"فورين أفيرز": إسقاط مادورو.. بأي ثمن؟
إذا كان الماضي مقدمة للأحداث، فإنَّ مُحاولة الولايات المتحدة لإطاحة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو لن تنتهي بشكل جيّد.
-
"فورين أفيرز": إنَّ مُحاولة الولايات المتحدة لإطاحة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو لن تنتهي بشكل جيّد
مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يتناول خطّة الولايات المتحدة الصريحة لإطاحة نظام الرئيس نيكولاس مادورو، محللًا المسار العسكري والسياسي لهذه الاستراتيجية ومخاطرها التاريخية والميدانية.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
ما بدأ قبل نحو شهرين سلسلةٌ من الغارات الجوّية الأميركية على قوارب في منطقة البحر الكاريبي، بزعم مسؤولين في واشنطن أنَّها كانت تهرّب المُخدّرات من فنزويلا، يبدو الآن أنَّهُ تحوَّل إلى حملة لإطاحة نظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو.
وعلى مدار الأسابيع الماضية نشرت إدارة الرئيس دونالد ترامب 10,000 جندي أميركي في المنطقة، وحشدت ما لا يقلُّ عن 8 قطع للبحرية الأميركية وغوّاصة حول الساحل الشمالي لأميركا الجنوبية، ووجّهت قاذفات "بي 52، و"بي 1"، التي حلَّقت قرب الساحل الفنزويلي، وأمرت حاملة الطائرات جيرالد ر فورد، التي تصفها البحرية الأميركية بأنَّها أكثر منصّات القتال قُدرةً وقابليةً للتكيُّف، وفتكاً في العالم"، بالتوجُّه إلى منطقة مسؤولية القيادة الجنوبية الأميركية.
وتعكس هذه التحرُّكات تحوُّلاً واسع النطاق في سياسة الإدارة تُجاه فنزويلا. وكما ذكر العديد من وسائل الإعلام الرئيسية، فقد دار نقاش داخلي لعدَّة أشهر بعد تنصيب ترامب في كانون الثاني/يناير، بين مُؤيّدي تغيير النظام منذ فترة طويلة بزعامة وزير الخارجية ماركو روبيو، والمسؤولين الذين فضَّلوا التوصُّل إلى تسوية تفاوضية مع كراكاس، بمن فيهم المبعوث الخاص للرئيس ترامب ريتشارد غرينيل.
وخلال النصف الأول من العام الجاري كانت اليدُ العليا للمفاوضين، حيث اجتمع غرينيل مع الرئيس مادورو، وأبرمَ صفقات لفتح قطاعي النفط والمعادن الواسعين في فنزويلا أمام الشركات الأميركية مُقابل إصلاحات اقتصادية وإطلاق سراح السجناء السياسيين. ولكن بحلول منتصف تموز/يوليو الماضي، استعاد روبيو زمام المبادرة من خلال إعادة صياغة الرهانات. وجادل بأنَّ إطاحة مادورو "لم تعد تتعلق فقط بتعزيز الديمقراطية، بل أصبحت مسألة أمن داخلي".
كذلك، أعاد ترامب تصوير الزعيم الفنزويلي باعتباره زعيم تُجّار المُخدّرات الإرهابيين الذين يُغذُّون أزمة المُخدِّرات في الولايات المتحدة والهجرة غير الشرعية، وربطه بعصابة "ترين دي أراغوا"، وزعم ترامب أيضاً أنَّ فنزويلا أصبحت الآن "تحكمها منظمة لتهريب المُخدّرات مَكَّنت نفسها كدولة قومية".
يبدو أنَّ هذا السرد قد أقنع ترامب الذي أمر البنتاغون باستخدام القُوَّة العسكرية ضدَّ بعض عصابات المُخدّرات في المنطقة، من ضمنها "ترين دي أراغوا"ـ و"كارتل دي لوس سولس"، وزعمت الإدارة الأميركية أنَّ مادورو وكبار مساعديه يرأسونها. وبعد أسبوعين، ضاعفت الإدارة المكافأة على رأس مادورو من 25 مليون دولار إلى 50 مليون دولار.
وفي الـ15 من الشهر الماضي، أقرَّ ترامب للصحافيين بأنَّه قد سمح لوكالة الاستخبارات المركزية بإجراء عمليّات سرّية في فنزويلا. وحين سُئل عن خطواته التالية المقصودة قال: "نحن ننظر بالتأكيد إلى الأرض الآن، لأنَّنا نُسيطر على البحر جيّداً". ووفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز "، كان المسؤولون الأميركيون واضحين، بشكل خاص، بشأن الهدف النهائي وهو إزاحة الرئيس مادورو عن الحُكم.
لكن، سواء أكانت سرّيةً أم علنية، فإنَّ أي محاولة لتغيير النظام في فنزويلا ستواجه تحديات هائلةً. فالأساليب السرّية تفشلُ عادةً أكثر ممّا تنجح، ومن غير المرجَّح أيضاً أن تنجح التهديدات باستخدام القوة أو الغارات الجوّية في الضغط على مادورو للفرار. وحتى لو نجحت واشنطن في إطاحة مادورو، فإنَّ لعبة تغيير النظام على المدى الطويل ستظلُّ محفوفة بالمخاطر، وفي الماضي كانت عواقب مثل هذه العمليّات فوضويةً وعنيفةً.
المحاولة الأولى فشلت
لدى إدارة ترامب عدَّة خيارات سرّية لإحداث تغيير في النظام في فنزويلا. ولكن من خلال إعلان مُسبق عن مثل هذه الخطط بشكل فعلي فيه فقدان للميزة الأساسية للعمل السرّي، حيث تقليل التكاليف السياسية والعسكرية للعملية من خلال الحفاظ على إمكانية الإنكار المعقول. كما أنَّ الإعلان العلني يُحمّل واشنطن المسؤولية الكاملة عن نتيجة المهمة، بينما يُقلّل من قدرتها على التحكُّم في الأحداث على الأرض إذا ساءت الأمور. عمليّاً، ويُؤدّي ذلك إلى سلسلة من الإجراءات الجزئية، تكون مكشوفةً تماماً بحيث لا يمكن إنكارُها، ومحدودة جدّاً بحيث لا تكون حاسمةً.
وحتى لو حافظ ترامب على السرّية، فإنَّ تاريخ الولايات المتحدة في التدخُّلات السرّية لا يُقدّم مُؤشّرات تستدعي التفاؤل. يُمكن لواشنطن أن تُقدّم دعماً سرّياً للمعارضين المسلحين المحليين، أو تحاول اغتيال الرئيس مادورو، أو تُحرّض على انقلاب عسكري ضدَّ نظامه. ومع ذلك، فإنَّ كل تكتيك يحملُ سجلاً أميركياً سيئاً. وقد وجدت دراسة قدمها ليندسي إيه. أورورك عام 2018، حلَّل فيها 64 مُحاولةً سرّية لتغيير النظام بدعم من الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة في دول عديدة، حيث يظهر أنَّ الجهود المبذولة لدعم المعارضين الأجانب نجحت في إطاحة بالنظام المستهدف في حوالى 10% فقط من الحالات.
كذلك، لم تكن الجهود الأميركية في محاولات عمليات الاغتيال أفضل حالاً. فقد فشلت واشنطن بهذه الأعمال المُتعمّدة لقتل القادة الأجانب سرّاً، وأشهرهم الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، الذي حاولت الولايات المتحدة اغتياله مراراً وتكراراً، على الرغم من نجاح اغتيال عدد قليل من القادة، مثل نغو دينه ديم من جنوب فيتنام عام 1963، خلال الانقلابات التي دعمتها الولايات المتحدة. ويُذكر أنَّ التحريض على الانقلابات أثبت فعاليتهُ في إيصال القوات المدعومة من الولايات المتحدة إلى السلطة، من ضمنها إيران عام 1953، وغواتيمالا عام 1954، لكنَّ أيّاً من النتيجتين لم تُفضِ إلى استقرار طويل الأمد، كما أنَّ الرئيس مادورو حصّن القوات المسلحة الفنزويلية ضدَّ الانقلابات بشكل تامّ، ما يجعل هذا الخيار أقلَّ جدوى.
ولقد جُرّب بعض هذه التكتيكات في فنزويلا سابقاً، وفشل. وفي عام 2019، اعترفت الولايات المتحدة بزعيم المعارضة خوان غوايدو رئيساً مُؤقَّتاً لفنزويلا، ودعمت انتفاضة ضدَّ نظام مادورو، لكنَّ المحاولة باءت بالفشل عندما رفض الجيش الفنزويلي الانشقاق. وفي العام التالي، شنَّت مجموعة من نحو 60 مُنشقّاً فنزويلياً استعانوا بعدد من المتعاقدين الأميركيين عملية هجوم برمائية فاشلة لاقتحام العاصمة واعتقال الرئيس مادورو، وأطلق عليها اسم "عملية جدعون". وسرعان ما اعترضتها قوات الأمن الفنزويلية.
يُظهر التاريخ أنَّ الفشل الأميركي في خُطط تغيير الأنظمة السرّية عادةً ما يُفاقم الوضع السيئ، حيث تتدهور العلاقات بين الجهة المتدخّلة وهدفها، وكما وجدنا في بحثنا، تزايد احتمالية وقوع اشتباكات عسكرية بينهما. وفي الدولة المستهدفة، تميل هذه المحاولات إلى إشعال فتيل العنف، بما في ذلك الحرب الأهلية، وتزيد خطر قيام النظام بقتل أعداد كبيرة من المدنيين.
داومت الولايات المتحدة على تدخُّلاتها السرّية في السياسة الداخلية لدول أخرى، من بينها في أفغانستان وألبانيا وأنغولا، على سبيل المثال لا الحصر. لكنَّ هذا النمط كان واضحاً على نحو خاص في أميركا اللاتينية، حيث حاولت واشنطن إجراء 18 تغييراً سرّياً للأنظمة على الأقلّ خلال الحرب الباردة. وفي عام 1954، أطاحت حكومة غواتيمالا المنتخبة ديمقراطياً، ما أدَّى إلى نظام عسكري جمع الآلاف من المعارضين، وإلى حرب أهلية استمرَّت 36 عاماً، وأسفرت عن مقتل ما يُقدَّر بنحو 200000 شخص.
وفي عام 1961، دعمت الولايات المتحدة غزو خليج الخنازير الفاشل لكوبا، ودعمت انقلاباً في جمهورية الدومينيكان أثار عن غير قصد اغتيال الطاغية رافائيل تروخيو. وبعد أن استولى ابن تروخيو على السلطة عوضاً عن مُدبّري الانقلاب المدعومين من الولايات المتحدة، أجبرتهُ واشنطن على النفي واستمرَّت في التدخُّل في انتخابات الدومينيكان وبوليفيا وغيانا طوال ستينيّات القرن الماضي. كما دعمت الانقلابات في البرازيل عام 1964، وفي بوليفيا عام 1971، وفي تشيلي عام 1973، ومولت مُتمرّدي "الكونترا" في نيكاراغوا طوال ثمانينيّات القرن الماضي.
ومع ذلك، لم تُسفر أي من هذه العمليّات عن حكومة مؤيدة لأميركا. وفي أغلب الأحيان، أدَّت التدخُّلات الأميركية إلى إرساء الأنظمة الموجودة أصلاً، أو إلى دورات من القمع والعنف. وحتى عندما وجدت واشنطن حليفاً قوياً مُناهضاً للشيوعية، مثل أوغستو بينوشيه في تشيلي، توتَّرت العلاقات معه في النهاية. وعلى نطاق أوسع، أدَّى الكشف العلني عن دور واشنطن في هذه العمليّات السرّية إلى تأجيج مشاعر مُعادية لأميركا عميقةً ودائمةً ما تزال تُطارد صناعة السياسات الأميركية في المنطقة.
النقطة الصفر
من بين خياراتها العلنية لتغيير النظام، يمكن للولايات المتحدة أن تحاول ترهيب الرئيس نيكولاس مادورو لدفعه إلى ترك السلطة بالتهديد باستخدام القوة. وقد نجحت هذه التقنية أحياناً، ولكن فقط ضدَّ الدول الصغيرة التي تُواجه خُصوماً من القوى العظمى قادرين على سحقها بغزو برّي. ففي عام 1940 على سبيل المثال، استخدم جوزيف ستالين التهديد بالغزو لإطاحة زعماء إستونيا ولاتفيا وليتوانيا المجاورة. أمّا الولايات المتحدة، فقد فرضت تغيير النظام باستخدام التهديد باستخدام القوة فقط ضدَّ أهداف ضعيفة أساساً، مثل نيكاراغوا بين عامي 1909، و1910. وفي العراق وليبيا في العصر الحديث فشلت التهديدات العسكرية الأميركية ضدَّ صدام حسين، ومعمر القذافي في ليبيا في إقناع أي من الزعيمين بالتنازل عن الحكم.
الأداة الثانية التي يُمكن لواشنطن استخدامها لإحداث تغيير في النظام هي القوة الجوية، لكنَّ قول ذلك أسهل من فعله. نظريّاً، يُمكن للغارات الجوية أن تُحْدث تغييراً في النظام بقتل القادة، أو شلّ قدرة الجيش على قيادة قواته، أو إثارة انقلاب عسكري أو انتفاضة شعبية. مع ذلك، لم تتمكَّن الولايات المتحدة قط من إطاحة زعيم أجنبي من خلال القوة الجوية وحدها. حتى مع تطوير الأسلحة الدقيقة، ثبتت صعوبة تتبع رؤساء الدول واستهدافهم، كما أنَّ انتشار تقنيات الاتصالات جعل مشروع عزل القادة عن جيوشهم بالغ الصعوبة. من جانب آخر، من غير المرجح أن تُدبّر الجيوش انقلاباً وهي تقاتل عدوّاً أجنبياً، مثل الولايات المتحدة، ومن المرجَّح أن يجد المدنيون صعوبةً في التعبئة لإطاحة نظامهم إذا كانوا يحاولون أيضاً تفادي القنابل. مثل هذه التحدّيات شبيهة بمساهمة إحباط طموحات "إسرائيل" لتغيير النظام خلال حملتها الجوية الأخيرة على إيران.
أخيراً، قد تغزو الولايات المتحدة فنزويلا. لكن إذا قرَّرت اتّباع هذا المسار، فلن تتمكَّن القوات التي تملكها الإدارة حالياً من إنجاز المُهمة. وفي أوائل الشهر الماضي قدَّر "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" أنَّ الغزو البري سيتطلب ما لا يقل عن 50 ألف جندي. ونظريّاً، يستطيع ترامب حشد مثل هذه القوة. لكنَّ شنَّ غزو كبير يتناقض بشكل صارخ مع معارضته الصريحة والمتكرّرة لإرسال قوات أميركية في مغامرات خارجية، ويخاطر بتفتيت قاعدته. كما يُقلّل معظم المراقبين من شأن سيناريو الغزو، ويتوقَّعون، كما صرَّح خبراء عسكريون لمجلة "ذا أتلانتيك" مُؤخَّراً حملة "اضغط على الزرّ، وشاهد الأمور تنفجر". تجدر الإشارة أيضاً إلى أنَّ الولايات المتحدة لم تستطع السيطرة على العراق، وهي دولة بنصف مساحة فنزويلا بأكثر من 150 ألف جندي في عام 2003.
من المغري استحضار الغزوات الأميركية السابقة لتحقيق تغيير النظام في منطقة البحر الكاريبي، مثل هجوم عام 1983 على غرينادا، الذي أطاح نظاماً ماركسياً، أو غزو بنما عام 1989، الذي أطاحت فيه واشنطن مانويل نورييغا وأظهرته كنموذج تهديد لفنزويلا. لكنَّ الحالات هذه مُضلَّلة للغاية، وغرينادا دولة جزرية صغيرة كان عدد سُكّانها حوالى 90 ألف نسمة وقت الغزو الأميركي. قد تكون بنما مُقارنةً أفضل قليلاً، لكنَّها ما تزال بعيدةً جداً عن حجم فنزويلا الأكبر بنحو 12 ضعفاً، ويبلغ عدد سُكّانها حوالى عشرة أضعاف عدد سُكّان بنما في عام 1989. وعلى عكس بنما، فإنَّ فنزويلا ليست دولة صغيرة تتمركز حول عاصمة، ولكنها دولة جبلية شاسعة ذات مراكز حضرية متعدّدة وتضاريس غابات وعرة وحدود متفاوتة يُمكن للمتمرّدين والقوات غير النظامية استغلالها. كذلك لم يكن أداء الجيش الأميركي جيّداً ضدَّ التمرُّد في ظلّ ظروف مماثلة في فيتنام وأفغانستان.
سلبيّات النجاح
حتى لو نجحت الولايات المتحدة في عملية تغيير النظام في البداية، يُظهر التاريخ مُجدَّداً أنَّ النتائج طويلة الأمد غالباً ما تكون مُخيَّبةً للآمال. فقد أظهرت دراسات أجراها العديد من الباحثين أنَّ جهود تعزيز النظام الجديد من الخارج نادراً ما تنجح. وهي نقطة جلية ومؤلمة كما كان التدخل الأميركي الأخير في أفغانستان والعراق وليبيا. بل إنَّ تغيير الأنظمة غالباً ما يُولّد المزيد من العنف، ويزيد بشكل كبير من احتمالية نشوب حرب أهلية في الدول المُستهدفة. حتى إنَّ تغييرات الأنظمة الناتجة عن انتصارات برية حاسمة قد تفشل إذا تشتَّتت القوات المسلحة للدولة المستهدفة عوضاً عن الاستسلام، ما يسمح لتلك القوات بتوفير أرضية لتمرّدات ضدَّ نظام جديد، كما حدث في العراق.
يُشير المشهد الداخلي في فنزويلا إلى أنَّ هذا الاحتمال قائم. وكما أشار مُحلل شؤون أميركا اللاتينية خوان ديفيد روخاس، فإنّّ فنزويلا تضمُّ "مجموعة متنوعة من الجهات المسلّحة المتطورة"، بما في ذلك الميليشيات الموالية للنظام المعروفة باسم "الكوليكتيف"، ومن ضمنها جماعات مسلحة عابرة للحدود الوطنية، مثل "جيش التحرير الوطني" وبقايا القوات المسلحة الثورية الكولومبية "فارك". وصرَّح فيل جونسون، المُحلل في مجموعة الأزمات الدولية والمقيم في كراكاس، لصحيفة "الغارديان" في الشهر الماضي بأنَّ فنزويلا "مليئة بالجماعات المسلحة من مختلف الأنواع، ولا يوجد لدى أي منها أي حافز للاستسلام أو التوقف عن ممارسة أنشطتها"، فإنَّ احتمالات العواقب على الولايات المتحدة كبيرة.
كذلك، من سيحلُّ عوضاً عن الرئيس مادورو سيواجه عقبات كبيرة، خاصَّةً لأنَّ الولايات المتحدة وضعته في هذا المنصب. إنَّ القادة الذين تجلبهم جهات خارجية إلى السلطة هم أكثر عرضة للإطاحة بعنف من القادة الآخرين. وفي الواقع، سواء على نحو علني أم سرّي، وجد بحثنا أنَّ ما يقرب من نصف القادة المفروضين من الخارج يزاحون لاحقاً بالقوة. وغالباً ما ينظرُ إليهم على أنَّهم ضعفاء أو غير شرعيين، إمّا لأنَّهم يفتقرون إلى دعم محلي واسع، أو ينظرُ إليهم على أنَّهم دمى في يد حكومة أجنبية، بينما يكافح هؤلاء بمرارة من أجل توطيد سلطتهم. من المؤكد أنَّ فنزويلا لديها معارضة ديمقراطية نابضة بالحياة، وأنَّ زعيمة المعارضة، الحائزة مُؤخَّراً جائزة نوبل ماريا كورينا ماتشادو، تتمتّع بأغلبية الدعم الشعبي.
ويجادل مؤيدو تغيير النظام بأنه قد تتمكّن هذه الأغلبية من إيصال ماتشادو إلى السلطة. لكن حتى استطلاعات الرأي العام المؤيّدة لماتشادو تُظهر أنَّ مادورو ما يزال يحظى بولاء ما يقرب من ثلث السُكّان. وتشمل هذه التوجهات لهذه الأقلية بشكل رئيسي، حول الركائز الأساسية لجهاز النظام القمعي، الذين تعتمد مناصبهم وامتيازاتهم على بقاء النظام الحالي.
وفي عام 2023، حذّرت دراسة أجرتها مؤسسة "راند" من أنّ التدخل العسكري الأميركي في فنزويلا "سيطول ولن يكون من السهل على الولايات المتحدة التحرر منه بمجرد بدء تدخلها". وكل هذا يُشير إلى درس أوسع عن الثورات الديمقراطية التي غالباً ما تنجح عندما تكون محلية. وإذا كان ماتشادو تحظى بدعم واسع، وكانت المعارضة تتمتَّع بالأغلبية، فأفضل فرصة لها للنجاح تكمن في ترجمة هذا الدعم إلى سلطة من الداخل. كما أنَّ مواءمة حركتهم مع جيش أجنبي يُخاطر بنزع الشرعية عن قضيتهم ويثير ردود فعل وطنية عنيفة.
إِضافةً إلى ذلك، فإنَّ طلب المعارضة الفنزويلية الآن المساعدة العسكرية الأميركية يجب أن يثير قلق صانعي السياسات الأميركيين. فإذا كان التوازن السياسي في صالح المعارضة الفنزويلية حقّاً، فلماذا يحتاجون إلى مساعدة خارجية لإسقاط مادورو. الجواب بالطبع، هو أنَّ نظام مادورو ما يزال يسيطر على السلاح. ولكن إذا احتاجت المعارضة إلى دعم خارجي للاستيلاء على السلطة، فمن المرجَّح أن تُواجه صعوبةً في الاحتفاظ بها.
يُقدّم التاريخ الكثير من الحكايات التحذيرية. لقد اعتمد أولئك الذين يسعون إلى تغيير الأنظمة مراراً وتكراراً على معلومات مُتحيّزة وافتراضات وردية حول عواقب هذه العمليات. على سبيل المثال، عند تقييمه لآفاق تنصيب نظام دُمية في المكسيك خلال ستينيات القرن 19، حيث وثقَ نابليون الثالث ملك فرنسا بنصيحة المحافظين المكسيكيين المنفيين، الذين أكَّدوا له أنَّ مُواطنيهم سيرحّبون بحكم أرشيدوق نمساوي، تماماً كما صدَّقت إدارة جورج دبليو بوش تأكيدات المنفي العراقي البارز أحمد الجلبي بأنَّ كل شيء سيكون على ما يرام بعد الإطاحة بصدام حسين. وقد انتهى الأمر بكلا التدخّلين إلى مواجهة حركات تمرُّد قوية. تكمن المشكلة الجذرية في أنَّ المتدخّلين يميلون إلى التركيز بقصر نظر على كيفية إسقاط النظام، من دون التفكير كثيراً فيما سيأتي بعد ذلك. ولكن كما قال بنجامين فرانكلين ذات مرَّة، "إذا فشلت في التخطيط، فأنت تُخطّط للفشل". بإهمال التخطيط، تخاطر إدارة ترامب بتكرار كوارث العراق وليبيا.
أميركا أولاً؟
إنَّ أي سياسة أميركية لتغيير الأنظمة، بغض النظر عن فرص نجاحها، ستُخالف جميع مبادئ السياسة الخارجية التي يدّعي ترامب دعمها. وهو انتقد "الحروب الأبدية" للولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وتعهد بإيقاف "عصر الحروب التي لا تنتهي" على نطاق أوسع. وقد صوّر نفسه على نحو متكرر كصانع سلام، مدعياً أنّه أنهى 8 حروب دولية في 9 أشهر. وقد، أشاد ترامب في خطاب ألقاه في الرياض منذ أشهر قليلة بحق تقرير المصير الإقليمي، وقال "لقد ساهم شعوب المنطقة أنفسهم في ميلاد شرق أوسط حديث، فلقد دمّر ما يُسمّى "بُناة الأمم" دولاً أكثر بكثير مما بنوا، وكان المتدخلون في مجتمعات معقدة لم يكونوا يفهمونها حتى.
إنّ أي جهد أميركي مُدبّر لإطاحة الرئيس مادورو من شأنه أن يتناقض مع هذه الرؤية. ومن المحتمل أن يُورّط الولايات المتحدة في صراع مفتوح آخر، ويُنفّر الشركاء الإقليميين وسط منافسة أوسع مع الصين على النفوذ في المنطقة، ويتحدَّى رغبات الجمهور الأميركي. وقد أظهر استطلاع رأي أجرته شركة "يوغوف" في أيلول/سبتمبر أنَّ 62% من المواطنين الأميركيين البالغين "يعارضون بشدة أو إلى حدّ ما استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية لغزو فنزويلا، و53% يعارضون بشدة أو إلى حد ما "استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية لإطاحة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو.
وحول دعم عمليات نشر البحرية الأميركية كانت الآراء أكثر تبايناً، حيث أيد 36% بشدة أو إلى حد ما "إرسال الولايات المتحدة سفناً بحرية حول فنزويلا، و38% أيدوا بشدة أو إلى حد ما رفضوا. ووجد استطلاع رأي أُجري في أوائل الشهر الماضي أنَّه حتى في مقاطعة ميامي بولاية فلوريدا، موطن أكبر جالية فنزويلية في الولايات المتحدة، فإن عدد السُكّان الذين يعارضون استخدام الجيش الأميركي لإطاحة مادورو أكبر من عددهم، بنسبة 42%، مقابل 35%.
ولن يعزز تغيير النظام في فنزويلا الأهداف المعلنة للإدارة في نصف الكرة الغربي، وهي الحدُّ من الاتّجار بالمُخدّرات، وتفكيك الكارتلات، والحدّ من الهجرة غير الشرعية. وأولاً، فنزويلا ليست مورداً رئيسياً للمُخدّرات إلى الولايات المتحدة. وفي الحقيقة لا يذكرُ تقييم "وكالة مكافحة المُخدّرات الوطني" الأميركي لتهديدات المُخدّرات لعام 2024 فنزويلا إطلاقاً، وتقدر الوكالة أنَّ 8% فقط من الكوكايين المُتَّجه إلى الولايات المتحدة يعبر أراضيها. ويبدو أيضاً أنَّ التهديد الذي تشكله عصابة "ترين دي أراغوا" مبالغٌ فيه. فقد خلصت مُذكّرة رُفعت عنها السرية في نيسان/أبريل الماضي من مكتب مدير الاستخبارات الوطنية إلى أنَّ صغر حجم العصابة يجعل من "المستبعد للغاية" أن تستطيع تنسيق كميات كبيرة من المُخدّرات أو تهريب المهاجرين". كما لا يوجد أي سبب واضح للاعتقاد بأنَّ تغيير النظام سيوقف أو يعكس الهجرة الجماعية من فنزويلا، بل على العكس، فإن المزيد من زعزعة استقرار النظام قد يُؤدّي فقط إلى زيادة عدد اللاجئين الفارَّين من البلاد.
قد يجادل البعض بأنَّ تغيير النظام مُبرّر بالمصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة في احتياطيات النفط الفنزويلية، وهي الأكبر في العالم. لكنَّ المفاوضات بشأن وصول الولايات المتحدة إلى تلك الموارد كانت ناجحةً. وكما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في الشهر الماضي، أنَّه بموجب اتفاق نوقش خلال الصيف عرض مادورو "فتح جميع مشاريع النفط والذهب الحالية والمستقبلية أمام الشركات الأميركية، ومنح عقود تفضيلية للشركات الأميركية، وعكس مسار تدفُّق صادرات النفط الفنزويلية من الصين إلى الولايات المتحدة، وتقليص عقود الطاقة والتعدين لبلاده مع الشركات الصينية والإيرانية والروسية". ويقال إنَّ هذه كانت حزمة التنازلات الأكثر سخاء التي قدَّمها خصم أجنبي لإدارة أميركية منذ عقود.
لم تكن الدبلوماسية قد استنفدت بعد عندما انسحب ترامب فجأةً. وإذا كان هدف الإدارة هو تأمين المصالح الأميركية في المنطقة، فسيكون من الحكمة العودة إلى طاولة المفاوضات عوضاً عن المخاطرة بالفوضى التي سيطلقها تغيير النظام.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.