فوكوياما ورؤيته للنظام والانحطاط السياسيَين

جميع الديمقراطيات المتطورة تواجه تحديات على المدى الطويل ناجمة عن التزامات إنفاق غير محمولة تقدمت بها الحكومة في سنوات سابقة وسوف تزداد هذه الالتزامات كلما تقدم السكان في السن وكلما زاد معدل المواليد.

كتاب "أصول النظام السياسي" الجزء الأول من موسوعة فرانسيس فوكوياما
كتب ديفيد غريس في صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية أن كتاب المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما "أصول النظام السياسي" مهيب في تعلمه وغير متواضع في طموحه". ووصف مايكل ليند في مجلة نيويورك تايمز الكتاب بأنه "إنجاز كبير من قبل أحد كبار المثقفين العامين في عصرنا". وفي صحيفة واشنطن بوست، قال جيرارد ديغروت "هذا هو الكتاب الذي سيتم تذكرّه".

"النظام السياسي والانحطاط السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديموقراطية" هو الجزء الثاني من ذلك الكتاب وهو واستكمال لأهم عمل من الفكر السياسي خلال جيل على الأقل. إن فوكوياما، الذي يتطرق إلى السؤال الأساس عن كيفية تطور المجتمعات لمؤسسات سياسية قوية وغير شخصية، وخاضعة للمساءلة. يتتبع فوكوياما القصة من الثورة الفرنسية إلى ما يسمى بـ"الربيع العربي" والاختلالات العميقة في السياسة الأميركية المعاصرة. وهو يدرس آثار الفساد على الحكم، ولماذا نجحت بعض المجتمعات في استئصالها. وهو يستكشف مختلف تركة الاستعمار في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، ويقدم وصفاً واضحاً عن سبب ازدهار بعض المناطق وتطورها بسرعة أكبر من غيرها. وهو يعتقد بجرأة بمستقبل الديمقراطية في مواجهة الطبقة الوسطى العالمية المتصاعدة والشلل السياسي الراسخ في الغرب.

يقول فوكوياما إن هذا الكتاب يبحث في تاريخ نشأة هذه المؤسسات وتطورها من خلال مستوى تحليلي يشير بعمق الى المصادر الشاملة لمشاكل وقضايا السياسة. قد لا يكون لبعض القضايا التي نواجهها اليوم، تحديداً، حلولاً سياسية جيدة وبالتالي لا يحوي هذا الكتاب تكهنات بشأن مستقبل الأنواع المختلفة من المؤسسات السياسية ولكنه يصب تركيزه كيف وصلنا الى الحال التي نحن عليها اليوم.

الكتاب الصادر بالإنجليزية في العام 2014، هو كتاب شامل وبارع في النضال من أجل خلق دولة حديثة تعمل بشكل جيد، ويتوقع أن يصبح كتاباً كلاسيكياً.

يتناول الكتاب الأحداث التي وقعت منذ بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وبخاصة أحداث ما سمي بـ"الربيع العربي" في العالم العربي والفترة التي تلتها.

يقول فوكوياما إن الثورات التي اندلعت ضد الحكومات الديكتاتورية عام 2011 في أنحاء كثيرة من العالم العربي: تونس، مصر، اليمن، وسوريا وغيرها كانت غالباً ما تحركها مطالب بمزيد من الديمقراطية. لكن بعد سنتين من الثورات المطالبة بالديمقراطية على الشكل الذي تمارسه أوروبا وشمال أميركا بدت هذه المطالب بعيدة كل البعد عن تحقيقها.

فعلى سبيل المثال: في ليبيا قامت الميليشيات المسلحة بإغلاق معظم مصانع إنتاج النفط في البلاد والتي تعتبر المصدر الوحيد للبلاد من عائدات التصدير بينما ميليشيات أخرى كانت مسؤولة عن قتل السفير الأميركي كريستوفر ستيفنس في بنغازي وعن قتل العشرات من المتظاهرين في العاصمة طرابلس احتجاجاً على احتلال هؤلاء الميليشيات للعاصمة. فقد تشكلت هذه الميليشيات في أجزاء عديدة من البلاد كمعارضة لحكم الديكتاتور معمر القذافي والذي امتد لسنوات طويلة. وقد استطاع هؤلاء الإطاحة به بمساعدة كبيرة من حلف شمال الأطلسي في عام 2011 عند اندلاع ثورات الربيع العربي.

فمنذ ذلك الوقت قامت ليبيا بمحاولات لإنشاء جمعية تأسيسية من شأنها صياغة دستور جديد. ولكن حتى هذه اللحظة من أهم المشاكل التي تواجه مثل هذه الخطوة هي غياب الدولة والمقصود هنا السلطة المركزية التي بامكانها ممارسة احتكار القوة الشرعية فوق أراضيها للحفاظ على السلام وإنفاذ القانون.

بينما في أنحاء أخرى من أفريقيا، يعتبر فوكوياما إن إدعاء الدول باحتكارها للقوة هو بمثابة ادعاء على الورق فقط وهي دول في ذات الوقت تعاني من الفوضى ولكن بنسبة أقل من ليبيا. ولكنها تبقى دولاً ضعيفة جداً فالجماعات المتطرفة التي تم إخراجها بالقوة من جنوب آسيا والشرق الأوسط كانت تتخذ لنفسها موطئ قدم في الدول ذات الحكومات الضعيفة مثل مالي، النيجر، نيجيريا والصومال. والسبب أن هذا الجانب من العالم هو الأكثر فقراً لجهة المدخول والصحة والتعليم بالإضافة الى ضعف الحكومات.

يقول الباحث إنه خلال الفترة نفسها كان ثمة سيناريو مختلف تماماً يدور في الولايات المتحدة الأميركية له صلة بالقطاع المالي، فخلافاً للمشهد السياسي الذي كان سائداً في ليبيا تحت نظام القذافي، فإن الولايات المتحدة دولة تقوم على المؤسسات بشكل كبير، معتمدة على الديمقراطية. وهذا الأمر يعود الى أكثر من قرنين من الزمن ولكن هذه الدولة لا تعمل بشكل جيد، ربما لأن مشاكلها مرتبطة بحقيقة أنها قائمة على المؤسسات بشكل كبير.

الأزمة المالية العالمية

"النظام السياسي والانحطاط السياسي" الجزء الثاني من كتاب فوكوياما
قبل الأزمة المالية في العام 2008، كانت هناك العشرات من المؤسسات الفدرالية تغطي الخمسين ولاية الأميركية والتي لديها سلطة وضع الأنظمة وفرضها على المؤسسات المالية، بما فيها البنوك. ومع ذلك لم تكن الحكومة مدركة تماماً لأزمة الرهن العقاري التي كانت تلوح في الأفق وقد سمحت هذه المؤسسات للبنوك أن تفرط في منح القروض. كما سمحت بظهور نظام ضخم من الظل المصرفي الذي أُنشئ حول مشتقات مالية معقدة الى حد لا يمكن تقديره بشكل صحيح.

بعض المعلقين على هذه الأزمة حاول إلقاء اللوم حصرياً على الرهون العقارية المضمونة والمموّلة من "فاني ماي" و"فريدي ماك" حيث ساهمتا في الأزمة الاقتصادية. ولكن الشركات الخاصة كان لها دور في إذكاء جنون الرهن العقاري حيث قامت باتخاذ مخاطر لا داعي لها، لأن البنوك الكبيرة كانت تعرف تماماً بأنها في نهاية المطاف سوف يتم إنقاذها من قبل الحكومة في حال دخولها في المتاعب. هذا بالضبط السيناريو الذي حصل في أعقاب إفلاس بنك "ليمان براذرز" في ايلول/سبتمبر 2008، مما أدى الى مشارفة نظام المدفوعات العالمي على الانهيار، وشهدت أميركا أعمق حد من الركود منذ أزمة الكساد الكبرى عام 1939.

وعلى الرغم من الاعتراف واسع النطاق بالمخاطر الجمّة التي تسبّبها فئة المصارف المصنّفة بأنها "أكبر من أن تفشل"، فإن القطاع المصرفي الأميركي أصبح مركزياً أكثر مما كان عليه في العام 2008. ففي السنوات التي أعقبت الأزمة، أصدر الكونغرس قانون "دود ـ فرانك" والذي كان يفترض أن يحل هذه المشكلة. ولكن الجهة التشريعية تجاهلت حتى أبسط  المعالجات، وذلك لصالح وجبة من لوائح جديدة شديدة التعقيد.

بعد ثلاث سنوات على تمرير هذا التشريع، فإن العديد من هذه القوانين المفصلة لم يتم وضعها كتابة كما أنها في الأغلب، حتى وإن تمت كتابتها، فإنها لن تستطيع حل المشاكل الملحة للمصارف المصنفة بأنها "أكبر من أن تفشل". هناك سببان رئيسيان لهذا الإخفاق. الأول له علاقة بالصرامة الفكرية. فقد ادعت المصارف بأن إصدار لوائح وقوانين مشددة لأنشطتها قد يقتطع من قدرتها على الإقراض، وبالتالي قد يؤدي الى تقويض النمو الاقتصادي والى تداعيات في غاية الضرر. تصلح هذه الادعاءات عادة عندما يتم تطبيقها على المؤسسات غير المالية مثل مؤسسات الصناعة التحويلية، وهذه الادعاءت تخدع الناخبين المحافظين الذين يرتابون من "الحكومة الكبيرة". ولكن كما بيّن العالمان آنات آدماتي ومارتن هيلويغ، فإن المصارف الكبرى هي مختلفة تماماً عن الشركات غير المالية، نظراً لمقدرتها على الإضرار بالاقتصاد بطرق غير متاحة للشركات الصناعية.

والسبب الثاني لهذا الإخفاق هو أن المصارف هي غنية جداً ولديها نفوذ كبير ويمكنها شراء جيش من جماعات الضغط بأثمان باهظة للعمل لصالحها. بالرغم من موجة الغضب العارمة التي تنتاب العامة ضد القطاع المصرفي وإنقاذ دافعي الضرائب، فقد نجحت جماعات الضغط تلك في منع صدور لوائح ذات أهمية بحيث أنها يمكن أن تصب مباشرة في حلّ المشكلة الناتجة عن المصارف التي هي "أكبر من أن تفشل".

ويشير فوكوياما إلى سيناريو آخر يربط ثورات "الربيع العربي" بتلك التي اندلعت في تركيا والبرازيل عام 2013. فقد تزعمت كل من الدولتين، تركيا والبرازيل، اقتصاديات "الأسواق الناشئة" والتي شهدت نمواً اقتصادياً سريعاً خلال العقد الفائت. فخلافاً للديكتاتوريات العربية، فإن تركيا والبرازيل دولتان ديمقراطيتان تعتمدان انتخابات تنافسية. وقد حكم تركيا رجب طيب أردوغان رئيس حزب العدالة والتنمية والذي بدأ مساره كرئيس لبلدية اسطنبول. أما البرازيل فقد انتخبت ديلما روسيف ذات الخلفية الاشتراكية رئيسةً لها، حيث تعرضت للسجن في شبابها من قبل الديكتاتور الحاكم من عام 1964 حتى عام 1985. ولكن بالرغم من تلك الإنجازات الاقتصادية والسياسية المؤثرة في كل من تركيا والبرازيل، إلا أنهما شهدتا احتجاجات ضخمة. وسبب الاحتجاجات المباشر في تركيا كان عزم الدولة تشييد مركز تسوّق مكان حديقة عامة، هي حديقة غازي في منطقة تقسيم في اسطنبول. فالكثير من المحتجين الشباب اعتبروا أنه على الرغم من حكم أردوغان الديمقراطي، فإن الأخير لديه نزعات تسلّطية جعلته بعيداً عن التواصل مع الجيل الجديد من الشباب الأتراك.

في البرازيل كانت مسألة الفساد وفشل الحكومة في تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين، على الرغم من إنفاقها مليارات الدولار على استضافة كأس العالم لكرة القدم وعلى الألعاب الأولمبية في الصيف، هما سبب اندلاع الاحتجاجات في ذلك البلد.

ما يربط هذه الاحتجاجات بعضها ببعض من جهة وبالربيع العربي من جهة أخرى – في رأي فوكوياما - هو حقيقة أن جميع هذه الاحتجاجات كانت تقودها الطبقات الوسطى إذ نتيجة للنمو الاقتصادي الذي ظهر خلال فترة الجيل السابق، ظهرت طبقة وسطى جديدة في كل من البلدين (تركيا والبرازيل) بحيث كانت توقعاتها أكبر بكثير من جيل الآباء. وقد شهدت تونس ومصر معدلات نمو منخفضة وفي نفس الوقت فإن الجامعات في كلا البلدين كانت تخرّج أعداداً كبيرة من الطلاّب الذين يطمحون الى الحصول على عمل. ولكن هذه الطموحات كانت تصطدم بنظام المحسوبية المتبع من قبل الأنظمة المطلقة. وبالتالي، فإن حقيقة إقامة انتخابات ديمقراطية في كل من تركيا والبرازيل لم تكن كافية لإرضاء المحتجين. ففي الواقع يجب على الحكومة أن تسوّق نتائج أفضل إذا ما أرادت أن يُنظر اليها على أنها شرعية. كما أنها تحتاج لمرونة أكثر في تعاطيها مع المطالب المتغيّرة لعامة الشعب. فعلى سبيل المثال، فإن الصين تمثّل نموذجاً آخر من النجاح الاقتصادي. ومع ذلك فقد بدأت تواجه تحديات مماثلة ناتجة عن الطبقة الوسطى الصاعدة والتي وصل تعدادها حالياً الى نحو مئات من الملايين. فبينما استفادت هذه الطبقة الوسطى من النمو الاقتصادي المتسارع على مدى الجيل الماضي، إلا أن الجيل الحالي، مثله مثل غيره في أماكن أخرى، لديه توقعات أعلى ومغايرة عن الجيل السابق. إن ديمومة الأنظمة السياسية في تلك الدول تعتمد بشكل كبير على الدرجة التي تستطيع فيها حكوماتها التأقلم مع المشهد أو الوضع الاجتماعي الجديد الذي خلقه النمو الاقتصادي.

إن الأمثلة الثلاثة السابقة قد يُنظر اليها على أنها قضايا ناتجة عن أسباب مختلفة تتعلق بمشكلات سياسية، أو مشكلات مع شخصيات محددة أو مشكلات في سياق تاريخي. ولكن كل هذه القضايا في الواقع يربطها خيط مشترك وهو المؤسسات التي تعتبر شرطاً أساسياً للحياة السياسية برّمتها.

ي

المؤسسات السياسية الثلاث

المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما
قول فوكوياما إن المؤسسات هي عبارة عن "أنماط مستقرة، ذات قيمة متكررة من السلوك" وقد استمرت ما قبل تولّي الزعماء الحكم. والمؤسسات في الأصل هي عبارة عن قوانين متواترة تشكّل وتحدد وتوجّه السلوك الإنساني. وكانت مشكلة حكم نظام القذافي السابق هي افتقار هذا الحكم الى المؤسسات الأساسية وبشكل أدق افتقاره الى الدولة. طالما هناك مصدر مركزي أحادي للسلطة يحتكر ممارسة النفوذ الشرعي في هذه البلاد، فإنه لن يكون هناك أمن لأي مواطن أو لن تتوافر الظروف المناسبة للأفراد من أجل أن يزدهروا.

أما في الكفة الأخرى فإن الولايات المتحدة الأميركية لديها مؤسسات ذات نفوذ قوي ولكنها كانت عرضة للفساد السياسي. فالمؤسسات الحكومية التي يفترض أن تخدم الأهداف العامة وقعت تحت سيطرة المصالح الخاصة لأصحاب النفوذ. فالمشكلة لا تكمن فقط في المال والنفوذ ولكنها أيضاً لها علاقة بصلابة القوانين نفسها وبالأفكار التي تدعم تلك القوانين.

وأخيراً، فإنه في حالة الدول ذات الأسواق الناشئة مثل تركيا والبرازيل، فإن المشكلة هي التغيّر الاجتماعي الذي تجاوز المؤسسات الموجودة. بإيجاز، فإن المؤسسات هي أنماط متواترة من السلوك وهي وليدة لاحتياجات لحظة تاريخية معيّنة. لكن المجتمعات، وبالأخص تلك التي تشهد نمواً اقتصادياً متسارعاً، لا تقف مكتوفة الأيدي. فقد خلقت هذه المجتمعات طبقات اجتماعية جديدة، وقامت بتقديم العلم لمواطنيها ووظفت تقنيات جديدة مما أدى الى خلط الأوراق الاجتماعية. ونتيجة لهذا الأمر فقد أخفقت المؤسسات الموجودة في تقبل هؤلاء اللاعبين الجدد، مما أدى إلى اندلاع الثورات المطالبة بالتغيير.

يتناول فوكوياما في الفصل الأول جذور ثلاث مؤسسات سياسية مهمة هي: الدولة وسيادة القانون والإجراءات التي من شأنها تحفيز عمل المحاسبة. ويشرح كيف نشأت تلك المؤسسات منفصلة أو مجتمعة أو كيف أخفقت في الظهور في الصين والهند والشرق الأوسط وأوروبا.

ويشرح الكاتب تاريخ نشأة المؤسسات التي كانت نتيجة النزعة الإنسانية نحو إضفاء الطابع المؤسسي على سلوكه وكيف تطور هذا الأمر في الإطار الاجتماعي من الجماعة الى مفهوم القبيلة الذي يدور حول الاعتقاد بنفوذ الأجداد. وقد ساد هذا الأمر في المجتمعات القديمة في الصين والهند واليونان والشرق الأوسط وما قبل الحضارة الكولومبية الأميركية وفي أوساط أسلاف الجرمانية في الدول الأوروبية الحديثة. لكن التحوّل الى النظام القبلي يتطلب ظهور الفكر والمعتقد الدينيين في قدرة الأجداد الذين رحلوا والأحفاد الذين لم يولدوا بعد في التأثير في صحة وسعادة حياة المرء الحالية.

والتحوّل اللافت من الجماعة والقبيلة تمثل في ظهور الدولة. فالدولة على عكس الجماعة والقبيلة تمتلك احتكاراً شرعياً للقسر وتمارس هذا النفوذ على أرض محددة. ولأن الدول تتصف بالمركزية والهرمية فإنها تميل، أكثر من سابقاتها من أشكال التنظيم التي قامت على أساس صلة الدم، الى إنتاج درجة عالية من عدم المساواة الاجتماعية.

وهناك نوعان من الدولة: الدولة التي تديرها عائلة حيث يتم اعتبار الحكومة كملكية خاصة للأسرة الحاكمة. وهذا النوع من الأشكال الطبيعية الاجتماعية من الاعتماد على الأقارب والأصدقاء لا يزل يعمل في الدول التي تعتمد  في حكمها على مبدأ صلة الدم. ومن ناحية أخرى، فإن الدولة الحديثة تمتاز بالتجرّد إذ أن علاقة المواطن بالحاكم لا تقوم على أساس العلاقات الشخصية بل على قيد الفرد بصفته مواطن. ولا تتم إدارة الدولة من قبل أفراد عائلة الحاكم أو أصدقائه بل يتم تعيين الأفراد في مناصب حكومية في الدولة على أساس من التجرد مثل الأهلية والدرجة العلمية والمعرفة التقنية.

وبالتالي، فإن تطوّر الدولة الحديثة احتاج الى استراتيجيات محددة لتحويل النظام السياسي من نظام قائم على حكم العائلة والأصدقاء الى نظام قائم على التجرّد. فعلى الدولة الحديثة أن تتجاوز نظام المحسوبية في عملية اختيار موظفيها ومسؤوليها. وكانت الصين سباقة في هذا الأمر حيث ابتدعت نظام اختبار الخدمة المدنية في القرن الثالث قبل الميلاد. كما أن العرب والعثمانيين جاؤوا بنهج جديد لنفس المشكلة: فإن مؤسسة الرقيق من الجنود حيث كان يتم أسر الصبية غير المسلمين الذين يؤخذون من عائلاتهم ويتم تربيتهم لكي يصبحوا جنوداً وإداريين ذوي ولاء للحاكم دون أن تكون لديهم أية علاقة بمحيطهم الاجتماعي.

حكم القانون

المفكر الأميركي صموئيل هنتنغتون
إن القانون في غرب أوروبا كان الأول من بين المؤسسات الثلاث الكبرى التي ظهرت. والصين لم تطور قطّ واقعاً دينياً مبهماً. ربما لهذا السبب لم تطوّر قط مبدأ سيادة القانون بمعناه الحقيقي. إذ ظهرت الدولة أولاً، وحتى يومنا الحاضر لم يتواجد القانون قطّ على أنه يمثل قيداً أساسياً على السلطة السياسية. ولكن التسلسل في أوروبا اختلف، حيث كانت نشأة القانون قبل ظهور الدولة الحديثة. أما المؤسسة الأخيرة التي ظهرت من ضمن مجموعة مؤسسات الدولة الثلاث فكانت المساءلة الديمقراطية.

ويتحدث الكتاب عن تطور الدولة والقانون والديمقراطية خلال القرنين الأخيرين وكيف تفاعلت هذه المكوّنات مع بعضها البعض من ناحية، ومع الأبعاد الأخرى من التطور الاقتصادي والاجتماعي من ناحية أخرى. وأخيراً كيف أظهرت هذه المكوّنات إشارات تآكل في الولايات المتحدة وفي غيرها من الديمقراطيات المتطورة. التطور السياسي يعني تغييراً في المؤسسات السياسية عبر الزمن. وهذا الأمر يختلف عن التحوّل في السياسات، فرؤساء الوزارات والرؤساء والمشرّعون ليسوا دائمين في مناصبهم، والقانون يمكن أن يتم تعديله ولكن الأحكام التي بموجبها يتم تنظيم المجتمعات هي التي تحدد النظام السياسي.

ويشرح فوكوياما أن توقيت انتشار الديمقراطية في مختلف الدول مرتبط بمواقف ومطالب الطبقة الوسطى، والطبقة العاملة والنخبة من ملاك الأراضي وطبقة الفلاحين التي تغيّرت مطالبها ومواقفها مع مرور الوقت. وقد شهد عام 1848 اندلاعات الثورات في أنحاء أوروبا. وقارن فوكوياما هذه الثورات بثورات الربيع العربي التي اندلعت عام 2011. والتجربة الأوروبية تظهر كيف كان الطريق الى الديموقراطية الحقيقية صعباً. إذ خلال أقل من سنة على اندلاع الثورة، فإن الديكتاتوريات القديمة قد تم إصلاحها في كل مكان تقريباً. وهكذا فإن انتشار الديمقراطية يعتمد على شرعية فكرة الديمقراطية.

ويركز فوكوياما على نشأة المؤسسات السياسية داخل المجتمع الواحد وليس على المؤسسات السياسية الدولية، ويرى أن درجة العولمة الحالية والاعتماد المتبادل بين الدول قد أديا الى أن تحتكر الدولة بدرجة أقل تقديم الخدمات العامة لمواطنيها. واليوم هناك أعداد كبيرة من الهيئات الدولية والمنظمات غير الحكومية والشركات متعددة الجنسيات والشبكات غير الرسمية التي حلت محل الدولة في تقديم الخدمات لمواطنيها وعادة ما ترتبط نوعية هذه الخدمات بالحكومة. ولكن هذه المؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية وغيرها لا يمكن أن تحل محل دور الدولة في مسائل تجارة المخدرات والقوانين المالية وغيرها. ولكن كل هذه القضايا ليست موضوع الكتاب.

ويعتقد الكاتب أن تطور مجموعة المؤسسات السياسية الثلاثة أصبح حاجة في كل المجتمعات مع مرور الوقت. إذ لا يوجد بديل عن دولة حديثة متجردة كضمانة للنظام والأمن وكمصدر للمنفعة العامة. وسيادة القانون أمر مهم للنمو الاقتصادي إذ دون حقوق ملكية واضحة وإنفاذ للعقود من الصعب إحراز أي نوع من الثقة في مجال الأعمال.

الديمقراطية الليبرالية التي تجمع بين تلك المؤسسات السياسية الثلاث لا يتسنى القول بعالميتها الإنسانية، لأن هذه الأنظمة وجدت فقط خلال القرنين السابقين من التاريخ وتطورت من أنواع من الأنظمة التي كانت سائدة منذ عشرات الآلاف من السنين. ولكن التطور هو عملية مترابطة تنتج نهضة عامة ومحددة وهي تقارب المؤسسات السياسية مع مرور الوقت عبر المجتمعات. ويستنتج فوكوياما أن هناك إخفاقاً سياسياً على مستوى العالم، وليس فقط على مستوى الدول النامية، ولكن أيضاً على مستوى الدول الحديثة المستقلة، القادرة والمتجردة والمنظمة بشكل جيد. فالعديد من مشاكل الدول النامية هي ناتجة عن ضعف الدولة وعدم فعاليتها.

وفي ذات الوقت فإن الدول النامية ليست مجرد مقاطعة من الدول الفقيرة التي هي في طور النمو فلا اليونان ولا ايطاليا استطاعتا تطوير إدارة بيروقراطية ذات جودة عالية حيث بقيت كلتاهما غارقتين بدرجة عالية في المحسوبية والفساد المبين.  وقد أسهمت هذه المشاكل بشكل مباشر في أزمة اليورو الحالية.

أمّا الولايات المتحدة فهي بحسب فوكوياما دولة حديثة تديرها مؤسسات كبرى ولا تلعب فيها البيروقراطية دوراً كبيراً. ولكن برغم النمو الضخم في المؤسسات الإدارية فقد لعبت المحاكم والأحزاب السياسية دوراً مؤثّراً في سياساتها وهي الأدوار نفسها التي تؤديها البيروقراطيات المحترفة في الدول الأخرى. لذلك فإن الأسباب العديدة لعدم كفاءة الحكومة الأميركية ناتجة عن تأثير المحاكم والأحزاب السياسية على سياساتها.

ويعتقد فوكوياما أن جميع الديمقراطيات المتطورة تواجه تحديات على المدى الطويل ناجمة عن التزامات إنفاق غير محمولة تقدمت بها الحكومة في سنوات سابقة وسوف تزداد هذه الالتزامات كلما تقدم السكان في السن وكلما زاد معدل المواليد. وبالتالي فما يهم هنا هو ليس حجم الحكومة وإنما نوعية ما تقدمه. فهناك ارتباط قوي بين نوعية الحكومة والمدخول الاقتصادي والاجتماعي الجيد.

يقول الكاتب إنه والكتاب لن يقدم أي إجابات واضحة لسؤال حول كيفية تحسين جودة الحكومة ولكنه سوف يتكلم عن تاريخ نشأة الحكومات لأنه يعتبر بأن المرء لا يمكن أن يبدأ فهم كيف يمكن لحكومة سيئة أن تصبح جيدة إذا لم يفهم تاريخ نشأة الحكومتين الجيدة والسيئة.

ويتناول فوكوياما كيف أن التطور السياسي ما هو إلا عنصر من عناصر النمو الأخرى، أي أنه يقع ضمن إطار أوسع لمفهوم التطور الذي يتألف من أبعاد اقتصادية واجتماعية وأيديولوجية، وبالتالي فإن التطور السياسي بأبعاده الثلاثة (الدولة، سيادة القانون، والديمقراطية) يعتبر وجهاً واحداً فقط من أوجه النمو الاجتماعي - الاقتصادي للإنسان. وبالتالي فإن التغيّرات في المؤسسات السياسية يجب أن تفهم في إطار النمو الاقتصادي والتعبئة الاجتماعية وقوة الفكر تجاه قضايا العدل والشرعية. ويضيف الكاتب بأن التفاعل بين الأبعاد المختلفة المذكورة أعلاه تغير بشكل دراماتيكي عقب الثورتين اللتين قامتا في فرنسا وأميركا. وبالإضافة الى النمو الاقتصادي والتعبئة الاجتماعية، فهناك تطور الأيديولوجيات في ما يتعلق بالشرعية فالأخيرة تمثل تصوّراً مشتركاً بأن ترتيبات اجتماعية محددة تعتبر عادلة.

ويشرح فوكوياما أن معدلات النمو الاقتصادي تزايدت بشكل دراماتيكي في حوالي العام 1800 مع انطلاق الثورة الصناعية. وقد أدى تزايد الإنتاج الى تجاوز معدل النمو السكاني. وكان هذا التوسع بدوره مدفوعاً بمجموعة من العناصر السياسية والمؤسساتية: إنشاء حقوق الملكية، ظهور الدول الحديثة، اختراع عمليات القيد المحاسبية المزدوجة، شركة حديثة جديدة، وتقنيات جديدة للاتصال والتنقل. وهذا التحول المفاجئ الى أعلى مستوى من درجات النمو كان له تأثير عظيم على المجتمعات عبر التوسّع في تقسيم العمل.

والتعبئة الاجتماعية تخلق تغيّراً سياسياً من خلال تكوين جماعة جديدة تطالب بالمشاركة في النظام السياسي. وطوال مدة النهضة الصناعية في أوروبا وأميريكا في أواخر القرن التاسع عشر، بدأ العمال بالانضمام الى الاتحادات التجارية وقاموا بالضغط للحصول على رواتب أعلى بالإضافة الى الحصول على ظروف عمل آمنة ومعدلة. كما أنهم تحركوا من أجل المطالبة بحقهم في التحدث علناً وبحقهم في التنظيم والتصويب. بل أكثر من ذلك، بدأ العمال بدعم الأحزاب السياسية الجديدة والتي بدورها بدأت تفوز في الانتخابات تحت لواء أحزاب مثل حزب العمال البريطاني والحزب الاجتماعي الديمقراطي الألماني. وفي الأماكن التي لم يكن توجد فيها انتخابات مثل روسيا بدأ العمال بالانضمام الى الأحزاب الاشتراكية السرية.

وبالتالي فإن انتشار تكنولوجيا الاتصالات والتنقل دفع بحدوث تغيّر آخر ذي أهمية في ذلك الوقت وهو ظهور العولمة بشكلها المبكر، مما سمح للأفكار بأن تنتشر عبر الحدود السياسية بشكل لم تعهده من قبل. وهكذا انتقلت الأفكار من مجتمع الى آخر بسرعة طباعة الصحف أو بعد ذلك التلغراف، الهاتف، الراديو وأخيراً بسرعة الانترنت. إن النظام السياسي الذي ساد في ظل هذه الظروف أصبح بمثابة معضلة كبيرة إذ أن المؤسسات التي أُنشئت لإدارة المجتمعات الزراعية طغت على المؤسسات الصناعية. وتستمر اليوم تلك الروابط بين التغيّر التكنولوجي والاقتصادي والمؤسسات السياسية، مع وسائط الإعلام الاجتماعي التي تشجع أشكالاً جديدة من التعبئة في الوطن العربي والصين وغيرهما.  

ويرى فوكوياما أن معظم الكُتّاب الذين يدرسون بشكل منهجي ظاهرة النزاع يشيرون الى الحكومات الضعيفة والمؤسسات الفقيرة كأسباب رئيسية لاشتعال النزاع وظهور الفقر. فالمؤسسات الفقيرة في الدول الضعيفة فشلت في السيطرة على العنف الذي ينتج عن الفقر مما يزيد من عدم مقدرة الدولة على الحكم ويؤدي الى مزيد من إضعافها. فيما اعتبر الكثيرون بأن الإثنيات(الأعراق) هي أحد مسببات الصراع، آخذين أمثلة على ذلك من تجارب البلقان، جنوب آسيا وأفريقيا وأماكن أخرى من العالم عقب الحرب الباردة. إلا أن ويليام إيسترلي يُظهر أنه عندما يحكم أحدهم من أجل تعزيز قوة المؤسسات، فإن أي رابط بين التنوع الإثني والصراع يزول. الحداثة والنمو الاقتصادي لا يؤديان بالضرورة الى تصعيد مستويات عدم الاستقرار والعنف؛ في الواقع كانت بعض المجتمعات قادرة على تلبية المطالبات من أجل المشاركة من خلال تطوير مؤسساتها السياسية. وهذا بالفعل ما حدث في كوريا الجنوبية وتايوان في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية. والحداثة السريعة التي شهدتها كلتا الدولتان كانت تحت إشراف حكومة ديكتاتورية تمارس القمع. ولكن هذه الحكومات استطاعت تلبية حاجات مواطنيها وما ينتظرونه منها من وظائف ونمو اقتصادي الى تلبية المطالب بديمقراطية أكبر. شهدت فترة آواخر الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين حيث تزايدت معدلات النمو الاقتصادي بشكل هائل ودراماتيكي. كما تزايد عدد الدول التي تحوّلت الى النظام الديمقراطي من 40 الى 120 دولة إلا أن دول منطقة الشرق الأوسط لم تشارك في هذه الموجة من التحوّل الديمقراطي حيث كانت تشهد دولها العديد من الانقلابات والثورات والصراعات المدنية في فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. وقد استقرت في هذه الدول أنظمة ديكتاتورية في جميع أنحاء الدول العربية مثل تونس، مصر، سوريا وليبيا التي حكمتها أنظمة ديكتاتورية لم تسمح بعمل الأحزاب السياسية المعارضة.

أما هذا الأمر فقد تغيّر تماماً في بدايات العام 2011 مع انهيار نظام زين العابدين بن علي في تونس وسقوط حسني مبارك في مصر والحرب الأهلية في ليبيا ومقتل معمر القذافي بالإضافة الى سيادة عدم الاستقرار في البحرين واليمن وسوريا. إن العديد من العناصر هي التي قادت ما يُسمى بـ"الربيع العربي" منها ظهور طبقات وسطى كبيرة في كل من مصر وتونس. إن الطبقات الوسطى احتشدت بفعل تأثير التكنولوجيا مثل الفضائيات من المحطات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر) مما أدى الى الثورات ضد الأنظمة الديكتاتورية بالرغم من عدم مقدرة هذه المجموعات من السيطرة على التطورات اللاحقة.

ما شهده العالم العربي هو حدث فسّره هانتغتون بأن تغيراً اجتماعياً كان يحدث في ظل نظام ديكتاتوري وتطور أدوات تحشيد جديدة أدت الى تنفيس غضبهم ضد الأنظمة التي لم تصدر أي أحكام من أجل إشراكهم في العملية السياسية.

إن وجهة نظر هانتغتون التي تقول بأن الحداثة هي عملية لا يمكن تجنّبها هي مع ذلك وجهة نظر صحيحة. إن الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للتطور تعمل على مسارات وجداول مختلفة وليس هناك أي سبب للتفكير بأنها بالضرورة سوف تعمل جنباً الى جنب. فالتطور السياسي يتبع منطقه الخاص مستقلاً عن النمو الاقتصادي. والحداثة الناجحة تعتمد إذن على تطور المؤسسات السياسية بالتوازي مع النمو الاقتصادي والتغيّر الاجتماعي وتطور الأفكار. وبالتالي، فإن المؤسسات السياسية القوية هي عادة ضرورية من أجل التنمية الاقتصادية في المقام الأول، وإن غياب تلك المؤسسات هو العنصر الذي يضعف الدولة ويضعها في دوامة من الصراع والعنف والفقر.

 

حكم القانون

يعتبر فوكوياما أن النظام السياسي لا يعني فقط أن يتم وضع القيود على الحكومة التعسفية ولكنه في أغلب الأحيان حث الحكومة على القيام بما هو متوقع منها أو بما هو منتظر منها أن تقوم به مثل توفير أمن المواطن وحماية حقوق الملكية وإتاحة التعليم للجميع وتقديم الخدمات الصحية للعامة وإنشاء البنية التحتية الضرورية لحصول النشاط الاقتصادي الخاص. ومن دون شك فإن الديمقراطية نفسها مهددة في العديد من البلدان لأسباب مثل الفساد وعدم كفاءة الدولة لتأمين المتطلبات المذكورة. وقد أصبح الناس يتمنون قيام سلطة قوية يديرها ديكتاتور أو منقذ لقطع الطريق على الثرثارين من السياسيين وجعل الأمور تنجح في الواقع.

فبالإضافة الى توفير احتياجات العوامل الخارجية، تخوض الحكومات بدرجات أكبر أو أقل باللوائح الاجتماعية. وهناك العديد من الأشكال التي يمكن أن تتخذها هذه اللوائح. تريد الحكومات من مواطنيها أن يكونوا مستقيمين وملتزمين بالقانون ومتعلمين ووطنيين. ومن الممكن أن تشجع الحكومات مواطنيها على امتلاك البيوت والأعمال التجارية الصغرى، والمساواة بين الجنسين، والتمرين البدني، والإعراض عن التدخين والمخدرات والانتماء الى العصابات أو الإجهاض.

معظم الحكومات، حتى تلك التي تتقيّد أيديولوجياً بالأسواق الحرة، ينتهي بها المطاف الى القيام بأمور يعتقدون بأنها سوف تشجّع الاستثمار والنمو الاقتصادي. وأخيراً فإن الحكومات لديها دور تلعبه في التحكم بالنخبة والانخراط في قدر معيّن من إعادة التوزيع.

إعادة التوزيع هي وظيفة أساسية لكل نظام اجتماعي، كما لاحظ كارل بولاني، إذ أن معظم الأنظمة الاجتماعية التي سادت ما قبل الأنظمة الحديثة كانت تتمحور حول مقدرة الزعيم أو رئيس الجماعة على إعادة توزيع المواد التي تحتاجها العامة. وقد كانت هذه الممارسة تاريخياً أكثر شيوعاً من تبادل الأسواق.

ومن أكثر الأشكال الأساسية التي تنخرط فيها الدول لإعادة التوزيع هي تطبيق المساواة في القانون. إذ أن الأغنياء وأصحاب النفوذ دائماً ما تكون لديهم سبلهم التي تحفظ لهم مصالحهم، وإذا تُرك الأمر لهم فسوف يطغون بمصالحهم على من هم من غير النخبة. لذلك فإن الدولة ذات السلطة القضائية والتنفيذية وحدها هي التي تستطيع جعل النخبة تلتزم بالقوانين التي يُطالب الجميع من دون تمييز التقيّد بها واتباعها.

وهناك أشكال أخرى من إعادة التوزيع منها الأشكال الاقتصادية التي تمارسها الحكومات الحديثة وأكثرها شيوعاً تلك التي لها علاقة بمجموعة التأمين الإلزامي والتي بموجبها تطلب الدولة من المجتمع أن يساهم في برامج التأمين في حالات مثل الضمان الاجتماعي حيث تتم إعادة توزيع الدخل من الصغير سناً على الكبير سناً، أمّا في حالة التأمين الطبي فيتم توزيعها من الأشخاص الذين يتمتعون بالصحة على المرضى.

بينما اهتم العديد من الآراء السياسية المعاصرة بمسألة الى أي حد يجب على الحكومة أن تتدخل في توفير الاحتياجات العامة، فإن مسألة قدرة الدولة توازيها بالأهمية، لأن أي وظيفة تقوم بها الدولة من مكافحة الحرائق الى تأمين الخدمات الصحية الى اعتماد سياسة صناعية يمكن أن تؤدي بشكل أفضل إذا كانت البيروقراطية فيها ذات جودة لأن الأخيرة هي المسؤولة عن تأدية تلك الوظائف.

إن الحكومات عبارة عن مجموعة من المنظمات المعقدة وأداء تلك المنظمات يعتمد على درجة تنظيمها والموارد البشرية والمادية المتاحة أمامها.

ويخلص فوكوياما الى أن كل المجتمعات المستبد منها والديمقراطي هي عرضة للتآكل مع مرور الوقت ولكن الأهم هو مقدرتهم على التكيّف وإصلاح أنفسهم. فيقول الكاتب إنه لا يعتقد بوجود "أزمة حكم" نظامية ضمن الأنظمة الديمقراطية التي أُنشئت. فالأنظمة السياسية الديمقراطية واجهت مثل كل الأزمات في الماضي، وبالأخص في الثلاثينيات من القرن العشرين عندما وقعت في إحباط اقتصادي وكانت تواجه تحدياً قادماً من الفاشية والشيوعية، وأيضاً في فترة الستينيات والسبعينيات عندما اهتز استقرار تلك الأنظمة الديمقراطية من خلال الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت والركود الاقتصادي والتضخم العالي. لذلك يرى الباحث أنه من الصعب الحكم على نظام سياسي وإبداء توقعات على المدى الطويل خلال عقد معيّن، لأن المشاكل التي يعتقد بأنه لا يمكن تخطيها في وقت معيّن، تختفي في وقت آخر.