"الغارديان": لن نسمح بجعل ما يحصل في غزة أمراً اعتيادياً
قد يختار البعض تجاهل ما يحدث في قطاع غزّة، أو تبريره، أو حتى دعمه، لكنهم لن يستطيعوا أبداً جعله أمراً اعتيادياً.
-
طفل رضيع استشهد إثر الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة
صحيفة "الغارديان" البريطانية تنشر مقال رأي يتناول الأوضاع الإنسانية والمأسوية في غزة نتيجة الهجوم الإسرائيلي المستمر على القطاع، مركزًا على الدمار الكبير الذي لحق بالمدنيين الفلسطينيين، ويشير إلى الحصار الذي تواجهه غزة في ظل حظر دخول الصحافيين والمساعدات الإنسانية، وتعرّض الصحافيين والعاملين في المجال الإغاثي للقتل.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
صورٌ صادمة ومقاطع فيديو مفجعة ومنشورات محجوبة لا تظهر إلا عند الضغط على زر الموافقة. منذ عام ونصف، يخيّم صمت رهيب على ما يحدث في غزة. وتستوقفني مشاهد عند تذكرها فجأة، كأنها أشبه بكابوس منسيّ لكنني أذكره بكل تفاصيله. في الأسبوع الماضي، شاهدتُ صوراً ومقاطع فيديو تُظهر ما بدا وكأنه جثة طفل ممزقة مقطوعة الرأس، ورأيتُ أشلاء ممزقة مُجمّعة في أكياس بلاستيكية، وسمعتُ صراخ المُحتضرين وصمت الموتى، الذين تُظهرهم عدسات الكاميرات مكدّسين بعضهم فوق بعض، من بينهم عائلات بأكملها. إن هجوم "إسرائيل" على غزة يتخطى كل التوقعات. فمع مرور الوقت وتزايد احتمال حدوث ما لا يمكن تحمّله، تواصل أشكال القتل المرعبة والمتنوعة تجاوز عتبة التخدير.
في المقابل، تقوم السياسة بواحد من أمرين؛ إما التخفيف من وطأة هذه الكارثة التاريخية، باللجوء إلى لغة تشجيعية ملطّفة للعودة إلى طاولة المفاوضات، كما لو كانت المسألة مجرد خلاف مؤسف يمكن حلّه بتهدئة النفوس قليلاً أو عكس الكارثة. إن الدعوة إلى وقف المجازر باتت تشكل اليوم دافعاً يصل في بعض البلدان إلى حد الاعتقال أو الترحيل، بدلاً من أن تكون غريزة إنسانية طبيعة. وهذا الوصف يجعل أهل غزة، الحاضرين دائماً على شاشاتنا من خلال المذابح اليومية التي تطالهم، بعيدين ومنعزلين. لقد تم ترحيل غزّة إلى جانب آخر لا تُطبَّق فيه أي قواعد. جغرافياً، تم فصلها وعزلها عن العالم؛ بحيث لا يُسمح للصحافيين والساسة الأجانب بدخولها، والصحافيون المحليون يُقتلون. كما يُمنع دخول المساعدات الخارجية ويُقتل العاملون المحليون في مجال الإغاثة. في حين تتحدث المحاكم الدولية ومنظمات حقوق الإنسان بصوت واحد عن وحشية ما يجري، ويتم تجاهلها أو مهاجمتها على الفور من قبل الداعمين للكيان الغاصب.
ومع ذلك، ورغم الجهود المبذولة لمنع دخول الأجانب وإسكات من في الداخل، لا تزال الأدلة على عدم قانونية الحملة الإسرائيلية على غزة وعدم تناسبها تتزايد. ففي الشهر الفائت، قتلت القوات الإسرائيلية عاملين في الهلال الأحمر ودفنتهم مع سياراتهم. وأظهرت لقطات مسجّلة من هاتف محمول أن ادّعاء "إسرائيل" بأن أنشطة الفريق كانت مشبوهةً كان كاذباً. فقد عُثر على العاملِ الذي صوّر مقطع الفيديو مصاباً برصاصة في الرأس. وقبلَ أن يُفارق الحياة، طلب المغفرة من والدته لموته، ولاختياره مهنة خطيرة كهذه. فكم من الجرائم ارتكبت "إسرائيل" وأُخفيت تحت جنح الظلام في غزة، من دون أي توثيق يدحض ادعاءاتها؟
قد يبدو الأمر كما لو أن "إسرائيل" نجحت في لعب دور القاضي وهيئة المحلّفين والجلاد، وأنها تنجح، برعاية أميركية وغربية، في عزل الفلسطينيين عن بقية البشرية. إلا أن هذه المهمة تتطلب اليوم إكراهاً. فوتيرة الحرب تتصاعد وتحبط أي مبرر، لذا يجب جعلها أمراً طبيعياً بالقوة. وهذه القوة قد تكون قمعية على المدى القصير، لكنها مُهينة على المدى البعيد. فهي تتطلب موارد ومواجهات وتقلبات. من خلال استهداف الطلاب المحتجّين على ما يحدث في غزة، دخلت الحكومة الأميركية في حرب مع جامعاتها، وأشعلت الصراع في الداخل. وبتحركها لترحيل الطلاب والأكاديميين، تورطت إدارة ترامب في صراع مع نظامها القانوني. كما أسهمت جهود ألمانيا المبذولة لترحيل المشاركين في الاحتجاجات المؤيدة لغزة في توسيع نطاق الاستبداد المثير للقلق. وبالتالي، يُعد تحرّك أجهزة الدولة أمراً ضرورياً لأن القلق إزاء حجم الكارثة في غزة لم يعد من الممكن إسكاته بالتأنيب وحده.
وهذا التحرّك والصراع المصاحب له يسلّطان الضوء أكثر على ما جرّت "إسرائيل" إليه بقية العالم. فهو يُسهم في إبراز شخصيات مشاركة في الاحتجاجات، أمثال المتخرج في جامعة كولومبيا وحامل البطاقة الخضراء محمود خليل، الذي كان يُملي، من خلال محاميه، تقارير مُدمرة حول ما يكشفه اعتقاله عن الحرب وعن نظام الهجرة والعدالة الأميركي. كما يوطّد العلاقات مع الفلسطينيين التي يسعى خصومهم إلى قطعها. ومن خلال رفع سقف الاحتجاج، فإنه يوضح مدى أهمية هذه الرهانات بالنسبة إلى الجميع - الحق في حرية التعبير والإجراءات القانونية الواجبة، والحق في الحماية من تجاوزات الدولة، وممارسة القيم الإنسانية. والمطلوب هو أن تغض طرْفك لتكون بمأمن من الاضطهاد. وبدلاً من إبعاد غزة عن السياسة الداخلية، نقل حلفاء "إسرائيل" شعاب الحرب إلى أوطانهم. أضف إلى ذلك الموت والجوع اللذين يتفاقمان في غزة، وزيادة الرغبة في الضغط المعنوي والشهادة بدل الترويع والتخويف.
ومع التنازل السياسي، فإن هذا النوع من الإدانة العاجلة ودق ناقوس الخطر الذي كان ينبغي أن يصدر عن القادة، لم يتوقف بعد، بل انتقل إلى مكان آخر. فخلال الأسبوع الماضي وحده، كشفت مذكرات مصوّرة صادمة لطبيب ومقابلة في برنامج "نيوزنايت" على قناة "بي بي سي" عن المزيد من قتل الأبرياء، والمزيد من الأطفال الذين يستيقظون مشلولين، أو قد امتلأت بطونهم بالشظايا وهم ينادون أمهاتهم. في لندن، أوقفت تظاهرة حركة المرور؛ وفي العاصمة واشنطن، رُفعت خلال تظاهرة لافتة تحمل أسماء الشهداء. وفي جامعة كولومبيا بنيويورك، قيّد طلاب يهود أنفسهم بالسلاسل إلى بوابات الجامعة احتجاجاً على احتجاز إدارة الهجرة والجمارك الأميركية (Ice) زملاءهم. إضافة إلى ذلك، انتقلت رواية مذبحة الهلال الأحمر من المستهدفين أنفسهم إلى مسؤولي الأمم المتحدة، ومنها إلى وسائل الإعلام. ويجري حالياً تأليف حكومة ظل للمساءلة، مؤلفة من أشخاص فقدوا منذ زمن طويل ثقتهم بالمؤسسات السياسية.
قد يبدو الأمر وكأن الحياة مستمرة، كما هي الحرب على غزة. وقد يبدو الأمر وكأن الهزيمة قد تحققت، إذ تُواجه "إسرائيل" وحلفاؤها الرأي العام والنظام العالمي بأسره بفرض الحرب. وقد أغرقت رئاسة دونالد ترامب المنطقة بصدمات متعددة، من الاقتصادية إلى السياسية. إلا أن هذه هي حقيقة الوضع الراهن المضطرب والمتقلّب، لأن ما يحدث لكثيرين هو ببساطة أمر غير مقبول، وإذا كانت الاحتجاجات والشهادات والمواجهة قادرة على إنقاذ حياة واحدة أو تقديم نهاية الحرب ولو دقيقة واحدة، فإن الوضع سيستمر على ما هو عليه.
إن كلّ جسد وكل مدينة تحوّلت إلى أنقاض وكل طفل مُدمّى لا وجود له في أرض بعيدة ميؤوسٍ منها، إلا في أعماق الناس. إذ من المستحيل أن يشهد العالم تدميراً يومياً لشعب ما، فيُصبح مُرهَقاً أو مُنهَكاً حتى يعتاده. قد يختار البعض تجاهله، أو تبريره، أو حتى دعمه، لكنهم لن يستطيعوا أبداً جعله أمراً اعتيادياً.
نقلته إلى العربية: زينب منعم