مفرد بصيغة الجّمع

تبقى بيروت مدينة للحياة. مدينة للمسرح والكتاب والقصيدة، ويبقى رفيق علي أحمد واحداً من صنّاع الحياة، سواء على خشبة مسرح أو بين طيات كتاب..أو إلى طاولة مقهى.

منذ أربعة عقود ونيف، نزل رفيق علي أحمد (*) من يحمر الشقيف الجنوبية إلى عاصمته بيروت، حمل معه كتاباً وقنديلاً. أزعمُ أن القنديل لا يزال مضاءً من يومها، كيف؟ 

لأن زيته البصيرة. لولا البصيرة اليقِظة ما أبصر هذا الحكواتي العتيق دروب نجاحه وتميزه. بعد أكثر من 40 عاماً على مغادرته ملاعب طفولته وأحلامه الأولى في قريته التي احتلها "الجيش" الإسرائيلي قرابة 20 عاماً، لا تزال رائحة التراب عابقة فيه، كأن الندوب والتجاعيد التي حفرتها السنونُ في قسماته ما هي سوى أثلامٍ مباركة تُنْبِت خيراً وحنطةً وغلالاً يستعين بها هذا الفلاح الأصيل على أحابيل الأيام.

المتابع الجيد لأعماله، وقد تسنت لي مشاهدتها جميعاً، يلاحظ المخزون الهائل الذي يحمله في ذاكرته ووجدانه، ومقدرته اللافتة على الحفظ وإعادة صوغ الحكاية وتقديمها ضمن قالب تمثيلي آسر أخّاذ، كأن ذاكرته أشبه بِسنام جمل يمشي الهوينى في قيظ صحراء، كلما شعر بنوع من الظمأ الروحي أو الإبداعي عاد الى تلك الذاكرة وينابيعها يغرفُ منها ماءً عذباً سلسبيلاً، وحكايات مدهشة. 

لكن مهلاً، لا يحكي رفيق لكي يحكي، بل يحكي ويمثّل لكي يقول، وثمة بونٌ شاسعٌ بين الحكي والقول. يقول، يعني يتخذُ موقفاً معلناً مما يجري ويدور من وقائع وأحداث في مجتمعه وبين ناسه، بل أحياناً بما يتخطى الإطار، كل إطار، إلى المدى الإنساني الشاسع الواسع. فلو راجعنا ريبرتواره المسرحي لوجدناه صاحب موقف من معظم القضايا الشائكة التي تواجه الكائن البشري، وخصوصاً ما يتعلق منها بالثالوث المحرّم: الدين، الجنس والسياسة.

في مقهى "الروضة" البحري حيث نلتقي بشكل شبه يومي، يدير رفيق علي أحمد ظهره للمدينة، يرنو صوب الأبيض المتوسط كمن ألقى فيه قارورة تحمل رسالة، ثم جلس ينتظر رداً من جنيات الماء. لكن، هل يعني هذا أنه على غير تفاهم ومودة مع مدينته؟ قطعاً لا، لماذا؟ لأن رفيق الذي "يظهر" على المدينة بين عرض مسرحي وآخر، تماماً كــــ "ظهورات" الأولياء والقديسين، قارئاً مزاميره ووصاياه، يبدو عاشقاً من عشاق بيروت الكثر. نجلس معاً ساعات طوالاً، نشكو واقع الحال، ننتقد ما بلغته شؤوننا العامة من تَردٍ وانحلال، وفي نهاية الكلام نتوافق، وروائح الأزمات تزكم أنفيْنا، أن بيروت أجمل مدن العالم، وأننا لا نعرف سبيلاً للعيش خارجها وبعيداً منها!

واحدٌ متعددٌ رفيق علي أحمد، تتناغم فيه الأضداد ويكتظّ بالثنائيات: ريفيٌّ مدينيّ، جنوبيٌّ بيروتيّ، لبنانيٌّ عربيّ، مشرقيٌّ أمميّ لأنه في جوهره يقدّم الإنسان على الصفات التي تسبقه والانتماءات التي يمثّلها. لذا، لم يكن عصياً عليه المزج بين كل تلك الثنائيات كما مزج بين الأساليب المسرحية المختلفة ليقدَّم مسرحه الخاص. 

بلى، مسرحه الخاص، وأقولها بالفم الملآن: مسرح رفيق علي أحمد، مسرح لا يشبه أحداً سواه، فيه من كل أحد، ويحكي ويحاكي كل أحد.

الموهبة الفطرية التي حملها معه إلى بيروت بعد تجارب أولى في الجنوب شكّلت الخميرة المباركة لعجينته المسرحية، صقلها بالدراسة الأكاديمية على أيدي كبار المسرح اللبناني وبالعمل معهم، لكن سليقته ظلت حية نضرة استطاع من خلالها أن يضيف حتى إلى أولئك الكبار، قبل أن ينطلق "مفرداً بصيغة الجمع"(بالأذن من أدونيس)، ليبني عمارته المسرحية الخاصة خطوة تلو أخرى وعرضاً بعد عرض، صانعاً نمطاً مسرحياً مزج فيه الفطرة والسليقة بالمناهج الكلاسيكية، واستثمر مخزونه الفردي الخاص ومزجه بالهمّ الجماعي العام، ليصبح لديه ما حلم به يوماً: مسرح رفيق علي أحمد. والمسرح هنا ليس بناءً وصالةً ومنصةَ عرض وستارة ودقات ثلاث، بل منهجاً مسرحياً لو تيسر له دارس عميق لاستنبط منه وله تسمية ومصطلحاً جديدَين.

ريفيّ معتق غضّنت السنون قسماته مثلما تفعل الشمس والرياح والأمطار بتربة الفلاحين استطاع أن يغدو واحداً من محركي المدينة/بيروت بحسب مجلة "الأكسبرس" الفرنسية، ولا غرابة. لا غرابة ليس فقط لأن "بيروت عنقود الضِّيَع"(من ضيعة) كما يسميها الشاعر عصام العبد الله، بل لأن رفيق رفعها على خشبة العرض بأعمدة من عرق وقلق وعشق لا يضاهى. فما أعطاه خلال مسيرته المتوزعة على 3 أضلاع: مسرح الحكواتي، مسرح الراوي/الممثل، مسرح منصور الرحباني، (ولو شئنا إضافة ضلع رابع لأشرنا إلى أعماله التلفزيونية والسينمائية التي لا يمكن بأي حال وضعها في مصاف ما أعطاه للمسرح)، رفيق علي أحمد هو اليوم بلا غلو أو مبالغة أحد أركان المسرح العربي المعاصر وسيد المونودراما فيه، فضلاً عن كونه مثقفاً زاهداً متقشفاً مختبئاً في رداء حكواتي يحلو الإصغاء إليه. 

حين نصفه بالحكواتي لا نقصد ذاك الحكواتي التقليدي الذي كان يجلس على منصته العالية حابساً أنفاس سامعيه. إنه حكواتي معاصر، يجمع بين الراوي والممثل في آن، والممثل هنا مجموعة ممثلين في شخص واحد يمتلك تقنيات الممثل المتمكن من أدواته ومن آلته الأساسية ألا وهي جسده المرن المطواع. ولغة الجسد عنصر محوري في العرض المسرحي إذا غابت عنه أمسى عملاً إذاعياً. وفضلاً عن تقنيات الممثل العالية، يحظى رفيق علي أحمد بتلك المقدرة على التقاط مفارقات الحياة اليومية ودواخل الشخصيات الإنسانية الأمر الذي مكّنه من أن يكون مؤلفاً يكتب نصوصه الفردية والجماعية، وأن يؤديها ببراعة العارف والفاهم لكوامنها وأبعادها.

انطلاقاً مما تقدَّم استطاع هذا الرجل أن يجمع رضا النقيضين: الجمهور والنقّاد. قدّم مسرحاً جماهيرياً ماتعاً ومسلياً، وفي الوقت نفسه مسرحاً عميقاً في طروحاته ومقارباته لما يعتمل في دواخل الكائن البشري من أسئلة وجودية شائكة. كما ساهم هذا الواحد المتعدد(مع آخرين طبعاً) في إبقاء شعلة المسرح متقدة وهّاجة. هذا المسرح الذي نريده حياً حيوياً فعالاً مزدهراً، لأن المسرح علامة من علامات المدينة، وبرهان من براهين الحياة المدينية. إذ لا يمكننا تخيّل مدينة كاملة الأوصاف بلا مسرح مضاء مزدهر. وميزة رفيق ومسرحه أنه عرف المدينة واختبرها وعاش أوقاتها الحلوة والمرّة، وظلّ فيها عند المنعطفات المصيرية والتحوّلات العاصفة، وعَبَّرَ عنها ومنها وفيها، لذا ظلّ مسرحه لصيقاً بها وبناسها من دون أن يقطع صلة وصله مع العواصم والمدن العربية التي أحسنت وِفادته واحتفت به وكرّمته بالمحبة أولاً ومن ثم بالجوائز.

ملاحظة أخيرة، لا من باب الفخر الأجوف، ولا من باب الشوفينية المقيتة، بل من واقع الحال بكل ما فيه من مشقة وعناء، تبقى بيروت مدينة للحياة، للحب والفرح، للحرية والفداء، مدينة للمسرح والكتاب والقصيدة، كتابها دائماً في يمينها، ويبقى رفيق علي أحمد واحداً من صنّاع الحياة، سواء على خشبة مسرح أو بين طيات كتاب...أو إلى طاولة مقهى.

***

(*) تحية إلى رفيق علي أحمد نُشرت في كتاب "الراوي - الممثل على خشبة الحياة" الصادر في الشارقة عن "الهيئة العربية للمسرح".