الطائرات المعادية ودوي المدافع العمياء، ثمة مَن يصرّ على القراءة والكتابة، والتمسك بالقلم والورقة حتى آخر رمق. فالكتابة هنا، ليست فقط شكلاً من أشكال المقاومة، بل هي أيضاً برهان على استمرار الحياة. إذ يصير النص الأدبي والشعري بمنزلة شهادة على قيد الحياة.

بهذا المعنى أفهم نصوص الأصدقاء الغزيين حين تتاح لهم فرصة التقاط النت للنشر على وسائل التواصل، مثلما أفهم على النحو نفسه "كتاب الوصايا/شهاداتُ مبدعات ومبدعين من غزة في مواجهة الموت"(فكرة وتحرير ريم غنايم، تقديم ألبرتو مانغويل وجوديث بتلر، منشورات دار مرفأ) والذي ستكون لي عودة موسعة إليه.

من الأسماء اللامعة والمرموقة بين الكتاب الشباب من أبناء غزة الصامدة الصابرة، الشاعر جواد العقاد الذي لا يكتفي فقط بنشر نصوصه الشّعرية والنثرية التي تحكي واقع حال غزة، ويسطّر شعرياً يوميات الحرب الهمجية، بل يصرّ على الكتابة النقدية أيضاً، قارئاً وناقداً ما تيسر له من كتب نجت من مكتبة منزله الذي دمره الاحتلال الإسرائيلي في خان يونس، وبينها من حسن حظي كتابي "ليل يديها" الذي خصّه جواد بكلمة أستميح القراء الكرام عذراً بأن أنشرها هنا تحيةً لجواد، ومن خلاله لكل مبدع يقاوم المحتل بالطريقة التي يجيدها.

**

ديوان "ليل يديها" للشاعر زاهي وهبي هو أحد الكتب القليلة التي نجت من دمار مكتبتي الخاصة في خان يونس. بينما أقلِّبُ صفحات الكتاب، يتساقط غبار الحرب الذي تجمَّع فوق حبر الروح، عازماً على اغتيال الضحكات والصباحات والعناق والحب والوردات والمدن السعيدة في قصائد زاهي وهبي. إلا أنَّ يداً حانية أَخفتْ الكتابَ في صلاةِ عشقٍ مؤجلة، فلم تتحول الجمرة إلى نارٍ مستعرة حين وقعتْ على عبارة: "لم تكسرني الحروب وما شاخت فيَّ السنين/ لكنِّي أذوب في دمعةِ طفل/ وأتشظَّى في العاشقين".

أخلصَ الشاعر زاهي وهبي للشعر طوال تجربته، ونقرأ هذا الإخلاص والعشق الهادئ في ديوان "ليل يديها". فالقصيدة عنده معشوقة يُصغي لها بكل جوارحه وخشوعه وتجليات الوجد، يعانقها، يدلّلها، يراقصها حتى الفَناء فيها والتوحد معها، إذ ينصهر الشاعر باللغة فنرى ملامحه في الكلمات، وتوقده العاطفي الممتد من بداية النص إلى آخره دون خفوت. ومن المناسب هنا استدعاء مقولة لامارتين: "على الشعر أن يظهر الإنسان أكثر مما يظهر الشاعر".

تتجلى اللغة في "ليل يديها" سلسة عذبة لا يشوبها تعقيد ولا يشوهها غموض، وهذا لعمركَ آية البلاغة. وتفيض حين تتوحد مع العاطفة والمعنى وذات الشاعر، على هيئة نص شعري يمثل مرآة الشاعر ورؤيته وجموحه. فاللغة عند شاعرنا ليست وسيلة تعبير فحسب، بل تشارك في عملية الخلق والإبداع بوصفها أداة وغاية في الوقت نفسه، بل ومعشوقة مدللة عند زاهي وهبي. كيف لا وهو الذي يسرِّب جمرات عاطفية إلى اللفظة الواحدة ويشحنها بالدلالات المتجددة المتعددة؛ كي تحلق في سماء الخيال الثامنة وتدور في فِناء العاطفة. وخلال تلك الرحلة تتوالد كلمات لكل حالة، إلى أن تتعانق وتصير قصيدة.

من باب التمثيل، يقول:

"مثل لقاحٍ مضادٍّ لضجرِ العمر

يسري صوتكِ في أوردتي 

مثل ارتجافه المرَّة الأولى

يكهرب نسغ العظام 

ومن المسامِّ رحيقُ البدايات".

نلاحظ أن الشاعر حمَّل كلمة "لقاح" دلالات جديدة في سياق الجملة، ما أسهم فعلياً في إنتاج صورة شعرية كاملة.

وأنا لا أريد تحويل هذا التعليق العاطفي على الديوان إلى مقالة جامدة، أقول إننا حين نقرأ نصوص زاهي وهبي نرى ملامحَه بين السطور وفي الكلمات، بل كثيراً ما تكون هي اللغة ذاتها. فهذه الأخيرة هي طريقة تعبير وشعور وتفكير، ومعشوقة لا تتجمل قسراً بل تنبع فتنة من ذاتها. 

في النهاية، من يقرأ زاهي وهبي ينحاز إلى نصه وعاطفته ولغته. أشكر الأقدار التي حفظت هذا الكتاب في بريد الحنين، كي أقرأ في ليلِ الحرب "ليلَ يديها".

جواد العقَّاد، غزة 6 حزيران/يونيو 2024م 

***

على المستوى الخاص، شهادة الشاعر المتميز جواد العقّاد واحدة من أجمل التكريمات التي حظيتُ بها. فهل أجمل من أن يكون كتابك سلوى شاعرٍ تحت النار، وفي الأرض التي أذاقت المحتل كل صنوف الخزي والعار، وسطّرت واحدة من ملاحم التاريخ الكبرى. 

أما على المستوى العام، فكل نصٍّ شعريٍّ أو نثريٍّ يُكتَب في غزة الآن، كل نصٍّ تشكيليٍّ، كل عبارة تُكتب على جدار، كل رسمة لحنظلة أو لسواه من أيقونات فلسطين، هي برهان على تمسك الغزيين بحقهم في الحياة الحرة الكريمة، وهي شهادة على قيد الحياة لوطن عصيّ على الموت والفناء.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.