لماذا الشِّعر؟

كثير من الأحداث التاريخية والطقوس الاجتماعية والدينية والأسطورية ما كانت لتصل إلينا لولا الأدب والشعر والملاحم، من جلجامش إلى الألياذة والأوديسة وصولاً إلى المعلقات وما سطره شعراء الجاهلية وصدر الإسلام.

  • لماذا الشِّعر؟
    لماذا الشِّعر؟

من ظلم الدهر نلوذ بالشِّعر
من ظلم الحبيب نلوذ بالشِّعر
من الظلم العلني نلوذ بالشِّعر.
(عباس كيارستمي)


كلما زاد الشِّعر كلما اقتربنا من الله.
(كريس كولفر)

لماذا يتم تدريس مواد عديمة الفائدة مثل الشِّعر؟

فجعني هذا السؤال الذي قرأته في أحد المواقع الإلكترونية؟ و"الفاجعة" الكبرى أن السائل لم يكتفِ بالسؤال لماذا يتم تدريس الشِّعر، بل اعتبر الشِّعر عديم الفائدة!!

لو وافقنا السائلَ جدلاً على عدم فائدة الشِّعر سنلاقي أيضاً مَن يقول بعدم فائدة الرواية والسيرة والفلسفة والموسيقى وسواها من فنون وآداب. وهذا أمر غير مستبعد لأن الكثير من تيارات التطرف والتزمّت ترفض أصلاً تدريس الفلسفة والرسم والموسيقى.

رأيي على النقيض تماماً من رأي السائل. ليس فقط لأنني أقرض الشِّعر بل لإيماني بضرورة تدريس الآداب والفنون على أنواعها (ومنها الشعر بطبيعة الحال)، والبدء منذ السنوات الدراسية الأولى في الصفوف الابتدائية والإعدادية. لأن ما نغرسه في الطفولة ينمو ويتفتّح ويُزهِر، ولأن الفنّ والأدب يهذّبان النفس البشرية ويوسِّعان المدارك ويفتحان نوافذ في الوعي والخيال، وهذه من البديهيات والمسلَّمات، لكننا نحيا زمناً باتت فيه الكثير من البديهيات والمسلَّمات بحاجة لإعادة التذكير بها والتأكيد عليها.

مرَّةً أخبرتني مصممة الأزياء التلفزيونية المبدعة السورية رجاء مخلوف أنها لدى التحضير لأزياء مسلسل "الزير سالم" لم تجد مرجعاً تعتمده لتصاميمها سوى الشِّعر الجاهلي، إذ لا مصادر موثقة ولا مراجع تاريخية لتلك الحقبة سوى ما جاء على لسان الشعراء وما سطرته قصائدهم من وقائع وأحوال وطقوس عيش.

وهذا إن دلّ على شيء فعلى أهمية الشِّعر ليس فقط من الناحية الفنية والجمالية بل أيضاً من الناحية التاريخية، خصوصاً في تلك الحقبة يوم كان الشاعر لسان حال قبيلته و"وزير إعلامها" و"مؤرخ" بطولاتها وانتصاراتها وانكساراتها وهزائمها، ومدوِّن وقائع عيشها اليومي من أفراح وأتراح وقصص حب وغرام وانتقام.

وأبواب الشِّعر عند العرب كثيرة منها الحكمة والفخر والمدح والغزل والرثاء والهجاء والتصوف والمدائح النبوية، ويندر أن ترك الشعراء باباً لم يطرقوه، حتى قال عنترة في مطلع معلقته الشهيرة:

هَلْ غَادَرَ الشُّعَراءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ
أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ

والمعنى في هذا المطلع أن الشعراء السابقين لم يتركوا للاحقين ما يمكن أن يضيفوه. طبعاً في هذا القول بعضٌ من غلو الشّعراء وإلا لَكان عنترة اكتفى بهذا البيت ولم يكمل معلقته. لكن المطلع المذكور يعطينا فكرة عن عظمة الشِّعر العربي وشمولية الموضوعات التي طرقها حتى يظن الشاعر المُحدِث أنه لن يجد شيئاً يقوله أو يضيفه إلى ما تركه لنا الأسلاف الذين بنوا عمارة شعرية شاهقة.

ما عليه، كثير من الأحداث التاريخية والطقوس الاجتماعية والدينية والأسطورية ما كانت لتصل إلينا لولا الأدب والشعر والملاحم من جلجامش إلى الألياذة والأوديسة وصولاً إلى المعلقات وما سطره شعراء الجاهلية وصدر الإسلام والحقبات اللاحقة؛ أموية وعباسية وفاطمية وسواها من مراحل صعود وهبوط عاشتها الأمم الغابرة.

الأهم من هذا كله هو منسوب الجمال الذي يضيفه الشِّعر (والفن عموماً) إلى العالم، وتلبيته حاجة النفس البشرية إلى التعبير عن دواخلها ومكنوناتها، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. فالشاعر حين يقول أو يكتب لا يعبّر فقط عن رؤاه ومشاعره، بل يعبّر عن كل  ما لا يستطيع الآخرون التعبير عنه، ولهذا يغدو الشعراء رموزاً للشعوب والأمم التي ينتمون إليها، لأنهم ببساطة وجدان شعوبهم وأممهم.

لنغمض أعيننا قليلاً ونتخيل هذا الكوكب الذي نحيا به وعليه بلا موسيقى ولا قصائد ولا أناشيد وأغنيات، لنتخيله بلا مسرح ولا سينما وروايات، ولا سواها من أدوات التعبير التي ابتكرها الإنسان لإشباع حاجاته الفكرية والروحية والجمالية. لنتخيله فقط مكاناً للعمل والأكل والشرب والتكاثر(!)، كم كان سيبدو كوكباً مملاً ومضجراً، وكم كنا أقرب إلى بقية الكائنات التي لا يهمها سوى إشباع غرائزها الجسدية، ولا يميزنا عنها شيء.

جميع الأمم تفاخر بمبدعيها من أدباء وفنانين وتقيم على أسمائهم الحدائق والميادين والشوارع. هل يمكننا أن نذكر اليونان من دون هوميروس والإنكليز من دون شكسبير، والفرنسيين من دون هيغو وبودلير، والهنود من دون طاغور، والفرس من دون الفردوسي والشيرازي، والعرب من دون المتنبي والمعرّي.

الشعراء والأدباء هم أعلام أوطانهم وبلدانهم، بهم تفاخر الأمم وتباهي، ولا قيامة لأمة لا تحترم مبدعيها وفي مقدمتهم الأدباء والشعراء.

أمّة بلا شِعر، أمّة بلا روح.