مباركة شهاداتكم، مباركة أرواحكم (*)

تمسّكوا بإنسانيّتكم وقيمكم ومبادئكم، ولا تقبلوا أن تكونوا سلعةً في سوق النخاسة العالمي.

يا له من تشريف عظيم أن أقف على منبر مدرسة بشمزين العالية والعريقة، هذا المنبر السامي الذي تعاقب عليه كبار من لبنان، في الكورة الخضراء المباركة كزيتونها الدهريّ الشامخة كأرز الربّ المطلّ عليها من أعالي جبال لبنان، في بشمزين البلدة الجميلة بطبيعتها والأجمل بأهلها وناسها، وفي هذه المناسبة المميّزة حيث يستعدّ التلامذة الأعزاء لبداية مرحلة جديدة، مزوّدين بكلّ ما أرستْهُ مدرستهم الطليعية من قيم وعلوم وآداب، متطلّعين إلى مرحلة دراسية جامعية يختار فيها كلّ واحد منهم عنوانه الأكاديميّ والمهنيّ الذي سيرافقه طوال العمر.

فيما يطوي التلامذة صفحة ويفتحون أخرى، يمرّ لبنان بواحدة من أقسى أزماته، ويتعرّض جنوبه لعدوان إسرائيليّ يوميّ، وتغرق فلسطين بدماء بنيها وشهدائها، وهي تواجه واحدةً من أبشع جرائم العصر، على يد أبشع أنواع الاحتلالات التي عرفها التاريخ، ويسقط صرعى أطفال وفتيان وشباب كانت لديهم مثل تلامذتنا أحلام وطموحات ومشاريع حياةٍ قصفها الاحتلال قبل الأوان.

ونحن نعيش هذا الواقع الصعب والمرير تقف البشرية كلّها عند مفترق طرق. التحوّلات السياسية المترافقة مع تسارع مذهل في تطوّر التكنولوجيا الذكية تخلق تحديات جديدة. حيث نشهد اليوم ولادة عالم جديد يخرج من رحم تلك التحوّلات التي لا يقتصر أثرها على العلاقات بين الدول والحكومات، بل يطاول العلاقات الإنسانية سواء أكانت بين الأفراد أو الجماعات. وكلّ ولادةٍ لا بدّ لها أن تترافق، للأسف، مع أوجاع وآلام ودماء. 

وإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعيّ قد غيّرت الكثير من طبائع علاقاتنا الإنسانية، وقلّصَتْ مساحة التواصل المباشر لمصلحة تواصل افتراضيّ بارد لا يكتنز الدفء الذي يولّده اللقاء الواقعي، فإن ما نشهده الآن، وسوف نشهده في قابل الأيام، على مستوى تطوّر التكنولوجيا، خصوصاً لجهة الذكاء الاصطناعيّ سيكون له بالغ الأثر على تلك العلاقات، وعلى مستقبل البشرية برمّتها.

وفي ظلّ هذا الواقع المتغيّر نجد أن الخطاب الإعلاميّ والإعلانيّ الذي تصنعه وتبثّه الشركات الصناعية والتجارية العملاقة العابرة للحدود والقارات، والميديا الحديثة المؤثّرة، لا ينفصل عن المسار الذي تضعنا عليه تلك التحوّلات. فالمتابع للمحتوى الإعلاميّ والإعلانيّ الذي تعتمده تلك الشركات المعولمة بوسائطها المختلفة، والمساهمة من خلف الستائر في صناعة الرؤساء والحكومات وصانعي السياسات، يلاحظ أنها لا تخاطب البشر بوصفهم بشراً وإنما بوصفهم زبائن، مجرد زبائن تتم مخاطبة غرائزهم قبل عقولهم. 

لماذا نقول هذا؟ لأنّ معظم المحتوى المذكور يركّز على ما يشبع الغرائز المادية: الأكل، الشرب، السفر، الموضة، المقتنيات الفارهة، الجسد والقوام الممشوق، الجنس، وما شابه. فيما يغيب عنه كلياً أي محتوى يروّج لكتاب جديد، لمعرض رسم، لمسرحية ذات مضمون عميق، أو لعمل غنائيّ أو موسيقيّ من خارج الصندوق، أي من خارج السائد المستهلك والممجوج.

وحين نشير إلى الحملات الإعلامية والإعلانية لا نقصد فقط الدعايات التجارية المدفوعة الثمن. فحتى الأفلام الهوليودية والأغاني والكليبات المصوّرة تقدّم المحتوى نفسه: فتيات فاتنات، طائرات خاصة وسيارات باهظة الثمن، قصور وبيوت فاخرة، ملابس تحمل علامات تجارية "سينيه"، على إيقاعات موسيقية مكررة ومستهلكة، مصحوبة بكلمات بلا معنى وبلا قيمة.

خلاصة ما أودّ قوله إن الخطاب الموجّه لعموم البشر من قبل الشركات العملاقة وصنّاع الرأي العام والنخب المسيطرة يكاد يحصر قيمة الفرد بقوّته الشرائية، لا بقوّته الفكرية أو الروحية أو الأخلاقية وسواها من صفات وسمات تميّز الإنسان عن سائر الكائنات. فهؤلاء لا يريدون لنا أن نكون مختلفين عن بقية المخلوقات، يريدون أن يقتصر اهتمام الإنسان على ملء بطنه وإشباع غرائزه المادية. أما السموّ الروحيّ والعقليّ والأخلاقيّ فتلك أمور يجب تركها، وترك "النخب" المهيمنة تدير العالم على هواها.

لست ممن يرذلون الجسد ورغباته، ولا ممن يحتقرون الغرائز الجسدية التي فطر البشر عليها. بل أرى الجسد بكلّ تهويماته وحالاته ورغباته وجموحه أو سكينته ملهماً لا مثيل له. لكني أؤمن بأن الإنسان لم يخلق فقط كي يسعى إلى إشباع غرائزه الجسدية والمادية. إذ لو اكتفى بهذا الأمر لأمسى كائناً متوحّشاً أسوةً بكلّ الكائنات التي لا يعنيها سوى الجنس والطعام والشراب.

أرى الإنسان بوصفه أرقى من أن يكون مجرد مخلوق غريزيّ. هو خليفة الله في الأرض بحسب التعبير القرآنيّ، وعلى صورته ومثاله وفق المفهوم المسيحيّ. وأياً كانت عقيدته أو انتماؤه هو أسمى من أن يكون مجرد "زبون" في سوبر ماركت عالمية هائلة حجمها بحجم الكوكب كلّه. هذا الكوكب الذي يحظى وحده (حتى الآن) بنعمة الحياة، يريد المسيطرون عليه جعل تلك الحياة مجرّد فسحة لإشباع البطون والغرائز، مثلما يريدون دفع الناس إلى التخلي عن التفكير وعن السعيّ نحو السموّ الإنسانيّ والروحيّ والأخلاقيّ.

هذا التحدّي الهائل الذي خلقته العولمة التكنولوجية والاقتصادية والإعلامية يفرض علينا جميعاً، وخصوصاً على جيل الشباب المتعلّم المثقّف والواعي، أن يرفع الصوت عالياً رفضاً لعملية تحويل البشر إلى بهائم، مثلما يضع المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية المتمكّنة والقادرة أمام مسؤولية الانخراط في مواجهة الانحطاط الذي يدفع العالم إليه. فلا يقتصر عملها على إقامة المهرجانات والندوات وتوزيع الجوائز (على أهمية هذا الأمر) بل أيضاً وضع استراتيجيات تعنى بكيفية مواجهة هذا الانحطاط الذي يتمدّد يوماً تلو آخر، وتعلي شأن الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً لا مجرد دابة في أرض الله الواسعة.

الآن، ونحن نحيي هذا الحفل المبارك، ثمة تلامذةٌ وطلاب يملأون الشوارع والساحات في معظم عواصم العالم ومدنه رفضاً للظلم والعدوان، ورفضاً لوحشية العالم الرأسماليّ الداعم لأوحش احتلال على وجه الأرض، ولولا هؤلاء الشباب لفقدنا إيماننا بالإنسانية جمعاء. لذا تمسّكوا بإنسانيّتكم وقيمكم ومبادئكم، ولا تقبلوا أن تكونوا سلعةً في سوق النخاسة العالمي.

وكم سعدت بهذه الباقة من المتخرّجين، خصوصاً أولئك الذين تكلموا باسم زملائهم، وقفوا إلى المنبر بكلّ ثقة وعفوية، متحدّثين بلغة سليمة، متطلّعين إلى غد أفضل ووطن يليق بهم وبأحلامهم.

مباركٌ تخرجكم، مباركةٌ شهاداتكم، مباركةٌ قلوبكم وأرواحكم وإلى الأمام دائماً.

**

(*) خطبة حفل تخرّج الدفعة الــ 77 من تلامذة مدرسة بشمزين العالية (أنشئت كمؤسسة أهلية في العام 1937، وتعاقب على منبرها عشرات المفكّرين والأدباء والقادة اللبنانيّين)، بدعوة من مديرتها المربية الفاضلة الأستاذة ليلى شاهين فارس.