"الغارديان": هل نحن في طريقنا إلى الانقراض الجماعي السادس؟
من المحتمل أن يؤدي إطلاق كميات هائلة من غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بهذا المعدل إلى موت عظيم آخر للكوكب.
-
"الغارديان": هل نحن في طريقنا إلى الانقراض الجماعي السادس؟
صحيفة "الغارديان" البريطانية تنشر تقريراً يتناول دورة الكربون على الأرض وعلاقتها بالانقراضات الجماعية عبر التاريخ الجيولوجي، مع مقارنتها بما يفعله البشر اليوم من خلال النشاط الصناعي.
يناقش التقرير أيضاً كيف يمكن لتسارع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بفعل البشر أن يدفع الأرض نحو تكرار سيناريوهات الانقراض الجماعي التي عرفها الكوكب سابقاً، وربما بشكل أسرع وأكثر حدة.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:
يعمل دانييل روثمان في الطابق العلوي من المبنى الذي يضم قسم علوم الأرض والغلاف الجوي والكواكب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وهو عبارة عن قطعة دومينو خرسانية كبيرة تطل على نهر تشارلز في كامبريدج بماساتشوستس. وقد وجد روثمان، وهو عالم رياضيات مهتم بسلوك الأنظمة المعقدة، في الأرض موضوعاً جديراً بالبحث. وهو يدرس بالتحديد سلوك دورة الكربون على كوكب الأرض في عمق تاريخ الأرض، ولا سيما في تلك الأوقات النادرة التي تجاوزت فيها الدورة عتبة معينة وخرجت عن السيطرة، ولم تستعد توازنها إلا بعد مئات الآلاف من السنين. وبما أن الحياة على الأرض تعتمد على الكربون، فإن هذه الاضطرابات الشديدة في دورته تعبّر عن نفسها على أنها "انقراضات جماعية".
والمثير للقلق هو أن الجيولوجيين اكتشفوا خلال العقود القليلة الماضية أن بعض حالات الانقراض الجماعي التي شهدتها الأرض، إن لم يكن معظمها، بما في ذلك الأكثر سوءاً على الإطلاق، لم تكن ناجمة عن الكويكبات كما توقعوا، بل عن ثورات بركانية امتدت عبر القارات وضخّت كميات كارثية من ثاني أكسيد الكربون في الهواء والمحيطات.
وإذا وضعنا ما يكفي من ثاني أكسيد الكربون في النظام دفعة واحدة، ودفعنا دورة الكربون الداعمة للحياة إلى حد بعيد خارج التوازن، فقد نهرب إلى نوع من حالة القصور الكوكبي، حيث تتولى العمليات الجوهرية للأرض زمام الأمور، وتعمل كرد فعل إيجابي لإطلاق المزيد من الكربون بشكل كبير في النظام. وسيؤدي الإطلاق اللاحق للكربون إلى إرسال الكوكب في رحلة مدمرة تمتد لـ100 ألف عام قبل أن يستعيد اتزانه. وليس مهماً إن كان معدل ثاني أكسيد الكربون أعلى أو أقل مما هو عليه اليوم، أو إن كانت الأرض أكثر دفئاً أو برودة نتيجةً لذلك. وبالتالي، فإنّ معدل التغير في ثاني أكسيد الكربون هو ما يقودنا إلى نهاية العالم.
ويرجع ذلك إلى أنّ دورة الكربون تستوعب التدفق المستمر لثاني أكسيد الكربون المنبعث من البراكين على مدى ملايين السنين، أثناء انتقاله بين الهواء والمحيطات، وإعادة تدويره بواسطة المحيط الحيوي، وعودته في النهاية إلى الطبيعة الجيولوجية. وهذه في الواقع هي دورة الكربون. ولكن إذا ما قُطِعَت هذه العملية الكوكبية بتحميلها كمية هائلة من ثاني أكسيد الكربون في فترة زمنية جيولوجية قصيرة، تتجاوز قدرة الأرض على استيعابها، فقد يتم إطلاق رد فعل جامح يكون أشد تدميراً من أي كارثة أشعلت فتيل هذه الفترة بأكملها أساساً. وقد يكون هناك عتبة تفصل بين فترات الاحترار العادية في تاريخ الأرض وتلك التي تتجه بشكل لا يمكن السيطرة عليه نحو الانقراض الجماعي.
وعلى الرغم من مرور أكثر من 60 مليون سنة على تجاوز الكوكب لهذه العتبة، فإننا على وشك خوض مسار قديم ومشؤوم كهذا، وهو مسار قد يستغرق آلاف السنين قبل أن يصل في النهاية إلى وجهة الانقراض الجماعي، ولكن قد يكون هذا أمراً حتمياً.
وقد تبيّن أن هناك طرقاً قليلة معروفة ومُثبتة في التاريخ الجيولوجي للأرض، لتحرير مليارات الأطنان من الكربون من قشرة الكوكب إلى الغلاف الجوي. فمن جهة، هناك نشاط بركاني واسع النطاق يحدث مرة كل 50 مليون سنة تقريباً، ومن جهة أخرى، هناك الرأسمالية الصناعية، التي لم تحدث، على حد علمنا، إلا مرة واحدة.
الثورات البركانية الكبرى ومصائد سيبيريا
إنّ عمليات الانقراض الجماعي ليست مجرد أوبئة تُنهي الحضارة، مثل جائحة "كوفيد-19" التي قضت على أقل من 1% من نوع واحد من الكائنات، ولا حدثاً يفقد العالم بسببه ربع نباتاته ويتم تعقيم ثلث أميركا الشمالية، كما حدث قبل 20 ألف عام فقط عندما اجتاحت صفائح جليدية يبلغ سمكها ميلاً واحداً كندا. كما أنها ليست ثورات "يلوستون" البركانية الهائلة، التي انفجرت 3 منها خلال مليوني عام تقريباً وقضت على الزراعة الحديثة والحضارة الصناعية ولم يكن لأي منها أي تأثير على التنوع البيولوجي العالمي. بل هي جزء من صفقة العيش على الأرض. وما كانت الحياة لتصل إلى هذا الحد لو كانت عرضة لأنواع العسر الروتيني، التي تُعدّ جزءاً من العمل اليومي لكوكب بركاني.
وفي حين أن كوكبنا قوي وقادر على الصمود في وجه كل أنواع الإساءات غير المتوقعة التي يتعرض لها بانتظام، يحدث كل 50 إلى 100 مليون سنة أمر سيئ للغاية. وتتجسد عمليات الانقراض الجماعي في تضافر الظروف على سطح الأرض لتصبح بشعة للغاية في كل مكان إلى درجة أنها تتجاوز القدرة التكيفية لجميع أشكال الحياة المعقدة تقريباً.
وقد شهد تاريخ الحياة الحيوانية حدوث هذه الكارثة 5 مرات. وفي إحدى الحالات، تمت إبادة 75% من أنواع الكائنات الموجودة على سطح الأرض، ما جعلها تُصنّف ضمن "الانقراضات الجماعية الكبرى". وتُعرف هذه الانقراضات في أوساط علم الحفريات باسم الانقراضات الخمسة الكبرى. وقد وقعت آخر عملية انقراض جماعي قبل 66 مليون سنة، وشكلت كارثة عالمية كانت كافية لإنهاء عصر الديناصورات العملاقة. وخلّفت وراءها حفرةً قطرها 110 أميال، اكتُشفت عام 1978 تحت شبه جزيرة يوكاتان المكسيكية من قِبل جيوفيزيائيين يعملون لدى شركة النفط الحكومية المكسيكية "بيمكس" (Pemex). ويشير حجم الحفرة وشكلها إلى أنّ كويكباً بعرض 6 أميال أحدث فجأةً حفرةً في الأرض بعمق 20 ميلاً، أعقب ذلك ظهور سلسلة جبال (مؤقتة للغاية) من الغرانيت المنصهر المتفجر بارتفاع 10 أميال بعد 3 دقائق. وقد تسببت هذه الحادثة بالقضاء على 76% من الأنواع الحيوانية.
في المقابل، يُعد الدمار الذي ألحقه البشر ببقية العالم الحيّ بسيطاً نسبياً، أقل من 10%، على الأقل في الوقت الراهن. ووفقاً لدراسة مؤثرة نُشرت في مجلة "نايتشر" (Nature) عام 2011 من قبل عالم الحفريات أنتوني بارنوسكي، إذا حافظنا على معدل الانقراض الحالي، فقد نقفز من صفوفنا (المرعبة حتى الآن) من الانقراض الجماعي البسيط إلى الانقراض الجماعي السادس الكبير في أي مكان من 3 قرون إلى 11330 عاماً من الآن، ولا يمكن للجيولوجيين في المستقبل تمييزه عن ضربة كويكب. والأسوأ من ذلك هو أن نقاط التحول قد تكون كامنة على طول الطريق، حيث تختفي الأنواع المتبقية في العالم كلها تقريباً في وقت واحد، مثل عقد شبكة الطاقة التي تفشل في العمل أثناء انهيار الشبكة.
ونظراً للخطورة البالغة التي خلفها تأثير البشر على الغلاف الحيوي حتى الآن، من المخيف أن نفكر في أن ذروة الانقراض الجماعي لا تزال أمامنا.
في تاريخ كوكبنا، ثمة فترة زمنية تُبرز دروساً قيّمة، بائسة ومتقلبة ومميتة، عندما يتعلق الأمر بجرعات ثاني أكسيد الكربون الزائدة. فقبل 300 مليون سنة، فقد الكوكب السيطرة على دورة الكربون بشكل متكرر، وعانى من انقراضات جماعية استمرت 90 مليون عام، بما في ذلك 2 من أكبر الكوارث العالمية على مر التاريخ - وكلاهما شكل كابوساً ناجماً عن ثاني أكسيد الكربون. وفي إحدى الحالات، كاد أن يندثر. فقد دمره، على حد تعبير عالم الحفريات بول ويغنال، "مناخٌ من الحقد غير المسبوق". في أواخر العصر البرمي (أي قبل 252 مليون سنة)، ثارت حمم بركانية من سيبيريا وتسللت إلى القشرة الأرضية كمية كانت كافية لتغطية الولايات الأميركية الـ48 السفلى بعمق كيلومتر واحد.
تُعرف الصخور التي خلّفتها تدفقات الحمم البركانية القديمة هذه باسم "مصائد سيبيريا". وتُشكّل هذه المصائد اليوم أودية نهرية خلابة وهضاباً من الصخور السوداء في قلب صحراء روسيا الشمالية. وتنتمي الثورات البركانية التي أنتجتها، والتي غطّت سيبيريا سابقاً بطبقة من البازلت المتبخر تبلغ مساحتها مليوني ميل مربع، إلى فئة نادرة من الصخور النارية العملاقة تُسمى "المقاطعات النارية الكبيرة" (Lips).
تُعد المقاطعات النارية الكبيرة (Lips) بلا شك أخطر شيء في تاريخ الأرض، مع سجل حافل بالكوارث أكثر بكثير من الكويكبات. هذه البراكين، التي كانت تتشكل في حقبة واحدة وتُدمر الكواكب، تختلف تماماً عن بركان "تامبورا" أو "جبل رينييه" أو "كراكاتوا"، أو حتى "يلوستون" المألوف. المقاطعات النارية الكبيرة تعكس أسلوب الأرض الذي يذكرنا بشكل فظّ بأن سطحنا الصخري الرقيق والطبقة الرقيقة من المادة الخضراء اللزجة التي تغطيه، تقع فوق مسرح كوكبي مضطرب وغير مبالٍ على الإطلاق. وهي واحدة من تلك التيارات الصخرية العملاقة التي تسحب صفائح المحيط بأكملها إلى مركز العالم لتدمرها وتُعيد تشكيلها. وعندما تتعطل هذه العملية، تتدفق المقاطعات النارية الكبيرة من القشرة الأرضية تاركةً مساحات شاسعة من الأرض مدفونة في الصخور البركانية. وقد تكون مدمرة للعالم، تبعاً لسرعة هذه الثورات البركانية وحجمها.
تأثير البشر على النظام البيئي ومعدل ثاني أكسيد الكربون
في نهاية العصر البرمي، خلال أكبر انقراض جماعي على مر العصور، شهدت هذه الثورات البركانية انفجاراتٍ مُرعبة أدّت بلا شك إلى شتاء بركاني قصير وأمطار حمضية. كما انتشر التسمم بالزئبق وغاز الفلور والكلور السام، الذي كان من المألوف أن يتعرض له الجنود المختنقون في خنادق الحرب العالمية الأولى. وشكل انبعاث كمية هائلة من ثاني أكسيد الكربون من الأرض أكبر كارثة في التاريخ أدت إلى اضطراب الكوكب.
والغريب أنه مع تزايد دقة تأريخ حمم سيبيريا البركانية، لم يبدأ هذا الانقراض الجماعي الأسوأ على الإطلاق فعلياً إلا بعد 300 ألف عام من ثورانها وبعد أن ثار ثلثا هذه الحمم. وكانت هذه البراكين تضخ كل هذه المواد السامة المعتادة طوال هذا الوقت وفعلت ذلك لمئات السنين قبل أن يبدأ الانقراض الجماعي.
فما هي آلية الانقراض الجماعي؟
يقول سيث بيرجس، عالم الجيولوجيا في هيئة المسح الجيولوجي الأميركية: "يمكن استبعاد الحمم البركانية". لكن لا بد أن شيئاً ما في هذه البراكين السيبيرية قد تغير جذرياً بعد 300 ألف عام، عندما تفكك العالم بسرعة. فما هو إذاً؟ لقد بدأ الكوكب بحرق الوقود الأحفوري. فكانت النتيجة تدفقاً هائلاً للكربون إلى النظام لدرجة أنه طغى على قدرة الكوكب على تنظيم نفسه ودفع العالم إلى الخروج عن توازنه. إذ تُصدر البراكين بمفردها كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون، وقد تصل نسبته في الغاز المنبعث من البركان المُنفجر 40%.
وبعد مئات الآلاف من السنين من الثورات البركانية المألوفة، بدأت البراكين فجأةً في إحراق العالم الجوفي على نطاق واسع، وبدأت تعمل كمحطات الطاقة الضخمة التي تستخدم الفحم ومصانع الغاز الطبيعي ومصانع الأسمنت. وكتب أحد العلماء عن الانقراض في نهاية العصر البرمي: "كان حرق الفحم يمثل إطلاقاً كارثياً وغير منضبط للطاقة من خلية الوقود الكوكبية للأرض". وفجأةً، بدأت مصائد سيبيريا تُصدر كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون، وبسرعة فائقة لا يستطيع سطح الأرض استيعابها.
إليكم هذا التسلسل المنطقي للأحداث في نهاية العصر البرمي. لقد احتجز فائض ثاني أكسيد الكربون طاقةً أكبر من الشمس على سطح كوكبنا، وهي عملية فيزيائية بسيطة توصل إليها علماء الفيزياء منذ أكثر من 150 عاماً. وهكذا، ارتفعت درجة حرارة العالم بشكل لا يُصدق. وتشير النماذج والتنبؤات إلى ارتفاع في درجة الحرارة بنحو 10 درجات مئوية على مدى آلاف السنين. ومن الحقائق الفيزيائية البسيطة المتعلقة بعالمنا أنه مع كل درجة حرارة ترتفع، يستطيع الغلاف الجوي أن يخزن نحو 7% إضافية من الماء. لذا، مع ارتفاع درجة الحرارة وتسارع دورة الماء، بدأت العواصف تكتسب شدةً مُخيفةً ومدمرة. ومع ارتفاع درجة حرارة المحيط أيضاً، تقلّ كمية الأكسجين التي يحتفظ بها. وبما أن العيش في الماء الساخن يُعدّ أمراً شاقاً، احتاجت الحيوانات غير المحظوظة فيه إلى المزيد من الأكسجين للعيش، لا أقل. وهكذا، ومع ارتفاع حرارة المحيط وازدياد ركوده، بدأت الكائنات الحية فيه بالاختفاء، وبدأت البحار تفرغ. والأمر الأكثر سوءاً هو أن ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء انتشر في هذه البحار المتدفقة على شكل حمض الكربونيك (H2CO3). ونتيجة لذلك، ازدادت حموضة المحيط العالمي بأكمله، وحُرم الماء من كربونات الكالسيوم الذائبة، التي كانت تستخدمها الحيوانات لبناء أصدافها. وفي هذه البحار المتعكرة، غدت الكائنات هشة ومريضة ولم تتمكن حتى من تكوين أصدافها.
ومع تدمير الحياة البحرية، بدأت شبكة الأغذية البحرية العالمية في الترنح والانهيار. في غضون ذلك، كانت المنظومة البيئية على اليابسة تتعرض للتدمير بفعل حرائق الغابات، التي تُطلق بدورها المزيد من ثاني أكسيد الكربون في الهواء، والعواصف العاتية. وقد جُرفت بقايا موقع الحطام إلى المحيط، ما أدى إلى إغراق البحار الساحلية بالنباتات المتحللة والمعادن التي تآكلت من الأرض مثل الفوسفور والتي كانت غذاء للنباتات، وإلى ازدياد الطحالب الضخمة قبالة الساحل. والمحيطات، التي كانت تعاني بالفعل من نقص الأكسجين الناتج عن الحرارة، بدأت تختنق اليوم نتيجة موت الطحالب المزهرة وتحللها.
ومع استمرار انبعاث ثاني أكسيد الكربون من مصائد سيبيريا، ازدادت حرارة الكوكب ولم تعد للمحيطات أي فرصة للنجاة. واليوم يدفع ثاني أكسيد الكربون الكوكب خارج حدود الحياة المعقدة. ومع انتشار البحار الحارة والخالية من الحياة والأكسجين، عاد شبح من ماضي الأرض القديم إلى هذا الكوكب المحتضر.
ونتيجة ذلك، باتت المحيطات، التي كانت بحارها المفتوحة تتلألأ ذات يوم بألوان قوس قزح مع أسراب من اللوالب المتمايلة والتي كانت شعابها المرجانية القريبة من الشاطئ مرقطة باللون الأحمر القاني بفعل الحياة، اليوم فاسدة ومختنقة وفارغة ومغطاة بالوحل. كما أصبح كل جهاز من أجهزة النظام الجيوكيميائي الكبير والمتشابك بدقة على هذا الكوكب متوقفاً أو منفصلاً أو خارجاً عن السيطرة تماماً. وكل ذلك بسبب ارتفاع معدل ثاني أكسيد الكربون.
مهما بدت تجربتنا الحديثة على كوكب الأرض مشابهةً للعصر البرمي للوهلة الأولى، فمن الجدير الإقرار، بل والتأكيد، بأن كارثة المناخ في نهاية هذا العصر كانت سيئةً للغاية. والتقديرات العليا لكمية ثاني أكسيد الكربون التي ثارت بها مصائد سيبيريا، الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري، والتي تصل إلى 120 ألف جيغا طن، تفوق الخيال. وحتى التقديرات الأقل من ذلك، والتي تبلغ حوالى 30 ألف جيغا طن، تشكل كمية هائلة من ثاني أكسيد الكربون وغير معقولة لدرجة أن إنتاجها لا يتطلب من البشر حرق كل احتياطيات الوقود الأحفوري في العالم فحسب، بل ومواصلة ضخ المزيد من الكربون في الغلاف الجوي لآلاف السنين أيضاً.
وعلى الرغم من أن الحجم الهائل من ثاني أكسيد الكربون الذي تولده مصائد سيبيريا يفوق إنتاجنا الحالي والمستقبلي، فقد تم تحقيق هذا الإجمالي على مدى عشرات الآلاف من السنين. والأمر المثير للقلق هو أنه حتى بالمقارنة مع الثورات البركانية القديمة التي امتدت عبر القارات، فإن ما نفعله اليوم يبدو فريداً من نوعه. وقد اتضح أن الجهود التكنولوجية المتطورة والمُركزة للعثور على أكبر قدر ممكن اقتصادياً من مخزون الوقود الأحفوري في العالم، واستخراجه، وحرقه بأسرع ما يمكن، كانت هائلة في استخراج الكربون من القشرة الأرضية، حتى بالمقارنة مع أكبر بركان في تاريخ الأرض. وتشير أفضل التقديرات إلى أننا ننتج الكربون أسرع بـ10 مرات تقريباً من براكين سيبيريا العشوائية وغير الموجهة التي تسببت في أسوأ انقراض جماعي على مر التاريخ.
وهذا مهم لأن الأمر كله يتعلق بالمعدل. إذ يكاد يكون مستحيلاً ضخ كمية من الكربون في الغلاف الجوي لا تستطيع الأرض، مع مرور الوقت الكافي، حماية نفسها منها. ومن المفترض أن يدخل ثاني أكسيد الكربون البركاني إلى النظام. ومن دونه لن ينجح أي عمل. فلن يكون المناخ صالحاً للسكن، وستُستنفد الحياة من المواد الخام، وسيُستنفد الأكسجين. لكن كل شيء باعتدال. وللحفاظ على توازنه الداخلي، يتخلص الكوكب باستمرار من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي والمحيطات حتى لا يتراكم ويضر بالكوكب. لكن هذه العملية بطيئة جداً بمقاييس الزمن البشرية. ويتم دفن ثاني أكسيد الكربون في الفحم ورواسب النفط والغاز، والأهم من ذلك، في رواسب المحيطات التي تتحول إلى صخور كربونية على مدى ملايين السنين.
لذا، ليس المهم فحسب كمية ثاني أكسيد الكربون الداخلة إلى النظام، بل أيضاً تدفقه. فإذا استهلكنا كميات كبيرة على مدى فترة طويلة جداً، سيتمكّن الكوكب من التعامل مع الأمر. أما إذا استهلكنا كميات أكبر من ذلك خلال فترة زمنية قصيرة، فقد نتسبب في خلل بالغلاف الحيوي.
وللأسف، يتجاوز معدل ضخ البشر لثاني أكسيد الكربون في المحيطات والغلاف الجوي اليوم قدرة الكوكب على مواكبة هذا المعدل بكثير. ونحن اليوم في المراحل الأولى من فشل هذا النظام. وفي حال استمرارنا على هذا المنوال لفترة أطول، فقد ندرك المعنى الحقيقي للفشل.
إذا كنت تريد إغراق النظام في إطار زمني أقصر ودفع دورة الكربون إلى خارج التوازن بشكل خطير، فأنت بحاجة إلى ضخ كمية مكثفة من ثاني أكسيد الكربون إلى المحيطات والغلاف الجوي، أسرع مما يمكن أن توفره لك العلوم الحيوية أو العوامل الجوية. وقد تكون الجهود الصناعية العالمية الحديثة الرامية إلى العثور على أكبر قدر ممكن من الكربون القديم المدفون في قشرة الأرض واسترجاعه وحرقه في غضون بضعة قرون قادرة على إنجاز هذه المهمة.
نقلته إلى العربية: زينب منعم.