تحقيق: كيف تهيّئ واشنطن لـ"حرب عراقية" ثانية في فنزويلا؟
من أسلحة الدمار الشامل إلى "بلدان المخدّرات"... كيف تروّج الولايات المتحدة لحروب رغم معارضة استخباراتها؟
-
مادورو يحظى بتأييد شعبي
موقع "Mintpress News" ينشر تحقيقاً بشأن الضغط الأميركي على فنزويلا منذ أكثر من 25 عاماً، مركزاً على التصعيد العسكري الأميركي الأخير، والادعاءات ضد الرئيس مادورو وعصابات المخدرات، والتاريخ الطويل لمحاولات الولايات المتحدة تغيير النظام، مقابل نجاح مادورو في البقاء في السلطة.
أدناه نص التحقيق منقولاً إلى العربية:
تعمل الولايات المتحدة على تعزيز قواتها العسكرية في أميركا اللاتينية، مثيرةً المخاوف من محاولة جديدة لتغيير النظام في فنزويلا، يُحتمل أن تكون أكثر خطورة من سابقاتها. واستناداً إلى مزاعم بشأن تدفّق المخدّرات الفنزويلية إلى الولايات المتحدة، تواصل إدارة ترامب حصار فنزويلا، التي كانت وما تزال هدفاً للسياسة الأميركية منذ أكثر من 25 عاماً. صحيفة مينت برس نيوز تستعرض ادّعاءات ترامب غير المألوفة، وتقيّم تاريخ الجهود الأميركية لإطاحة الحكومة الفنزويلية.
الحشد العسكري
تركّز إدارة ترامب أنظارها مجدداً على فنزويلا، بينما ينشر الرئيس قوات عسكرية بحرية وجوية إضافية في منطقة البحر الكاريبي، من بينها سبع سفن حربية وغواصة وسفينة هجومية برمائية مصمّمة لعمليات الغزو عبر البحر. كما نُقل سرب من طائرات "إف-35" المتطورة إلى بورتوريكو، لتصبح على مسافة قريبة من كراكاس عاصمة فنزويلا، في وقت أُعيد فيه نشر نحو 4500 جندي، بينهم 2500 من مشاة البحرية المستعدين للقتال في المنطقة.
فيما قد يكون بداية حرب كبرى، بدأ الجيش الأميركي بالفعل باستعراض قوته. ففي وقت سابق من هذا الشهر، دمّر سفينة فنزويلية صغيرة، ونفّذ ضدها هجمات متعددة لضمان عدم وجود ناجين. واحتفل ترامب بالعملية في منشور على موقع "تروث سوشيال"، مدّعياً أنّ السفينة كانت تحمل مخدّرات غير مشروعة إلى الولايات المتحدة، وأنّ طاقمها أعضاء في "كارتل ترين دي أراغوا"، وهي جماعة قال إنّها "تعمل تحت سيطرة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو"، وإنّها مسؤولة عن "جرائم قتل جماعي، وتهريب مخدّرات، واتجار بالبشر، وأعمال عنف وإرهاب في جميع أنحاء الولايات المتحدة".
تزايدت الاستفزازات في الأسبوع الماضي مع دخول البحرية الأميركية المياه الفنزويلية ومداهمتها قارب صيد فنزويلياً واحتجاز طاقمه. ومؤخراً شنّت الولايات المتحدة غارة على مركب صغير آخر، أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص على الأقل. وبرّر ترامب الهجوم بزعم أنّه عقب العملية انتشرت "أكياس كبيرة من الكوكايين والفنتانيل" في مياه المحيط.
تحوّلت عصابة "ترين دي أراغوا" إلى هاجس لإدارة ترامب. ففي أول يوم له في منصبه بداية العام الجاري، صنّف ترامب العصابة الفنزويلية "منظمة إرهابية أجنبية"، وقال إنّها زرعت "العنف والإرهاب" في نصف الكرة الغربي، و"أغرقت الولايات المتحدة بالمخدّرات القاتلة والمجرمين العنيفين والعصابات الشرسة".
وفي آذار/مارس الماضي، استند ترامب إلى "قانون الأعداء الأجانب" لعام 1789 ليعلن أنّ الولايات المتحدة قد "غزتها عصابة ترين دي أراغوا". وقبل نحو شهرين، رصد مكافأة قدرها 50 مليون دولار لمن يقبض على الرئيس مادورو، زاعماً أنّه يدير بالكامل عصابتي "ترين دي أراغوا" و"دي لوس سولس"، ومعتبراً إيّاه "أحد أكبر مهرّبي المخدّرات في العالم".
ورغم أنّ العملية أعلنت رسمياً على أنّها لمكافحة المخدّرات، إلا أنّ قلّة في واشنطن تبذل جهداً لإخفاء النوايا الحقيقية وراءها. فقد صرّح مستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين موجّهاً كلامه لمادورو: "أيّامك معدودة للغاية"، ناصحاً إيّاه بـ"قضاء إجازة مع صديقك السوري الأسد، والحصول على تذكرة ذهاب إلى موسكو فقط".
الادعاءات مقابل الأدلة
لم تُقنع مزاعم إدارة ترامب غير العادية بحق الرئيس مادورو وفنزويلا سوى قلّة من الخبراء. تقول الباحثة جوليا بوكستون من جامعة ليفربول، المتخصصة في سياسة المخدّرات العالمية والسياسة الفنزويلية، لموقع مينت برس:
"لطالما كان الادعاء بأنّ فنزويلا منتج رئيسي للمخدّرات مادة أساسية في الحملة الأميركية ضدها منذ أوائل القرن الجاري. وهذا النوع من الخطاب المعادي للمخدّرات شائع جداً في السياسة الخارجية الأميركية واستراتيجيتها منذ ما لا يقل عن مئة عام. وما لدينا هنا هو في الأساس مجرد حجج معاد تدويرها من عهد رونالد ريغان، مع أنّها غير محقَّق فيها وعبثية، ولا تستند إلى أي بيانات رسمية".
تتعارض البيانات بشكل صارخ مع اتهامات الإدارة الأميركية. إذ يوضح تقرير المخدّرات العالمي للعام الجاري الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدّرات والجريمة أنّ الكوكايين ـ وهو المخدّر الأكثر ارتباطاً بأميركا الجنوبية ـ يُنتَج بشكل رئيسي في كولومبيا وبيرو وبوليفيا، ويُنقل عبر موانئ الإكوادور إلى الولايات المتحدة. ولم يذكر التقرير فنزويلا إطلاقاً في الوثيقة المؤلفة من 98 صفحة، التي صنّفت المنتجين والمستهلكين والمورّدين وخطوط الإمداد.
معظم شحنات المخدّرات القاتلة المنتجة في أميركا الجنوبية تنتقل عبر ساحل المحيط الهادئ انطلاقاً من الإكوادور. أما فيما يخص طرق الإمداد، فكمية صغيرة من الكوكايين الكولومبي تُهرّب عبر الحدود الطويلة المليئة بالغابات المطيرة مع فنزويلا، ثم تُنقل عبر البحر الكاريبي. لكن هذه الكمية ضئيلة مقارنة بما يُهرَّب عبر سفن المحيط الهادئ أو عبر الطريق البري عبر أميركا الوسطى والمكسيك، أو يُنقل جواً مباشرة من الدول المنتجة إلى الولايات المتحدة.
ويتوافق تقرير تقييم التهديد الوطني للمخدّرات لعام 2025 الصادر عن وكالة مكافحة المخدّرات الأميركية مع ما ورد في تقرير الأمم المتحدة. فالوثيقة المكوّنة من 90 صفحة تطرقت إلى فنزويلا في فقرتين فقط على صفحة واحدة، ما يعكس محدودية التهديد الذي تشكله الدولة الكاريبية على الولايات المتحدة. وقد تناول التقرير الأنشطة الإجرامية لعصابة "ترين دي أراغوا"، لكن من دون ربطها بالحكومة الفنزويلية.
كما أقرّ تقرير صادر عن مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي، رُفعت عنه السرّية في نيسان/أبريل الماضي، بأنّه من المرجح أن حكومة مادورو لا تتعاون مع العصابة المذكورة ولا توجّه عملياتها نحو الولايات المتحدة. واستند هذا التقييم إلى معطيات من إنفاذ القانون الفنزويلي الذي يعتبر "ترين دي أراغوا" تهديداً داخلياً.
ويشير التقرير أيضاً إلى أنّ أجهزة الاستخبارات والجيش والشرطة الفنزويلية "انخرطت في مواجهات مسلّحة" مع العصابة، وأنّها "لم ترصد أي توجيهات من كراكاس للعصابة، ولا في دفع المهاجرين إلى الولايات المتحدة". ويخلص إلى أنّ "محللي مكتب التحقيقات الفيدرالي يتفقون مع هذا التقييم".
وبينما يعمل مجلس الاستخبارات الوطني كهيئة حكومية رسمية لنقل المعلومات إلى المشرّعين والقطاع الخاص، بالغ ترامب ووسائل الإعلام في تضخيم حجم عصابة "ترين دي أراغوا" ونطاقها. فقد نشأت العصابة في سجن فنزويلي، وهي معروفة بتورطها في التهريب والابتزاز، لكنها لم تصل يوماً إلى مستوى منظمات إجرامية كبرى مثل "كارتل سينالوا" أو "إم إس-13". وقدّرت الصحفية الاستقصائية الفنزويلية رونا ريسكيز التي ألّفت أول كتاب عن الكارتل وتُعد من أبرز منتقدي الرئيس مادورو ،وقدرت عدد أعضاء العصابة بنحو 3000 عضو فقط، مؤكدة: "إنها ليست عصابة قادرة على أن تكون عدواً، لا للولايات المتحدة فحسب، بل لأي دولة أخرى".
علاوة على ذلك، دأبت إدارة مادورو، على مدار نحو عقد، على قمع عصابة "ترين دي أراغوا"، ما أدّى إلى تفكيكها داخل فنزويلا وإجبار أعضائها المتبقّين على مغادرة البلاد. ويُشتبه على نطاق واسع في أنّ مؤسّسها وزعيمها، نينو غيريرو، يقيم حالياً في تشيلي. ورغم أنّ بعض الجماعات لا تزال تستخدم اسم "ترين دي أراغوا" خارج فنزويلا، فإنّه من غير الواضح تماماً مدى ارتباطها بالمنظمة الأصلية أو بعضها ببعض.
ورغم أنّ عصابة "ترين دي أراغوا" أقل قوة بكثير مما يُصوَّر غالباً، فإنها على الأقل موجودة، وهو أمر لا ينطبق على عصابة تهريب المخدّرات المزعومة "كارتل الشمس"، التي يُفترض أنّ مادورو نفسه يرأسها، بينما يتفق الخبراء إلى حد كبير على أنّ هذه المجموعة خيالية.
تضيف بوكستون: "فكرة كارتل دي لوس سولس مجرد هراء. كما أنّ الادعاء بأنّ حكومة مادورو وجيشه يعتمدان بشكل ما على عائدات الكوكايين هو أيضاً هراء، لأنّ قيمة الكوكايين منخفضة للغاية في أميركا اللاتينية. ولا يكتسب الكوكايين أي قيمة حقيقية إلا بعد مروره عبر طرق الإمداد، حيث تتضاعف قيمته بفعل عمليات النقل عبر الحدود".
وتجدر الإشارة إلى أنّ كتاب بوكستون الجديد بعنوان "ما فائدة سياسة المخدّرات؟" سيصدر خلال الأسبوعين المقبلين.
كذلك فإنّ ادعاء الرئيس ترامب بأنّ القوارب الفنزويلية التي استهدفتها إدارته كانت محمّلة بالفنتانيل يتعارض مع تقارير إدارة مكافحة المخدّرات الأميركية، التي لا تدرج فنزويلا كمنتج أو ناقل رئيسي لهذه المادة. وفي الواقع، لا تقرير الاستخبارات الصادر عن الإدارة بعنوان "تدفّق الفنتانيل إلى الولايات المتحدة"، ولا التحقيق الذي أجراه الكونغرس مؤخراً في تهريب الفنتانيل، يذكر فنزويلا إطلاقاً.
التاريخ القذر للولايات المتحدة والمخدّرات
تبلغ قيمة سوق المخدّرات غير المشروعة في الولايات المتحدة مئات المليارات من الدولارات سنوياً. وتُعدّ البلاد أكبر مستهلك لهذه المواد، فضلاً عن كونها مورّداً رئيسياً للمواد الكيميائية والأسمدة اللازمة لإنتاجها.
وفي مقابلة أجريت معه مؤخراً، قال الرئيس نيكولاس مادورو إنّ معظم أرباح هذه التجارة تبقى في الولايات المتحدة، مضيفاً: "85% من مليارات الدولارات الناتجة عن الاتجار الدولي بالمخدّرات سنوياً موجودة في بنوك الولايات المتحدة. هناك يوجد الكارتل، فليُجروا تحقيقات ويكشفوا أمره".
وأضاف مادورو: "هناك 500 مليار دولار في النظام المصرفي الأميركي، في بنوك مرموقة. إذا أرادوا التحقيق فليفعلوا، وليحققوا في (كارتل الشمال)، فمن هناك تُوجَّه جميع عمليات تهريب المخدّرات إلى أميركا الجنوبية وبقية العالم. كما أنّهم يسيطرون على تجارة الأفيون، وأكثر من ذلك، ففي الولايات المتحدة توجد المافيا حيث تعمل العصابات الحقيقية".
وردّ وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو خلال زيارته للإكوادور قائلاً: "لا يهمني ما تقوله الأمم المتحدة التي لا تعرف عمّا تتحدث". وأوضح أنّ القوانين الأميركية المحلية تعلو على القانون الدولي، مضيفاً: "لقد وُجّهت اتهامات إلى مادورو من قبل هيئة محلفين كبرى في الدائرة الجنوبية لنيويورك. هذا يعني أنّ الدائرة الجنوبية قدمت الأدلة إلى هيئة محلفين كبرى، والتي بدورها وجّهت إليه الاتهام. لا شك في أنّ نيكولاس مادورو متهم بتهريب المخدّرات، وهو هارب من العدالة الأميركية".
كانت تعليقات روبيو لافتة بشكل خاص، إذ أدلى بها خلال زيارته للإكوادور ولقائه الرئيس دانيال نوبوا. ومن المعروف أنّ معظم شحنات المخدّرات الآتية من أميركا الجنوبية إلى الولايات المتحدة تمرّ عبر سفن من الإكوادور. والأهم أنّ نوبوا نفسه متورّط مباشرة في هذه العمليات، فهو ابن أغنى ملياردير في البلاد، وبنى مسيرته السياسية على سخاء إمبراطورية عائلته في تصدير الموز. وكشف تحقيق نشرته مجلة ريفيستا رايا الكولومبية أنّ قوارب الموز التابعة لعائلة نوبوا كانت تُستخدم لنقل كميات هائلة من الكوكايين حول العالم. وفي أحد موانئ الإكوادور فقط، ضبطت الشرطة 700 كيلوغرام من الكوكايين على متن سفن مملوكة للعائلة.
ومع ذلك، وعلى عكس مادورو، يُعتبر نوبوا حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة، يضع مصالح واشنطن فوق كل اعتبار. ومن غير المرجّح أن تقلق روبيو الصلات الوثيقة بين عائلته وعالم تهريب المخدّرات، خصوصاً أنّ صهره أورلاندو سيسيليا، وهو تاجر مخدّرات سابق قضى 12 عاماً في سجن بفلوريدا بتهم تتعلق بتهريب الكوكايين، يحظى بعلاقة وثيقة معه. وبعد إطلاق سراحه، استغلّ روبيو منصبه السياسي للضغط على هيئة تنظيمية في فلوريدا لمنحه رخصة عقارية. لذلك لا عجب في أن يطلق النقاد في أميركا اللاتينية على وزير الخارجية منذ فترة طويلة لقب "روبيو تاجر المخدّرات".
إنّ تاريخ المخدّرات وعمليات تغيير الأنظمة في الولايات المتحدة موثّق جيداً. فقد استخدمت واشنطن تجارة المخدّرات غير المشروعة لإسقاط الحكومات التي لا توافق عليها، بينما تغضّ الطرف عن تصرفات حلفائها. ففي عام 2014، تولّى خوان أورلاندو هيرنانديز السلطة في هندوراس إثر انقلاب مدعوم أميركياً أطاح الرئيس اليساري المنتخب ديمقراطياً مانويل زيلايا. وسرعان ما بدأ هيرنانديز استغلال منصبه لإثراء نفسه متحالفاً مع "كارتل سينالوا". وفي العام الماضي حُكم عليه بالسجن 45 عاماً بعد إدانته بتهريب أكثر من 400 طن من الكوكايين إلى الولايات المتحدة، التي دعمت نظامه لسنوات لمنع قوى اليسار من الوصول إلى الحكم.
وفي الماضي، موّلت إدارة ريغان ودرّبت وسلّحت فرق الموت التابعة لمنظمة الكونترا في نيكاراغوا، في محاولة لإطاحة "حزب الساندينيستا" اليساري. وقد ربطت تقارير صحافية وتحقيقات رسمية لاحقاً شبكات مرتبطة بـ"الكونترا" بتدفّقات الكوكايين إلى الولايات المتحدة خلال ثمانينيات القرن الماضي، ما أسهم في تفشّي وباء "الكراك". واستخدمت "الكونترا" هذه الأموال لإرهاب البلاد، إلى أن أطاحت الحزب عام 1990.
كذلك سلّحت الولايات المتحدة "المجاهدين" في أفغانستان ضد الحكومة اليسارية المدعومة من السوفيات. ولتمويل برنامجها الذي بلغت تكلفته ملياري دولار، شجّعت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية حلفاءها على زراعة الأفيون والاتجار به، ما أدى إلى قفزة هائلة في إنتاجه واستهلاكه عالمياً. ويشرح البروفيسور ألفريد ماكوي، مؤلف كتاب "سياسات الهيروين: تواطؤ وكالة الاستخبارات المركزية في تجارة المخدّرات العالمية"، أفغانستان كانت تنتج حوالى 100 طن من الأفيون سنوياً في سبعينيات القرن الماضي، لكن بحلول 1989–1990، مع نهاية عملية وكالة الاستخبارات المركزية هناك، ارتفع الإنتاج إلى نحو 2000 طن سنوياً، أي ما يعادل 75% من تجارة الأفيون غير المشروعة في العالم.
هكذا تقدّم الولايات المتحدة نموذجاً متكرراً: استخدام المخدّرات وحروبها المزعومة عليها كوسيلة لدعم حلفائها وإطاحة الحكومات المناهضة للإمبريالية. ونادراً ما يؤدي عدم التعاون مع السلطات الأميركية إلا إلى اتهامات وتصعيد سياسي، لا إلى انخفاض الإنتاج. ففي الحقيقة، تعرف حكومات فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا ـ التي وصفتها إدارة ترامب بـ"ثالوث الاستبداد" على غرار تصنيف بوش الابن "محور الشر" أنّها مستهدفة في منطقة تُشتهر بإنتاج المخدّرات.
إضافة إلى ذلك، طردت بوليفيا بقيادة الرئيس الاشتراكي إيفو موراليس عام 2008 إدارة مكافحة المخدّرات الأميركية من البلاد، ما أدّى إلى انخفاض كبير في إنتاج الكوكايين.
ويقول الكاتب جو إيمرسبيرغر، المشارك في تأليف كتاب "تهديد استثنائي: الإمبراطورية الأميركية، ووسائل الإعلام، وعشرون عاماً من محاولات الانقلاب في فنزويلا": "إنّ مزاعم الولايات المتحدة ليست مضحكة فحسب، بل أشبه بإسقاطات. لقد غذّت وكالة الاستخبارات المركزية تجارة المخدّرات في شوارع لوس أنجلس في ثمانينيات القرن الماضي لتمويل الكونترا. وفي أفغانستان، تحت الاحتلال الأميركي المباشر، ازدهر إنتاج الأفيون بشكل كبير بعد أن قضت عليه طالبان".
وأبدى إيمرسبيرغر تشككاً شديداً في نوايا واشنطن المعلنة ضد فنزويلا، مضيفاً: "ببساطة، الخطوة الأولى أمام حكومة مادورو كي لا تصبح طرفاً في تجارة المخدّرات غير المشروعة هي التنازل لواشنطن. حين زار ماركو روبيو مؤخراً الإكوادور، التي أصبحت ساحة لتجار المخدّرات وثبتت علاقة عائلة نوبوا بتجارتها، كرّر اتهاماته ضد الرئيس مادورو".
فنزويلا في مرمى النيران
تبدو نوايا الولايات المتحدة تجاه فنزويلا أكثر إثارة للريبة، بالنظر إلى تاريخها الممتد لربع قرن من محاولات تغيير النظام في البلاد. فقد وضع انتخاب الرئيس الاشتراكي المناهض للإمبريالية هوغو تشافيز عام 1998 فنزويلا على رادار واشنطن فوراً، وسرعان ما بدأت بالإعداد لمحاولة انقلاب ضده.
نُقل قادة اليمين جواً من كراكاس إلى واشنطن لعقد اجتماعات مع كبار المسؤولين الأميركيين، وبدأت الولايات المتحدة من خلال الصندوق الوطني للديمقراطية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية بتمويل القوات المناهضة لتشافيز، التي نفّذت انقلاباً عسكرياً في العام 2002. وفي يوم الانقلاب، كان السفير الأميركي تشارلز شابيرو حاضراً في مقر الانقلاب في كراكاس، بينما دخلت سفينة حربية أميركية المياه الفنزويلية.
واعترفت إدارة بوش فوراً بالحكومة اليمينية، لكنها سقطت بعد يومين أمام ثورة مضادة. وعلى الرغم من ذلك، عزّزت الولايات المتحدة دعمها المالي للمعارضة الفنزويلية. وفي كانون الأول 2002، دعمت محاولة المعارضة إغلاق صناعة النفط في البلاد، أملاً في سقوط الحكومة.
لطالما رفضت الولايات المتحدة نتائج الانتخابات الشرعية في فنزويلا، حتى حين قبلتها جميع الهيئات المعنية، بما في ذلك المعارضة الفنزويلية نفسها. ففي عام 2013، على سبيل المثال، رفضت واشنطن الاعتراف بنتائج الانتخابات التي أوصلت نيكولاس مادورو إلى السلطة، وكانت الدولة الوحيدة في العالم التي فعلت ذلك.
وقد مهّد هذا الرفض الأميركي لإرادة الشعب الفنزويلي الطريق لأعمال عنف قامت بها منظمات مدعومة من الولايات المتحدة. ففي عام 2014 نفذت جماعات يمينية متطرفة موجات هجمات على متاجر المواد الغذائية والمستشفيات وسيارات الإسعاف ورياض الأطفال ونظام مترو كراكاس، ما أدى إلى مقتل 43 شخصاً وتسبّب بأضرار مادية تقدر بحوالى 15 مليار دولار. كما أغلقت هذه الجماعات الطرق السريعة الرئيسية وهاجمت السيارات والمارة.
وقد دعمت الحكومة الأميركية هذه الأحداث بقوة. ووصف نائب الرئيس آنذاك جو بايدن المشاركين فيها بأنهم "متظاهرون سلميون" يتعرضون "لشيطنة" من قبل "نظام" مادورو، الذي كان يحاول "صرف" الفنزويليين عن قضاياهم الداخلية من خلال "اختلاق نظريات مؤامرة زائفة وغريبة تماماً عن الولايات المتحدة".
وعندما لم تسفر هذه الإجراءات عن النتيجة المرجوة، لجأت الولايات المتحدة إلى تكتيك جديد، وهو الحرب الاقتصادية. ففي عام 2015، أعلن الرئيس أوباما رسمياً حالة الطوارئ الوطنية بسبب "التهديد الاستثنائي للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة الذي يشكله الوضع في فنزويلا"، ما أتاح لإدارته فرض مجموعة واسعة من الإجراءات القسرية أحادية الجانب.
وتُقرّ وزارة الخارجية الأميركية صراحة بأن العقوبات مصممة "لخفض الأجور والقيمة الحقيقية للعملة الفنزويلية، وإحداث الجوع واليأس، وإسقاط الحكومة".
وتشير الدراسات وتقارير الأمم المتحدة إلى آثار وخيمة للعقوبات، موضحةً نقصاً وانهياراً اقتصادياً. فعلى سبيل المثال، مع نقص قطع الغيار والإمدادات، انهار قطاع النفط، ما أدى إلى انخفاض الإيرادات الأجنبية بنسبة 99%. وانتشر نقص الغذاء والأدوية والسلع الأساسية على نطاق واسع. وقدّر تقرير صادر عن مركز الأبحاث الاقتصادية والسياسية في واشنطن العاصمة أن العقوبات تسبّبت في وفاة أكثر من 40 ألف فنزويلي خلال 12 شهراً بين عامي 2017 و2018، بينما غادر ملايين آخرون البلاد.
كما أدانت الأمم المتحدة رسمياً العقوبات، وحثّت جميع الدول الأعضاء على تجاوزها، وناقشت التعويضات التي يتعين على الولايات المتحدة دفعها لفنزويلا. وزار مقرر أممي أميركي البلاد، واصفاً إجراءات واشنطن بأنها "حصار من العصور الوسطى"، داعياً إلى التحقيق مع الولايات المتحدة لاحتمال ارتكابها "جرائم ضد الإنسانية". ولم يُنشر هذا الخبر إلا في مواقع إعلامية مستقلة صغيرة، بعيداً عن وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية.
فنزويلا تحت ضغط ترامب
وبمجرد توليه منصبه، صعّد دونالد ترامب حربه الاقتصادية ضد فنزويلا، مستشعراً فرصته، على حد تعبيره، "للسيطرة على كل ذلك النفط". ووفقاً لما ذكره مسؤولون في البيت الأبيض في ذلك الوقت، كان ترامب مصراً على غزو شامل، معلناً أنّه سيكون "رائعاً" القيام بذلك، لأنّ فنزويلا "جزء لا يتجزأ من الولايات المتحدة".
كان البعض، مثل مستشار الأمن القومي جون بولتون، مؤيداً للخطة، لكن الأصوات "المعتدلة" انتصرت، مجادلة بأنّ مجرد تنظيم موجات من الهجمات داخل البلاد سيعيد فنزويلا إلى أيدي الأميركيين.
وفي عام 2018، نجا الرئيس مادورو بأعجوبة من محاولة اغتيال، متّهماً الولايات المتحدة بالوقوف وراءها. وتشير مذكرات بولتون إلى أنّ مادورو كان لديه ما يكفي من الأسباب للاشتباه في تورط البيت الأبيض بالفعل.
وطوال هذه الفترة، أصدرت إدارة ترامب تعليمات للمعارضة الفنزويلية بمقاطعة الانتخابات، مفضّلة محاولة إزاحة مادورو بالقوة. وفي عام 2019، دعمت الولايات المتحدة محاولة غريبة من خوان غوايدو، زعيم حزب يميني صغير نسبياً، لإعلان نفسه رئيساً فعلياً لفنزويلا استناداً إلى ثغرة شكلية. وقد اعترف ترامب فوراً بغوايدو، وضغط على عشرات الدول الغربية لتتبّع خطواته.
آنذاك كثّف أعضاء إدارة ترامب الضغوط على مادورو، حيث ظهر بولتون ومعه دفتر ملاحظات كتب عليه "5000 جندي إلى كولومبيا"، بينما غرد ماركو روبيو على تويتر بصور لجثة الزعيم الليبي معمر القذافي مشوّهة، في تهديد مبطّن لمادورو بأن هذا ما خططت له الولايات المتحدة. و3 مرات خلال عام 2019، أصدر المسؤولون الأميركيون بيانات تخبر الفنزويليين بأن "اليوم هو اليوم الذي سيفوزون فيه بحريتهم"، وحثّوهم على الخروج إلى الشوارع، وأصدروا تعليمات للضباط العسكريين بالتمرد والسير نحو القصر الرئاسي.
لكن الفنزويليين رفضوا هذه الدعوات، ولم يتمكّن غوايدو من التحرك داخل البلاد من دون مواجهة المضايقة والسخرية والهجوم. وانشق أقل من 0.1% من القوات المسلحة، ما أدى إلى انهيار الحركة. ولعدم قدرتها على إشعال ثورة شعبية أو تمرد عسكري، لجأت واشنطن إلى نهج أكثر مباشرة.
في عام 2020، حاولت قوة غزو مرتزقة برمائية، بقيادة جنود سابقين في القوات الخاصة الأميركية، شق طريقها إلى القصر الرئاسي لتنصيب غوايدو ديكتاتوراً. ولكن العملية، التي خطط لها في الولايات المتحدة بعد اجتماعات في فندق ترامب بالعاصمة ومنتجع "ترامب دورال" في فلوريدا، فشلت تماماً، حيث استسلم زعماء العصابة عند أولى علامات المقاومة. وقد أطلق النقاد على العملية الفاشلة اسم "خليج الخنازير" لترامب. وفي النهاية، تخلت الولايات المتحدة عن غوايدو، وسحبت اعترافها به في عام 2023، وهو يقيم اليوم في ميامي حيث عين في منصب بجامعة فلوريدا أتلانتيك.
بعد أشهر قليلة من التوغل البحري عام 2020، قُبض على ماثيو هيث، الجندي السابق في مشاة البحرية وعميل وكالة الاستخبارات المركزية، ومسؤول مكافحة المخدرات في وزارة الخارجية الأميركية بأفغانستان، خارج أكبر مصفاة نفط في فنزويلا، حاملاً مدفع رشاش وقاذفة قنابل يدوية، و4 عبوات ناسفة من مادة "سي 4" المتفجرة، وهاتفاً يعمل عبر الأقمار الصناعية، وأكواماً من الدولارات الأميركية. واتهمته سلطات كراكاس بالتخطيط لتخريب صناعة النفط في البلاد.
وفي السنوات الأخيرة، لجأت الولايات المتحدة إلى أساليب أخرى غير قانونية لزعزعة استقرار فنزويلا. فقد استولت على ناقلات نفط إيرانية متجهة إلى فنزويلا في محاولة لكسر الحصار، وصادرت سلسلة محطات وقود مملوكة للدولة الفنزويلية "سيتغو" في جميع أنحاء الولايات المتحدة. كما احتجزت طائرة حكومية فنزويلية بعد هبوطها في جمهورية الدومينيكان، واعتقلت الدبلوماسي الفنزويلي أليكس صعب أثناء عودته من اجتماع رسمي في إيران، وبقي محتجزاً لأكثر من 3 سنوات في السجون الأميركية، وهو اليوم وزير الصناعة والإنتاج الوطني الفنزويلي.
كما ضغطت الحكومة الأميركية بشدة على بريطانيا، التي استجابت وصادرت احتياطيات ذهبية فنزويلية بقيمة ملياري دولار في بنك إنجلترا.
فنزويلا بين الصمود والتهديد الأميركي
وفي تلخيصه للتصرفات الأميركية في فنزويلا، قال إيمرسبيرغر: "منذ عام 2001، عندما قررت الولايات المتحدة أنّ تشافيز لا يُشترى، سعت إلى إطاحته عن طريق فرض صعوبات اقتصادية على فنزويلا، لضمان عدم اعتبار حكومة كراكاس الاشتراكية نموذجاً يُحتذى به في المنطقة. كما أنّ إفلات الولايات المتحدة من العقاب منحها الوقت لتحقيق هذين الهدفين في آن واحد، في ظل غياب أي معارضة سياسية منظمة ذات شأن داخل البلاد".
وعلى الرغم من كل هذا، نجح مادورو في البقاء. ففي العام الماضي، فاز بإعادة انتخابه متغلباً على المرشح المدعوم أميركياً إدموندو غونزاليس بفارق سبع نقاط، لكن واشنطن رفضت الاعتراف بالنتائج.
كما أنّ دعم الحكومة من قبل الفنزويليين مستمر جزئياً بسبب ما تمكنت من تحقيقه لشعبها. فقد أعاد هوغو تشافيز، الذي تولى السلطة من عام 1999 إلى 2013، تأميم صناعة النفط في البلاد، واستخدم العائدات لتمويل برامج رعاية اجتماعية ضخمة، بما في ذلك الرعاية الصحية المجانية، والتعليم، والنقل المدعوم.
وخلال عهده، انخفض الفقر، ولا سيما الفقر المدقع، بمقدار النصف والثلاثة أرباع على التوالي. وتم القضاء على الأمية، وزاد عدد الطلاب ليصبح رابع أكبر عدد في العالم. كما شهدت الفئات المهمشة سابقاً ارتفاعاً ملحوظاً في المشاركة السياسية.
وقد روّج تشافيز لرؤية مستقبل مستقل مناهض للإمبريالية لدول الجنوب العالمي، وقاد مبادرات تهدف إلى وحدة أميركا اللاتينية، مستخدماً ثروة بلاده النفطية لتمويل العمليات الجراحية الطبية لشعوب المنطقة، بل ولتدفئة منازل مئات الآلاف من العائلات المهمشة أو المحرومة في بلاده.
وبما يتعلق بقضية فلسطين، كان موقفه واضحاً بشكل خاص، معلناً أنّ "إسرائيل" دولة إرهابية، وداعياً إلى قطع العلاقات معها بسبب هجومها على غزّة عامي 2008 و2009. واليوم، يمكن رؤية الجداريات الفلسطينية في جميع أنحاء كراكاس، ويعد التضامن مع المظلومين جانباً أساسياً من أيديولوجية الحكومة. وعند إدلاء نيكولاس مادورو بصوته في انتخابات عام 2024، صدح "عاشت فلسطين حرّة".
لا شك في أنّ مادورو مرّ بأوقات عصيبة للغاية في فنزويلا، ويعود ذلك جزئياً إلى الإجراءات الأميركية ضد بلاده. ومع ذلك، حتى مع تدهور الاقتصاد، واصلت شريحة كبيرة من الشعب دعم المشروع الاشتراكي. واليوم، يبدو أنّ فنزويلا قد تجاوزت أسوأ ما في الأزمة، إذ باتت المتاجر ممتلئة مجدداً، وتنتج البلاد نسبة كبيرة من غذائها، حيث تبنّى مادورو سياسة مميزة للإسكان الاجتماعي، أطلقت عليها "رسالة الحياة الكبرى في فنزويلا"، ومنحت أكثر من 5.2 ملايين منزل للمواطنين، ما أسهم بشكل كبير في تحسين وضع الأحياء العشوائية.
من العوامل الأخرى التي أبقت مادورو في السلطة، الجيش. فقد حافظت الغالبية العظمى من الجيش على ولائها ورفضت دعوات الانقلاب. تضم فنزويلا مئات الآلاف من الجنود، إضافة إلى ملايين آخرين في ميليشيات يسارية مسلحة. وفي مواجهة خطر هجوم أميركي، نشرت الحكومة 4.5 ملايين شخص في مواقع دفاعية، ما قلل من احتمالية الغزو الأميركي الوشيك، على الرغم من أنّ الصواريخ الـ1200 التي تمتلكها فرقة العمل الأميركية قادرة على تدمير جزء كبير من البلاد بسهولة.
كذلك، من الواضح أنّ إدارة ترامب جعلت فنزويلا أولوية قصوى. والأنباء عن تخطيط الولايات المتحدة لسحب قواتها من آسيا لإعطاء الأولوية للسيطرة على "حديقتها الخلفية" في أميركا اللاتينية، تجعل اتخاذ أي إجراء ضد مادورو وفنزويلا أمراً ممكناً أكثر فأكثر.
إنّ الحشد العسكري على طول ساحل فنزويلا، وزيادة المكافأة لاعتقال مادورو، والادعاء بأنه زعيم عصابة مخدرات رئيسي، كلها تنذر بصراع مقبل. قد تكون الاتهامات الموجهة ضد عصابة "ترين دي أراغوا" و"كارتل دي لوس سولس" خيالية، لكن الأكاذيب المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل كانت كذلك. ومع حرص الولايات المتحدة على إيجاد أي مبرّر للحرب، فقد تشكل هذه الاتهامات غطاءً لـ"حرب عراقية" ثانية.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.