بعد 7 قرون على رحيله.."دانتي" المنفي يأكل من خبز الملائكة

نُفي من مدينته، وحُكم عليه بالإحراق إذا ما عاد إليها، وألّف "الكوميديا الإلهية"؛ إحدى روائع الأدب العالمي. ما الذي يجعل دانتي حياً بعد 7 قرون على رحيله؟

  • بعد 700 عام على رحيله..

من يتأمل في اسم الشاعر الإيطالي دانتي ألغييري (1265- 1321) بمعناه الحرفي "الواهب ذي الجناحين"، سيدرك نصيبه الكبير من ذاك الاسم و"صورة الوسيط التي طالما وجد نفسه فيها".

على صعيد الزمن عايش دانتي أحداث النصف الثاني من القرن الــ 13 والنصف الأول من القرن الــ 14، وعانى من أعنف آخر قرون العصر الوسيط المضطرم والمُمَهِّد لـــ "عصر النهضة"، مشاركاً بفعالية في الحياة السياسية، ومنادياً بضرورة فصل الدين عن الدولة، خاصةً بعدما هاله الفساد المحيق بالكنيسة الرومانية واتجار رجالها بالنفوذ السياسي و"صكوك الغفران" ورفات القديسين في مؤامرات ودسائس.

على هذا الأساس انخرط دانتي في حزب "الغَيلْف" الداعي إلى استقلال فلورنسا عن سلطة روما وإلى الحد من سلطة البابوات، وراح يجابه الحزب المناوئ "الغِبِلّين"، وتسنّم مسؤوليات سياسية وحكومية عالية، لكنه فشل في إحلال روح الوئام والعدل بين رفاقه، لاسيما بعد انقسام حزبه إلى حزبين دُعيا بـ"الغيلف البيض" وفيه بقي دانتي، و"الغيلف السود" الذي صار أميل إلى البابا.

في هذا المناخ وقعت مجازر وحروب طاحنة، ونتيجة مواقف دانتي الحازمة، تلقى حكماً غيابياً بالإعدام بعد انهزام حزبه، فاختار المنفى، رافضاً القبول بالعفو المعروض عليه إذ كان مشروطاً بأن يتقدم بالتماس المغفرة. 

ما فشل فيه سياسياً سعى دانتي لتحقيقه على مستوى إبداعه الأدبي، مُتغلِّباً على منفاه بتوطين اللغة. إذ أسَّس للغة إيطالية بلغت مستويات غاية في الروعة، بحيث ما زال لقبه "أبو اللغة الإيطالية" مُكرَّساً لدرجة كبيرة، على اعتباره حرَّر الإيطاليين من ربقة اللاتينية التي كانت سائدة بحكم سيطرة الكنيسة ولا يفهمها إلى النخبة.

أي أنه كان وسيطاً لغوياً بين عوام إيطاليا ولغتهم، ولعل أهم ما أنجزه في هذا السياق هو "الكوميديا الإلهية" التي ما زالت آثارها ممتدة في الآداب العالمية منذ 700 عام وحتى الآن، وتفرَّغ لها دانتي، كما قال الشاعر الإيطالي أُنغاريتي، انطلاقاً من اعتقاده القوي في أن عدالة معينة تظل تفرض نفسها، وأن تسامياً أو خلاصاً لا يبدو ممكناً من دون أن يتلقى كل امرئ جزاء فعله، ثواباً كان أم عقاباً.

  •  1883 Henry Holiday
    دانتي ويياتريشي (Henry Holiday - 1883) 

انطلاقاً من هذا الاعتقاد يصور دانتي في كوميدياه مسيرة إنسان يعلم أنه لن يدرك الخلاص ما لم يحقق هذا النزول إلى أسفل درك في المعاناة الكلية، في هاوية الذات والبشرية التي يتصاعد منها أنين المعذبين وصراخ الخاطئين "الجحيم"، لينتقل منها تدريجياً إلى رؤية "المَطْهر" المسكون بمن هم في منزلة وسطى بين الخطيئة والبراءة، ثم إلى "الفردوس" حيث يقابل الأنبياء والملائكة والقديسين والطوباويين، وبين أولئك محبوبته بياتريشي التي توبّخه على ضلاله الأول، ثم تحلّ له ألغاز السماء وتكشف له عن مهمته التي سيعود من أجلها إلى الأرض، وهي مهمة شعرية يقول فيها كل ما عانى وما شاهد، مشكِّلاً "حزبه الخاص"، "تاركاً الآخرين يحكّون أنفسهم حيثما أصابهم الجرب".

ولعل أهم دافعين وراء إنجازات دانتي كان منفاه عن فلورنسا أولاً، ومن ثم منفاه الروحي بعد وفاة حبيبته بياتريشي، واسمها الحقيقي بيشي بورتيناري التي أحبها عندما كان في التاسعة وعاد والتقاها في الثامنة عشرة ثم توفيت في السادسة والعشرين، ما جعله يوارب منفيَيه بالدراسة ضمن الحلقات الدومينيكانية والفرانتشسيكانية بما تضمنتهما من تعاليم وفلسفات توما الأكويني وابن رشد الأندلسي، ومنهما جاء تأثره بــ "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري.

ولذلك نرى أن الشاعر الإيطالي شرع في كتابة "الحياة الجديدة" (فيتا نوفا) لترسيخ وهج حبِّه الصوفي، والدخول إلى أعماق مشاعره الملتهبة وشهواته، وفق مغامرة في اللغة الشعرية ستأخذ في ما بعد اسم "الأسلوب العذب الجديد"، وفيها تجسيد حيّ للإلهام المُطلق، والغيرية الصادقة، التي تجلب الغبطة المهيبة المتجلية "في الكلمات التي أمتدح بها سيدتي" كما يقول دانتي نفسه.

أما الجميل في تلك اللغة فتحويل الحب إلى ظاهرة كونية، الذي سيتعزز لاحقاً في ملهاته الآسرة، ليبقى موضوع وفاة بياتريشي معاشاً في "الحياة الجديدة" كحلم استباقي وكارثة غير عادية، فهو ما زال راغباً في أن يقول عنها ما لم يُقَل عن امرأة أخرى قط، ليختتم كتابه بالقول: "أبعد من المدار الذي يقوم بأكبر دورة.. تذهب الحسرة المنبثقة من قلبي"، وهكذا يكون وُلِد النابض الذي سيوصل إلى تصور "الكوميديا الإلهية".  

كما وضع دانتي ثلاثة مؤلفات فلسفية وألسنيّة بقيت مبتورة جميعاً، لأن كوميدياه كانت تجتذبه كل مرة، لكن ذاك الانبتار لم يكن على الإطلاق قطيعة بين النظري والشعري، بل شكلت تنظيراه باباً وحافزاً إلى القصيدة التي تتكفل بأن تعالج في داخلها ما كتبه الشاعر بلغته الفكرية الثرية. ومن تلك الكتب "في الفصاحة العامية" وهو بيان في مسألة اللغة والدور الذي ينبغي أن يقوم به الشعر لبلورة لغة إيطاليا المنتظرة، وتطبيقه الحي نقرأه ضمن الكوميديا، وفيه يرى دانتي أن بعض اللغات الكبرى كاللاتينية واليونانية القديمة لغات نبيلة لكنها تنطوي على شيء من الاصطناع، بينما اللغات الأخرى المرتبطة بحياة البشر وهواجسهم اليومية، فمنذورة للفساد ومع ذلك تظل أقرب إلى العاطفة لكونها ذات مبعث وجودي أصيل، ولعل ذلك ما جعل العامية التي نادى بها بمثابة فصحى جديدة لها نبلها الخاص. 

كتابه "المأدبة" أيضاً لن يصل إلى اكتماله، لأن محبة الفلسفة ستجد هي الأخرى طريقها إلى الممارسة داخل العمل الكبير، وهذا العمل مستلهم من القديس يوحنا الذي يصور المعرفة مثل مأدبة ويسمّي الزاد الروحي والفكري "خبز الملائكة"، ويتصور فيه دانتي ذاته جالساً أسفل مائدة المعرفة يلتقط كسراً من ذاك الخبز الملائكي، وهو ما سنجد له انعكاساً في فصل "الفردوس".

  • تابوت رمزي لدانتي في فلورنسا
    تابوت رمزي لدانتي في فلورنسا

كما يتضمن هذا الكتاب آثار حداد قوية على بياتريشي، ويُقال بأن الشاعر الإيطالي تأثر فيه بكتابي "الصداقة" لشيشرون و"التعزي بالفلسفة" لبويسيوس، وفيه يجعل من الفلسفة "سيدة طيبة رؤوم" ويتكلم عنها بتعابير الحب المشبوب، ليكمل ما بدأه في هذا العمل بكتاب "في الملكية" غير المكتمل أيضاً، وفيه يقوم من تناولوا خبز الملائكة بإطعام الآخرين، ويركز فيه دانتي على ملك اللوكسمبورغ هنري السابع كأحد السعاة لتحقيق حلم طوباوي بحكومة تقيم سلاماً كونياً، ويشبه النقاد هذا الكتاب بـ"السياسة" لأرسطو، لاسيما أن الشاعر الإيطالي جعل للإنسانية غايتين كبرَيين هما حُكم ما لا يقبل الفساد وصولاً إلى متعة رؤية الله في السماء، وحكم ما هو منذور بطبيعته للفساد، سعياً إلى تحقيق السعادة الأرضية، أي حكم الروحاني من جهة، والزمني من جهة أخرى. 

جميع كتب دانتي إلى جانب مجموعة من الرسائل والمحاضرات شكلت بمعظمها زاداً شعرياً جسّده في "الكوميديا الإلهية" التي وصفها خورخي لويس بورخيس بأنها "أفضل كتاب أنتجه الأدب على الإطلاق".

وإن كان منفياه ألهماه هذه الملهاة العظيمة، فإن الملهاة ذاتها سعت بطيب سمعتها إلى تخليصه من المنفى وإعادته إلى فلورنسا التي أحب. إذ أدركت مدينته بعد أكثر من نصف قرن على وفاته ما ارتكبته بحق ابنها العبقري من الظلم والجحود، وأرادت أن تكفر عن تعسفها.

ولذلك عهدت إلى بوكاتشو وبيترو ابن دانتي بتدريس "الكوميديا الإلهية" للجمهور، وذاعت بالتدريج بين الناس وانتشر صيتها في أنحاء إيطاليا، وشيدت له فلورنسا قبراً رمزياً يتكون من تابوت فارغ يعلوه تمثال جالس للشاعر متوج بإكليل الغار، وإلى يمين التابوت سيدة واقفة ترمز لإيطاليا وتشير بيدها إلى الكلمات المحفورة أسفل التمثال، والتي تقول: "مجّدوا هذا الشاعر". أما إلى يسار التابوت فتمثال لسيدة أخرى ترمز إلى فلورنسا، وهي منحنية وبيدها إكليل الغار، كانت تود أن تضعه على رأسه حياً، وهي تبكي، وستظل دائماً تبكي جراء ما ارتكبت بحق ابنها العبقري الذي يقال إنه كان يبكي حتى يفقد الوعي، وكانت له غرفة يسمّيها "غرفة الدموع"، لأن بكاءه كان يجعله هشّاً متهالكاً حتى لا يكاد يعرفه أحد.