"ليلةٌ واحدةٌ تكفي": حانةٌ لتدجين النسيان والهزيمة

يضع القدر بطلة رواية "ليلة واحدة تكفي"، في ليلة النكسة، بين عالمين؛ عالمُ الحرب، وَعالمُ مهنتها كممرضةٍ تشرف على الولادات، حيث تجسّد كل ولادة جديدة تعامياً عن أصوات الموت من حولها.

  • غلاف رواية
    غلاف الطبعة الثانية من رواية "ليلةٌ واحدةٌ تكفي" الصادرة عن دار "الآن" في العاصمة الأردنية عمّان

يختار الكاتب الأردني قاسم توفيق (1954) لروايته، "ليلة واحدة تكفي" (دار "الآن" ناشرون وموزعون)، فضاءً مكانياً فريداً من نوعه، إذ تتراكم الحكاية بين جدران حانةٍ صبيحة يوم الـ5 من حزيران/يونيو عام 1967، ما يفتحُ الأجواء على مشهدٍ عبقٍ بأقداح البيرة وقوارب الفستق، بسردٍ له من الخصوصية الزمانية والمكانية ما يجعله ملجأ للحزانى والمنكسرين. وبدءاً من حقبةٍ لمّت بقايا الهزيمة المعلنة للعرب، يضعُ الكاتب لحكايته إطاراً زمنياً مدّته ليلة واحدة، ومنها يبدأ التحول في شخصيات بطلَيها، ولها ما يسقط على حيواتهم من هزائم وخيبات الشعوب العربية حتى اللحظة. إذن، هي روايةٌ عن يومٍ واحد ومأساةٍ امتدّت لأكثر من نصف قرن، وكأنّ ذلك اليوم هو تاريخنا الذي لم يمضِ، وبقي ثابتاً يهزّنا كلما عصفت هزائم جديدة. 

تلتقي الممرضة وجدان الزحار، في ظروفٍ ملتبسة، وفي مكانٍ غير عادي، بساقي حانة "الريفيرا" وسط عمّان. ومن اللحظة التي تطأ فيها الحانة، التي اعتادت ارتيادها، ندركُ أن ثمّة زماناً سينتهي، وآخر سيبدأ: "لن تعرف وجدان إلا بعد سنين بأن عالمها قد انهار وبني من جديد في هذه الليلة، دون أن تنتبه إلى ذلك".

هكذا يضعها القدر في ليلة النكسة بين عالمين؛ عالمُ الحرب، وَعالمُ مهنتها الذي تَسِمُهُ حياة مشرقة لممرضةٍ تشرف على الولادات، وتجسّد كل ولادة جديدة تعامياً عن أصوات الموت من حولها، وتغافلاً عن ركامٍ هائلٍ من الآلام والانكسارات. في تلك النقطة المتنافرة، ثمّة جمالية روائية لا بُدّ من التوقّف عندها. فاللحظات التي عاشتها وجدان وكررتها في انتشال المواليد الجدد من أرحام أمهاتهم، منحتها الامتياز لتحيا ليلة الحرب بأمّ عينيها دوناً عن الجميع. لذلك نراها في البداية تمشي وحيدة في شوارع عمّان، وكأنّ الكاتب اختارها لتكون عينه اليقظة على المأساة. تلك النقائض العجيبة، التي كان لها أن تجتمع في ليلة واحدة، إنّما تضمر معنى الوجود الذي يتخلل الرواية، ويتنامى عبر لغة جميلة مع ذيب، ساقي الحانة، وفي رصدهما الخيبة ولحظات السقوط معاً. ولعل الكاتب في اختيارهِ اسمَ البطلة، وجدان، يضمر إثارة الدمع في العيون إزاء ما مات بعد تلك الليلة السوداء، بدءاً من عقلية الأنظمة الحاكمة إلى جموعٍ سارت من غير أن تجد ما يرتق مِزَق الهزيمة.

"لم تلد الأمهات بعد من يجعله يجلس أمامه ويعترف. تكفيه ذاته التي دُجنت على النسيان. لن تأتي هذه المرأة بكل ما فيها من جمال في يوم العزلة المخيف هذا لتطلق لسانه وتستفز ذاكرته ليفضح عمره". ومن غير أن يبدو ذيب، ساقي الحانة، شخصاً غريباً على وجدان، إلا أن أصوات الحرب في عمّان والطائرات والنوافذ المطلية بالنيلة الزرقاء، وذاك الصوت الصارخ المستمر في النص: "اطفي الضو"، يدفعها إلى الشعور بالغربة والجدة إزاء المكان. كما لو أنها ترتاده أولَ مرةٍ، الأمر الذي يجعلها ترصد شخصية ذيب، كمن يرصد التشوهات التي خلّفتها الهزيمة. فالرجل يفتح الرواية على مجالٍ متسعٍ من رقّةٍ غير معهودة بالنسبة إلى ساقي حانة: "حتى أن وجوده وحيداً مع امرأةٍ موغلةٍ في الرقة أخافه".

إذن، نحن أمام شخصية تنفتح على سياقاتٍ متعددة، بدءاً من علاقته بفقره واغترابه، إلى نكرانه وترحاله ورفضه الحرب. نقع هنا على مضمار روائي فريد، تبديه عذوبة اللغة وتجعله أقربَ إلى الهشاشة. وعلى الرغم من البؤس الذي صاغ مراحل حياة ذيب، إلا أن ما نتج عنه كان ظلاً خافتاً لإنسانٍ صموتٍ، من غير أن تُحتمَلَ رقتهُ، إنسان صاغته كل العذابات الممكنة للاحتمال، وسيّرت حياته نحو الوحدة والكتابة، التي لا ترد هنا بمعناها الاحترافي أو المهني، بل بمعناها العلاجي الذي دفعه ليكتبَ باسمِ كل من صادفهم في حياته، أشراراً وأخيار، كتب عنهم جميعاً، وأودع رسائلهم في صندوق وقعت عليه وجدان، كما لو أنها تقع على صندوقٍ أسود يفسّر حطام تلك الكومة من الحسرات، وتسقي الحزانى والمنهكين، وتقدّم لهم المواساة، من غير أن تجدها سوى عبر كتابةٍ ترمي الألم كمن يرميه في بئر عميقة: "كان واعٍ لحدّ أن يعرف أن الشرخ الذي خدش عمره منذ بدايته، حتى وإن استطاع أن يتغلب عليه ويدفنه، لكنه لن ينساه فقد صار شيئاً منه، أو لربما الشيء الأكثر حضوراً فيه".

تلك الرمزية وذاك الإنكار لمكانة الحلم في حياة الإنسان له أسبابه الخفية في ما منحته تلك الحقبة للإنسان العربي، وما فعلته الهزيمة من موتٍ للحلم، وإيداعه صندوقاً كمن يودع حطام جثث هامدة. 

في الجانب الآخر، لا تريد وجدان أن تصغي لأصواتِ الحرب. نجدها تبحث عمّن ينسيها بؤسها ومأساة عائلتها النازحة من فلسطين المحتلة. لا تريد أن تنظر إلى ما يشير إلى الموت نفسه، فبعد أن خطف الموت حبها، نراها وحيدةً تنبش في تفاصيل حياةٍ ليس فيها سوى العناية بأمّ طاعنة في السن ومواليد جدد. لا شيء يختبئ في داخلها سوى الخوف. وهو ما يدفعها إلى عالم ذيب الخمّار، ربما للبحث عن أجوبةٍ لما تشظى من حياتها. وهناك، بعد انقضاء ليلةٍ ملؤها الهلع والبيانات العسكرية، تلتمس ليلةً لها جانبها الخاص من المكاشفات خلف الكواليس.

هكذا ما بين الحب والندم، تقبع مأساة كلٌّ من وجدان وذيب، مثلما تقبع تلك الخيبة التي تسربت من حال الفرد إلى حال أمةٍ بحالها. "أخيراً ملت شادية وسكتت عن الغناء. جاء بعدها صوت غريب لمذيعٍ يقول: استمعتم إلى شادية في أغنية قولوا لعين الشمس، من دار الإذاعة الإسرائيلية في أورشليم القدس، بعد أن انضمت لموجاتنا العاملة صباح هذا اليوم. انهار ذيب في مكانه. لجمت وجدان وحارت ما تفعله. أعادت إطفاء الراديو. وسارت صوب حقيبتها، تناولتها، ومضت خارجة دون أن تلتفت وراءها".