هبَّة طلاب العالم: تصويب البوصلة

لولا "موهبة" الأجيال الشابة في استخدام الميديا الحديثة، ونقلها حقيقة الجريمة الإسرائيلية المتمادية، وتفاعل طلاب الجامعات في أميركا وأوروبا مع مظلومية الشعب الفلسطيني، لظلت تلك الصورة المزيفة التي رسّخها الإعلام التقليدي في العقول هي المسيطرة.

ما فعله ويفعله طلاب الجامعات في أميركا وأوروبا ليس هيناً ولا قليلاً. لعله منعطف تاريخي في سياق التحركات الطالبية التي ساهمت عبر السنين في فرض تغييرات جذرية على صنّاع السياسات وَمَن يسنون الشرائع والقوانين، وخصوصاً أنها تحدث في توقيت حساس، ولاسيما في أميركا التي تستعد لانتخابات رئاسية حاسمة. 

لقد استطاعت الميديا الحديثة – على رغم كل القيود والمحظورات - تقديم حقيقة ما يحدث في فلسطين من جرائم يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، ونقل صورة معاكسة لما كانت تبثُّه وسائل الإعلام التقليدية في الغرب من أخبار عن فلسطين خصوصاً، وعن بلادنا العربية عموماً، حيث الانتقائية الموجَّهة والموجِّهة التي تعتمدها تلك الوسائل، ممارِسةً التضليل والخداع وتزييف الأمور وتغيير الوقائع بأساليب شديدة الذكاء وشديدة الخبث، في آن واحد. 

فلسطين هي المثال الأبرز على ما نشير إليه، إذ منذ عقود طويلة تُطمَس العدوانية الإسرائيلية، ويتم التغاضي عن الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، ويقدَّم الجلاد بصفته ضحية والضحية بصفتها جلاداً، وهذا ما أدركه أخيراً الشبان في جامعات العالم حين باتت الحقيقة في متناولهم. فلم تعد تنطلي عليهم تلك الأكاذيب التي لا تقتصر على ما يحدث في فلسطين، بل تطاول ما يحدث في معظم بلادنا العربية. 

مثل هذا الأسلوب الإعلامي في التعامل مع قضايانا وشؤوننا ليس مسألة عابرة أو هامشية، ولا هو نتيجة جهل أو تجاهل، بل ترجمة لسياسات عليا لا ترى إلى بلادنا إلا بصفتها آبار نفط، أو جغرافيا سياسية لا قيمة أو أهمية لإنسانها في نظر راسمي السياسات العالمية المؤتمنين على مصالح القوى العظمى التي لا تقيم وزناً للشعوب المسحوقة والمغلوبة. 

مَن ينسى مثلاً وقفة وزير خارجية أميركا الأسبق كولن باول في قاعة مجلس الأمن الدولي، وكيف راح، على مرأى من شعوب الأرض قاطبةً، يشرح بالصور والخرائط الأماكن التي "تحوي" أسلحة الدمار الشامل في العراق، تبريراً لغزوه، ليتبين سريعاً أنها أكبر كذبة سياسية في التاريخ المعاصر. 

قارئ التاريخ لا يستطيع أبداً فصل ما يحدث اليوم عما حدث بالأمس. لن ينسى حكّام الغرب (نستخدم مفردة الغرب بمفهومه الاستعماري القديم/الجديد المباشر وغير المباشر) وراسمو السياسات فيه أن العرب استطاعوا يوماً الوقوف عند أسوارهم وتهديد مصالحهم، لذا ما إن سنحت لهم الفرصة غزوا بلادنا وقسَّموها وشرذموها ولا يزالون. فما نتعرض له من تشويه إعلامياً وثقافياً لا يمكن فصله أبداً عن السياسة والاقتصاد.

ليس عبثاً ولا عفو الخاطر أن السينما الهوليوودية منذ عقود طويلة لا تُقدِّم العربي إلا بصفته ماجناً أو إرهابياً، والنموذج الأخير تقدَّم في الأعوام الأخيرة على ما عداه، ليس فقط في الأفلام السينمائية، بل في كل ما يخاطب الرأي العام ويساهم في تشكيل وعيه وتكوين وجهة نظره حيال الآخر. فالإسلامفوبيا ليست وليدة الساعة، بل نتاج تراكم مزمِن، لكنها ترسخت وتعاظمت في الأعوام المنصرمة بفعل إرهاب قوى التخلف والتطرف التي تكوَّنت وولدت وترعرعت في رحم "الغرب" نفسه الذي "يشكو" منها، لِيأتي لاحقاً على طريقة "رامبو" مُنقِذاً ومخلِّصاً لا يُشَقُّ له غبار، ويعاود استعماره المباشر بذريعة محاربة الوحش الذي صنعه بنفسه.

حسناً أن الصورة النمطية المَقيتة للإنسان العربي بدأت تتراجع لمصلحة صورة حقيقية تبدأ من غزة التي ساهمت دماء بنيها في جلاء الحقيقة، وكشفت حجم الهمجية الإسرائيلية، ومستوى النفاق الذي مارسته وتمارسه الحكومات الغربية ومؤسساتها المتعددة ووسائل إعلامها، لكن المهم أن نستطيع تحويل هبَّة الطلاب اليوم إلى فعل دائم ومستمر كي تظل رواية الحق والحقيقة هي السائدة والمسيطرة في مواجهة رواية الباطل التي يجيد اللوبي الصهيوني ترويجها وترسيخها في العقول والأذهان.

المسألة ليست سهلة ولا هينة على الإطلاق، وخصوصاً أن ما تتعرض له الثقافة العربية من طمس وإقصاء لم تتعرض له ثقافة أخرى، اللهم إلا ثقافة الهنود الحمر في أميركا. فبعد أن تم تقديم العربي لعقود طويلة بصفته بدوياً تائهاً في صحراء، أو مخموراً في كاباريه وأحضان بنات الهوى، بات اليوم يُقدّم بصفته إرهابياً متطرفاً متعطشاً إلى جزّ الأعناق وشرب الدماء(!). تُنسى كل إنجازات العرب العلمية والمعرفية، تتم مصادرة العقول والأدمغة العربية وتجنيسها و"تغريبها" ومَن لا يقبل فمصيره الإهمال، إن لم يكن القتل والاغتيال كما حدث لعدد كبير من العلماء العرب.

أليس لافتاً ومستغرباً ألا يستطيع الأديب العربي الوصول إلى العالمية وترجمة مؤلفاته إلا متى قدم التنازلات وتخلى عن الالتزام بقضايا العرب المُحِقَّة والعادلة، ولا ينال المبدع العربي جائزةً كبرى إلا إذا كان يغرد خارج سرب الالتزام المذكور، ولا تصل أغنية عربية واحدة الى سباق الأغاني العالمية، ولا يستطيع ممثل عربي فتح أبواب هوليوود الا وَفقَ شروط وتنازلات معينة.

ليكن واضحاً أنه مثلما هناك سياسات اقتصادية وعسكرية هناك أيضاً سياسات ثقافية وإعلامية. ألا يلاحظ المتابع للمشهد الثقافي في بلادنا كيف أن المؤسسات الغربية المانحة وتلك المهتمة بالإنتاج الأدبي والفني العربي، لا تدعم ولا تموِّل سوى إنتاجات ذات توجه يُضمِر رؤية استشراقية لمجتمعاتنا لا تلاحظ سوى "الحرملك" وما يتفرع منه، وذلك على حساب قضايا أكثر إلحاحاً ومصيرية، بل إنها تشترط لتمويل أي انتاج عدم تناول القضايا الجوهرية المتعلقة بحاضرنا ومستقبلنا.

طبعاً لا ندّعي ولا نزعم أن أصل الصورة أفضل حالاً كثيراً من الصورة التي يساهم الإعلام الغربي في تعميمها، ولا ننفي مسؤوليتنا الكبرى عمّا نحن فيه، لكن الفارق جوهري بين تسليط الضوء على واقع معين بهدف تحسينه وتغييره، وتسليط الضوء عليه بهدف ترسيخه وتكريسه. الأمر الأخير هو ما تمارسه أغلبية الدوائر الإعلامية والثقافية الغربية، ولعل أخطر ما فعلته تلك الدوائر هو مساهمتها في تغيير المصطلحات والمفاهيم، ولا يَظننَّ أحد أن الأمر عَرَضِيٌّ وعابرٌ. تغيير المصطلحات جعلَ الثائر إرهابياً والإرهابي ثائراً، والمحتل محرِّراً والمحرِّر مجرماً، وبرّأ قوى الظلم والعدوان من جرائمها المرتكَبة جيلاً بعد جيل، وعِوَضاً من مطالبتها بالاعتذار عن جرائمها والكفِّ عن مشاريعها الاستعمارية المرتدية أقنعةً شتى، أعطاها مُسمَّى "أصدقاء" فأصبحنا نشاهد القوى التي ساهمت في ضياع فلسطين وتدمير العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان والسودان والصومال تجتمع كل فترة تحت ذاك المُسمَّى المُضحِك المبكي، لترمي فتات مساعداتها للشعوب التي تسببت هي نفسها بكوارثها ومآسيها، وفي تسلط أنظمتها عليها وجعلها (الأنظمة) حصان طروادة، تأتي بحجة إسقاطها كي تنهب ما تبقّى من ثروات وخيرات، وتبدّد أحلام شعوبها المشروعة بالتنمية والعدالة والحريّة.

الأنكى أن ما يَسنُّهُ صُنَّاع الإعلام التقليدي في الغرب - الذي كشفت الحرب الأوكرانية ثم العدوان على غزة أنه إعلام حكومي، بما في ذلك تلك المؤسسات التي تدّعي الحرية والاستقلالية -من"قوانين" ومصطلحات، يسارع معظم الإعلام العربي إلى تلقفه وتبنيه وترويجه، فلا يعود الفلسطيني الذي يسقط برصاص جيش الاحتلال الاسرائيلي شهيداً، بل مجرد قتيل كأي قتيل آخر يسقط ضحية حادث عَرَضِيٍّ، ولا تعود الاعتداءات الإسرائيلية اعتداءً وإرهاباً بل عمليات عسكرية كأي عملية تجري مثلاً في صحراء خالية من الناس لا تطاول مدناً وبلدات مكتظة بالمدنيين، وَقِسْ على هذا المنوال.

ولولا "موهبة" الأجيال الشابة في استخدام الميديا الحديثة، ونقلها حقيقة الجريمة الإسرائيلية المتمادية، وتفاعل طلاب الجامعات في أميركا وأوروبا مع مظلومية الشعب الفلسطيني، لظلت تلك الصورة المزيفة التي رسّخها الإعلام التقليدي في العقول هي المسيطرة بكل ما تختزنه من قلب للحقائق وتزوير للتاريخ وتزييف للوعي.

أبداً، ليس بريئاً اللعب بالمفاهيم والمصطلحات، لأن هدفه قلب الوقائع وتزييف الوعي الإنساني البديهي وإبداله بِـ"وَعيٍ" آخر مضاد، "وَعِيٍ" مصطنع يخدم السردية الإسرائيلية التي قامت منذ يومها الأول على كذبة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"(!)، ولعلنا اليوم أمام فرصة تاريخية، بفضل تضحيات أبناء غزة وهبَّة طلاب العالم، لإعادة تصويب البوصلة، وتأكيد الرواية الحقيقية التي يبذل الاحتلال قصارى جهده لطمسها ومحوها كي ترسخ في الأذهان روايته الباطلة.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.