لمن يبقى هذا الفراغ؟ شهادات في طلال سلمان و"السفير"

تفرد "الميادين الثقافية" هذه المساحة لكتّاب عرفوا طلال سلمان ليخبرونا عنه وعن "السفير".

"أديتُ واجبي، ووفيتُ خدمتي...خدمة الأمة، ولكن لا بدّ للحكاية أن تنتهي". هكذا أعلن طلال سلمان غياب جريدة "السفير"،"صوت الذين لا صوت لهم". اليوم، أقفل ناشر "السفير" جفونه عن هذه الحياة، تاركاً بصمات لا تمحى في تاريخ الصحافة اللبنانية والعربية.

إنه "الأستاذ طلال"، كما يخاطبه معظمنا، وطلال، كما كان يخاطبه بعض من عمل معه تأكيداً لأريحيته مع الجميع. يبقى الأستاذ طلال سلمان الشخص الذي عاصر محطات مهمة وصعبة في تاريخ لبنان والوطن العربي، وشكّلت، ابنته، "السفير"، سلاحاً في مواجهة الهيمنة والاحتلال ومشاريع التقسيم على طول الخارطة العربية، وصوتاً للوحدة العربية والنضال من أجل العدالة والتحرر.  

اليوم، تفرد "الميادين الثقافية" هذه المساحة لكاتبين عرفا طلال سلمان وعملا معه عن قرب ليخبرانا عنه وعن "السفير"، إضافة إلى كاتبة وصحفية تعكس مكانة "السفير" وناشرها من وجهة نظر قارىء لبناني وعربي مدفوع بالنضال وأحلام التغيير. 

***

صقر أبو فخر: لم يضق صدره بالمختلفين عنه ومعه

يقول الصحافي والباحث صقر أبو فخر : أكاد لا أستطيع الكلام عن شخص نادر عرفته قبل نحو 50 سنة، وعملت إلى جانبه في جريدة "السفير" التي أسسها ورعى صعودها وتألقها كأنها أحد أبنائه قرابة 30 سنة، منها 27 سنة متواصلة.

طلال سلمان كان أخي، وها أنا أفقد غياب هذا الأخ الأكبر، وأفتقد فوق ذلك تلك الروح الحانية والكريمة والرفيعة. كلّفني مسؤولية إصدار ملحق "فلسطين" الذي أراد له أن يصدر العدد الأول في 15 أيار/مايو 2010، أي في ذكرى نكبة فلسطين. وكان يرغب في إعادة إحياء فكرة "ملحق فلسطين" التي حققها صديقه غسان كنفاني الذي أصدر ملحق فلسطين عن جريدة "المحرر" في سنة 1964.

طلال سلمان العروبي الفلسطيني اللبناني السوري هو شخص نادر حقاً وتجربته الصحافية المتألقة، ولا سيما تجربة "السفير"، لن تتكرر. لأنه من الصعب العثور على طلال سلمان آخر. كان راعي لجنة "كي لا ننسى صبرا وشاتيلا" العالمية التي أسّسها الصحافي الإيطالي التقدمي ستيفانو كياريني، وكنت أنا ممثل "السفير" في هذه اللجنة. إنّ الوفود الدولية التي تعودت أن تلتقي طلال سلمان كلّ سنة في ذكرى المذبحة ستفتقده وتفقد سهراته الجميلة وكرمه المشهود، فبعد أسبوعين ستتقاطر الوفود الأممية، ولن تجد طلال سلمان في مكتبه في الطبقة السادسة من مبنى الجريدة، ولا في قاعة الطبقة الرابعة (قاعة إبراهيم عامر). فيا لهذه الأقدار الحزينة والمؤلمة والحارقة.

غادرنا طلال سلمان بعدما شهد ذروة تألق الصحافة اللبنانية وكان أحد صانعي ذاك التألق. لكنه شهد أيضاً ضمور الصحافة اللّبنانية بل ربما موتها، وكم شكّل ذلك كثيراً من آلامه. وطلال سلمان الأستاذ (وكثيرون منّا في السفير اعتادوا مناداته باسمه الأول حاف، طلال تأكيداً لأريحيته مع الجميع) الذي ولد قبل 5 سنوات من استقلال لبنان ها هو يرحل، يا للحسرة، في آخر أيام لبنان الذي عرفه في عهود ازدهاره المتعاقبة.

"السفير" التي أطلقها طلال سلمان جاءت على صورته هو: جريدة قومية عربية يسارية وفلسطينية وليبرالية معاً. هكذا هو قومي، عربي، ناصري من دون الانتماء الحزبي، ويساري ووطني ومفعم بقيم الحريّة، ولهذا جعل "السفير" مختبراً للأفكار التقدمية، ومنبراً للتعبير عن الآراء المختلفة، ولم يضق صدره يوماً حتى بكتابات من يختلف معهم جذرياً أمثال سعيد عقل أو جوزف أبو خليل اللذين كانا في إحدى المراحل من كتّاب الصفحة الأولى في "السفير".

كان طلال سلمان حراً ومستقلاً إلى حدّ بعيد، ولذلك تعرضت الجريدة للمنع أحياناً كما حدث في سنة 1993 حين قدمتها السلطات اللّبنانية في عهد الرئيس رفيق الحريري إلى القضاء بعدما منعتها من الصدور. ومع ذلك، ظلت تصدر ولم تذعن لقرار منعها من الصدور، واحتالت على الأمر بأن صدرت باسم "بيروت المساء" وبقي اسمها مع شعار الحمامة في أعلى الصفحة الأولى. ولأنّ طلال سلمان كان مستقلاً حقاً تعرضت الجريدة لمحاولات عدة لترهيبها أو إسكاتها في أعوام 1980، 1984 و1985 بالتفجير والصواريخ، فما سكتت ولا أذعن. وتعرض طلال لمحاولتي اغتيال على الأقل، في سنة 1981 (صواريخ موجهة إلى منزله) وفي سنة 1984 حين أُصيب في فكه. طلال سلمان تاريخ زاخر بالمجد، و"السفير" كانت تجربة قلّ نظيرها، وهذه التجربة ما كانت لتينع وتثمر لولا طلال سلمان. يغادرنا طلال إلى مكان رمزيّ لا يزور ولا يُزار، لكنّه سيزورنا حتماً في كل ليلة، ويأتينا تحت جفوننا كحلم بهيّ.

أحمد بزون: انكسار آخر في دنيا الصحافة العربية

لم يكن طلال سلمان مجرد صاحب جريدة أو رئيس تحرير، بل كان همه الأول أن يقدم صحافة جريئة ومختلفة منذ البداية، صحافة ملتزمة الخط الوطني اليساري، والقضية الفلسطينية ومدافعة عن العروبة والناصرية والإنسان حتى آخر حياته. كان أستاذنا ومعلمنا، يهتم بكشف أسرار المهنة لكل من مروا في مدرسة "السفير"، منهم من استقر فيها ومنهم من عبر إلى صحف عربية أخرى، فأغنوا تجربتها وحلّوا في فضاء الإعلام أساتذة كباراً.

كان طلال سلمان يطمح دائماً إلى أن يكون العاملون في الجريدة أسرة واحدة متضامنة متعاونة. كان أباً وراعياً ومتابعاً ومتعاطفاً مع  الجميع.

أما ما يخصنا في القسم الثقافي فكان يمنحنا حريّة كاملة في ما ينشر في الصفحة... قد ينتقد ما يقرأ في صفحتنا لكنه لم يمس ذلك هامشنا الحرّ أبداً... وإذا أراد نشر نص أو مقالة في الثقافة يحوّله إلينا بصيغة "لرأيكم" أو "إذا رأيتموه مناسباً" وسوى ذلك من التعابير، بعيداً من أي ضغط يمارسه أولي الأمر في الصحف الأخرى.

كان توقف جريدة "السفير" الانكسار الأول للصحافة اللبنانية، وتوقف قلب طلال سلمان الانكسار الآخر في دنيا الصحافة العربية. لكنه باقٍ في ما أنتج وأبدع مصباحاً تستنير به الأجيال.

دلال قنديل ياغي: لمن يبقى هذا الفراغ؟

الإعلامية والكاتبة اللبنانية دلال قنديل ياغي، المقيمة في إيطاليا، أخبرتنا بأنّ بعض الصحف الإيطالية كتبت عن رحيل طلال سلمان، أما هي فقالت عن ناشر "السفير":

منذ كنت طفلة أسترق النظر إلى ذاك اللّون الأرجوانيّ المطبوع على اللّون الأسمر للورق، وأنا أحمل الصحيفة لوالدي من مكتبة "عطوي" المجاورة لمنزلي، انطبع اسم "السفير" في وجداني، بقي يحفر عميقاً مع دخولي ميدان الصحافة منتصف الثمانينيات يوم كانت مرجعنا اليومي وبنسبة متفاوتة مع رديفتها "النهار".

نحنُ جيل اليسار كنّا نرى في "السفير" ملاذاً لانشغالنا، نبحث بين ثناياها عن الرفض والقبول، عن السعي والرضوخ ولا نستكين لحقيقة واحدة. كانت نقاشات جيلي تتمعن بأصحاب الأقلام في تلك المرحلة المحتدمة بالحرب والفكر معاً.

كان مقال "على الطريق" للأستاذ طلال سلمان أول ما نترقبه قبل أن نجول في الصفحات الداخلية الزاخرة بتنوع يكاد يشبه البلد. لا بل البلدان العربية بموزاييك فريد يصعب أن نستوعب آنذاك أنه قد يلتقي تحت سقف واحد، أو كما تدرجنا على المعرفة لاحقاً أنه كان يطبخ في مطبخٍ تحريريّ واحد، وربما كان أحد عناصر قوته هذا التنوع.

الراحل طلال سلمان كان واسع المدارك، صاحب لغة خاصة، شفافة، مرنة وحازمة، شاعرية وصارمة. كان فريداً بكفاحه وسيرته الشخصية، كبيراً بتواضعه، كان مثقفاً حقيقياً بعيداً من الابتذال والتصنّع. ومن خصاله العديدة، لا بدّ أن نسجل له أنه حافظ على أخلاقياته مع العاملين معه، حتى يوم اتخذ القرار المُرّ بغياب "السفير" وإقفالها، تميّز عن غيره من أصحاب المؤسسات الرديفة بأنه لم يهضم حقوقهم ولم يقضم سنين تعبهم. برحيله وبعد غياب غسان تويني، وأيضاً منح الصلح الذي كان يجمعهما في مساء واحد، يتنقل في ليل بيروت المقسوم بين "السفير" و"النهار"، كانت تجمعهم عروبية خاصة، منحازة لحقوق فلسطين، مفتوحة بتفاوت على عالمية جدلية، لا تقفل أبواب الحوار والسؤال. وهي ميزة التنافس الحرّ في ذاك العصر الذهبي لصحافة لبنان.

بغياب طلال سلمان، نسأل اليوم: لمن يبقى هذا الفراغ؟ ربما تبقى ذكرى خطاهم في تاريخ مدينة كانت شعلة لمحيطها وأطبقت عتمتها على أهلها الغارقين بهمومهم اليومية.