"فورين بوليسي": كيف تدمّر بلداً؟ إليك دليل ترامب
دليل خطوة بخطوة لتدمير دونالد ترامب للسياسة الخارجية الأميركية.
-
الرئيس الأميركي دونالد ترامب
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يتناول سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مجال السياسة الخارجية وينتقدها، مع التركيز على كيفية تأثير قراراته على القوة والنفوذ الأميركيين في العالم، ويفنّد الكاتب مجموعة من الخطوات التي يراها أنها تؤدي إلى إفساد السياسة الخارجية للولايات المتحدة وتدمّرها.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
إذا كنتَ قارئاً منتظماً لهذا العمود، فأنتَ تعلم أنني غالباً ما أنتقد سياسة الولايات المتحدة في الساحة العالمية. كنتُ أعتقد أنّ رئاسة جورج دبليو بوش كانت كارثية على السياسة الخارجية؛ وأن سنوات باراك أوباما الثماني في السلطة كانت مخيبة للآمال، وأنّ ولاية دونالد ترامب الأولى كانت فوضى عارمة، وأنّ السنوات الأربع التي قضاها جو بايدن في السلطة شابتها زلاتٌ استراتيجية وأخلاقيةٌ مُدمرة. وللأسف، لم يستغرق ترامب وإدارته سوى أقل من 3 أشهر ليتفوّقا عليهم جميعاً في فسادهما في السياسة الخارجية.
وللتوضيح، لا أعتقد أن ترامب يتصرف نيابةً عن قوة أجنبية، أو أنه يريد عن قصد جعل الولايات المتحدة أقل أمناً وازدهاراً؛ ولكنه يتصرّف كما لو كان كذلك. وقد يعتبر البعض أنه يتبع الدليل العملي التالي المؤلف من 5 خطوات لإفساد السياسة الخارجية الأميركية.
الخطوة الأولى: تعيين عدد كبير من المنافقين والموالين
إذا أردتَ تدمير بلد ما، فابدأ بالتأكد من عدم قدرة أحد على منعك من ارتكاب حماقات. لذا، عليك تعيين أشخاص غير أكفاء، أو موالين لك بشكل أعمى، أو معتمدين كلياً على رعايتك، أو يفتقرون إلى الشجاعة أو المبادئ، والتخلص من أي شخص قد يكون مستقلاً ومتمسكاً بالمبادئ ومتقناً لعمله.
ووفقاً لوالتر ليبمان، "عندما يفكر الجميع على نحوٍ متشابه، لا يفكر أحد بعمق"، وهذا يُسهّل على قائد مُضلّل دفْع البلاد إلى الهاوية. فعلى سبيل المثال، ساعد غياب المعارضة جوزيف ستالين على سوء إدارة الاقتصاد السوفياتي، وسمح لماو تسي تونغ بإطلاق "القفزة العظيمة إلى الأمام" الكارثية، ومهّد الطريق لأدولف هتلر لإعلان الحرب على بقية أوروبا. كما أن غياب المعارضة الداخلية القوية ساعد بوش على ارتكاب خطأ فادح في حرب العراق عام 2003. وإذا كنت تريد إفساد السياسة الخارجية لبلدك، فإن تجاهل الأصوات المعارضة والاعتماد على الأتباع يُعد نقطة انطلاق جيدة. وبالتالي، فإن الخطوة الأولى مهمة للغاية للبرنامج بأكمله؛ وإذا كنت تنوي القيام بالكثير من الأمور الغبية، فأنت لا تريد أن يتمكن أي شخص من معارضتك أو عرقلتك.
الخطوة الثانية: افتعال المعارك مع أكبر عدد ممكن من الدول
إن السياسة الدولية تنافسية بطبيعتها؛ ولذلك تكون الدول أفضل حالاً بوجود الكثير من الشركاء الأصدقاء بمعظمهم وعدد قليل نسبياً من الخصوم. لذا، فإن السياسة الخارجية الناجحة هي تلك التي تُعزز الدعم الذي تحصل عليه من الآخرين وتُقلل عدد المعارضين الذين تواجههم. وبفضل موقعها الجغرافي المتميز، نجحت الولايات المتحدة في الحصول على دعم حلفاء مهمين في أنحاء أخرى من العالم، وكان أداؤها أفضل بكثير من معظم خصومها. وكان من أهم عوامل هذا النجاح عدم التصرف بعدوانية أو عدائية مفرطة، حتى مع ممارسة نفوذ هائل. في المقابل، تبنّت كلّ من ألمانيا في عهد فيلهلم، والاتحاد السوفياتي، والصين الماوية، وليبيا، والعراق في عهد صدام حسين، سلوكيات عدوانية وتهديدية شجعت جيرانها وغيرهم على توحيد قواهم ضدها. في بعض الأحيان، تتصرّف القوى العظمى بشراسة، ولكن القوة العظمى الذكية تلف قبضتها الحديدية بقفاز مخملي، حتى لا تثير معارضة غير ضرورية.
ولكن ماذا يفعل ترامب بدلاً من ذلك؟ في أقل من 3 أشهر، أهانت إدارة ترامب حلفاءنا الأوروبيين بصورة متكررة؛ وهددت بالاستيلاء على أراضٍ تابعة لأحدهم (الدنمارك)؛ وافتعلت معارك غير ضرورية مع كولومبيا والمكسيك وكندا وعدد من الدول الأخرى. ومارس ترامب ونائبه جيه دي فانس الترهيب العلني ضد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي في المكتب البيضاوي، وهما يواصلان، مثل زعماء المافيا، محاولة إجبار أوكرانيا على التوقيع على التنازل عن حقوق التعدين مقابل استمرار المساعدات الأميركية. ووسط ضجة إعلامية كبيرة، قامت الإدارة بتفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وانسحبت من منظمة الصحة العالمية، وأوضحت أن حكومة أكبر اقتصاد في العالم لم تعد مهتمة بمساعدة المجتمعات الأقل حظاً. فهل يمكنك التفكير في طريقة أفضل لتلميع صورة الصين بالمقارنة؟
وخلال الأسبوع الفائت، تجاهل ترامب من دون اكتراث التحذيرات المتكررة من خبراء اقتصاديين من مختلف الأطياف السياسية، وفرض مجموعة من الرسوم الجمركية الغريبة على قائمة طويلة من الحلفاء والخصوم. فكان حُكم بورصة "وول ستريت" على قرار ترامب الجاهل فورياً، مع تسجيل أكبر انخفاض في سوق الأسهم لمدة يومين في تاريخ الولايات المتحدة، وازدادت التوقعات بشأن حدوث ركود بشكل كبير. وبالتالي، فإن هذا القرار المتهور لم يكن استجابة لحالة طوارئ أو قراراً فرضته جهات أخرى على البلاد؛ بل كان جرحاً ذاتياً من شأنه أن يجعل ملايين الأميركيين أكثر فقراً، حتى ولو لم يمتلكوا سهماً واحداً من الأسهم.
إضافة إلى ذلك، لن تكون العواقب الجيوسياسية أقل خطورة. فقد بدأ بعض الدول بالفعل بالرد بالمثل؛ الأمر الذي يزيد من مخاطر الركود العالمي، ولكن حتى الدول التي لا ترد ستحاول تقليل اعتمادها على السوق الأميركية والبدء بالسعي إلى توقيع اتفاقيات تجارية متبادلة المنفعة بعيداً عن الولايات المتحدة. وكما أشرتُ في مقال سابق، فإن بدء حرب تجارية مع حلفائنا الآسيويين يتعارض مع رغبة الإدارة المعلنة في التنافس مع الصين.
الخطوة الثالثة: تجاهل القوة القومية
يحب ترامب أن يصوّر نفسه على أنه قومي غيور (على الرغم من أنه يبدو أكثر اهتماماً بالإثراء الشخصي من مساعدة البلاد ككل)، لكنه لا يدرك أن الدول الأخرى تمتلك مشاعر وطنية قوية بالقدر نفسه أيضاً. وعندما يواصل ترامب انتقاد قادة الدول الأخرى، أو التهديد بالاستيلاء على أراضيها، أو حتى الحديث عن ضمّها، فإنه يولّد سخطاً قومياً كبيراً، وسرعان ما سيكتشف ساسة هذه البلدان أن الوقوف في وجهه سيجعلهم أكثر شعبية في الداخل. وقد أثارت محاولات ترامب المتهورة لترهيب كندا وإذلالها غضب الكنديين وأعادت إحياء الحزب الليبرالي، وتحديداً لأن رئيس الوزراء السابق جاستن ترودو وخليفته مارك كارني لعبا بورقة القومية بفعالية كبيرة. ومن النتائج المباشرة لذلك، انخفاض عدد الكنديين الراغبين بزيارة الولايات المتحدة (وهذا ليس جيداً لقطاع السياحة الأميركي!)، كما تسعى الحكومة إلى إبرام اتفاقيات اقتصادية وأمنية جديدة مع دول أخرى. إن الأمر يتطلب مستوى مذهلاً من عدم الكفاءة الدبلوماسية لتحويل جارة صديقة مثل كندا ضدنا، لكن ترامب كان على قدر المهمة.
الخطوة الرابعة: انتهاك القواعد، والانسحاب من الاتفاقيات، والتصرّف بشكل غير متوقع
يدرك القادة الحكماء للدول القوية أن المعايير والقواعد والمؤسسات يمكن أن تكون أدوات فعّالة لإدارة العلاقات في ما بينهم والسيطرة على الدول الأضعف. وستُعيد القوى العظمى صياغة القواعد أو تتحداها عند الضرورة، لكن الإفراط في القيام بذلك أو بشكل متقلب سيُجبر الآخرين على البحث عن شركاء أكثر موثوقية. وسيُنظر إلى الدول التي تكتسب سمعة سيئة لكونها مخالفة للقواعد، مثل كوريا الشمالية أو العراق في عهد صدام حسين، على أنها خطيرة، وقد يجري نبذها أو احتواؤها.
لكن ترامب وأتباعه لا يفهمون أياً من هذه الأمور. ويعتقدون أن المؤسسات والأعراف الدولية مجرد قيود مزعجة تُعيق قوة الولايات المتحدة، وأن عدم القدرة على التنبؤ بالتصرفات من شأنه أن يبقي الدول الأخرى في حالة من عدم التوازن ويعزز نفوذ الولايات المتحدة إلى أقصى حد. وهم لا يدركون أن المؤسسات التي تُشكل العلاقات بين الدول وُضعت في الغالب مع مراعاة المصالح الأميركية، وأن هذه الاتفاقيات عادةً ما تُعزز قدرة واشنطن على إدارة الآخرين. وبالتالي، فإن انتهاك القواعد أو الانسحاب من المنظمات الدولية الرئيسة يجعل من السهل على الدول الأخرى إعادة صياغة القواعد بطرق تخدم مصالحها.
علاوة على ذلك، فإن عدم القدرة على التنبؤ يُعد أمراً سيئاً للشركات، لأنها لا تستطيع اتخاذ قرارات استثمارية ذكية إذا استمرت السياسة الأميركية في التغير بين عشية وضحاها؛ وبالتالي، ستخسر ثقة الآخرين وتثنيهم عن التعاون مع الولايات المتحدة في المستقبل. فلماذا قد تُعدل أي دولة عاقلة سلوكها لأن ترامب وعد بفعل شيء لها في المقابل، في وقت أثبت الرئيس مراراً وتكراراً أن وعوده لا تعني شيئاً؟
الخطوة الخامسة: تقويض أسس القوة الأميركية
في عالمنا المعاصر، تعتمد القوة الاقتصادية والقدرة العسكرية ورفاهية الشعوب بالدرجة الأولى على المعرفة. ويُعدّ تفوّق الولايات المتحدة العلمي والتكنولوجي السبب الرئيس في كونها أقوى اقتصاد في العالم لعقود، وفي قوة جيشها الهائلة. والحاجة إلى مؤسسة بحثية قوية تُعد السبب وراء ضخ الصين تريليونات الدولارات في هذا القطاع، وإنشاء عدد متزايد من الجامعات ومراكز الأبحاث المرموقة عالمياً. لذلك، فإن الرئيس الذي يريد للولايات المتحدة أن تكون عظيمة، سيبذل قصارى جهده للحفاظ عليها في طليعة التقدم العلمي والابتكار.
ولكن ماذا يفعل ترامب بدلاً من ذلك؟ إضافة إلى تعيينه أشخاصاً جاهلين علمياً في مناصب حكومية رئيسة، وأعني هنا روبرت إف. كينيدي الابن، هاجم المؤسسات التي غذّت إنتاج المعرفة والتقدم العلمي في الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. وما حدث ليس مجرد قرار يستهدف جامعات كولومبيا أو هارفرد أو برينستون أو براون لأسباب مشكوك فيها إلى حد كبير؛ فقد قامت الإدارة أيضاً بإغلاق معهد السلام الأميركي (U.S. Institute of Peace)، وحلّ مركز "وودرو ويلسون" الدولي للعلماء (Woodrow Wilson International Center for Scholars)، وإجراء تخفيضات هائلة في عدد الموظفين في وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، وتدمير مؤسسة العلوم الوطنية (National Science Foundation)، وهددت بحجب مليارات الدولارات من أموال الأبحاث الطبية. والنتيجة؟ برامج البحث العلمي تُغلق، وبرامج الدكتوراه تُلغى، ما يعني أن البلاد ستمتلك عدداً أقل من الباحثين المؤهلين في مجالات رئيسة مستقبلاً. وسيبحث العلماء الأجانب عن جهات أخرى للتعاقد معها، وستتعرّض قدرة الولايات المتحدة على جذب أفضل العقول للدراسة والعمل للخطر. ومن المرجّح أن يهاجر بعض العلماء المقيمين في الولايات المتحدة إلى بلدانٍ لا يزال عملهم يحظى فيها بالدعم والاحترام الكافيين. وعليه، فإن ترامب يقضي على عنصر أساسيّ من عناصر القوة والهيبة والنفوذ الأميركي.
لا تحتاج العلوم الطبيعية أو الطبية وحدها إلى الحفاظ عليها. فاستهداف علماء الاجتماع، وبرامج الدراسات الإقليمية، والعلوم الإنسانية أمرٌ خطيرٌ أيضاً، لأن هذه المجالات البحثية هي التي يستمد منها مجتمعنا أفكاراً جديدة لمعالجة المشكلات الاجتماعية. كما أنها المكان الذي يتم فيه فحص الأفكار الجديدة ومقترحات السياسات وانتقادها وتفنيدها أو تعديلها. والدولة التي تسعى إلى أن تكون عظيمة ستحتاج أيضاً إلى علماء من مختلف الأطياف السياسية للتحقيق في السياسات الاقتصادية والممارسات السياسية والظروف الاجتماعية القائمة وتحديها، حتى يتمكن المواطنون وقادتهم من معرفة ما ينجح وما لا ينجح، واقتراح الحلول البديلة وتقييمها. وعندما يقوم الساسة بإسكات الأصوات المعارضة من مختلف الأطياف السياسية أو تهميشها، فقد يتم تبني سياسات حمقاء ويصبح من الصعب تصحيحها عندما تفشل. ولهذا السبب، يهاجم الحكام المستبدّون دائماً الجامعات وغيرها من مصادر المعرفة المستقلة عندما يحاولون تعزيز سلطتهم، حتى لو كان ذلك سيؤدي حتماً إلى جعل البلاد أكثر غباء وفقراً.
باختصار، ينتهك نظام ترامب معظم ما نعرفه عن كيفية اتخاذ القرارات، وكثيراً مما نعرفه عن السياسة العالمية. فهو يرحب بالتفكير الجماعي، ويفضل الطاعة العمياء للقائد على النقاش السياسي الصادق. وهو يتجاهل الميل الطبيعي للدول إلى تحقيق التوازن في مواجهة التهديدات، ويخاطر بتنفير حلفائه الحاليين، أو حتى تحويل بعضهم إلى خصوم. كما أنه يتجاهل القوة الدائمة التي تتمتع بها القومية ويرفض ما يعلمنا إياه التاريخ وكتاب الاقتصاد 101 عن التأثير المدمر لسياسة الحماية. وبدلاً من جعل أميركا عظيمة مرة أخرى، فإن هذه الأخطاء ستجعل أميركا أفقر، وأقل قوة، وأقل احتراماً، وأقل نفوذاً في جميع أنحاء العالم. وبالتالي، هذه هي الطريقة التي يتم بها إفساد السياسة الخارجية لأي بلد.
نقلته إلى العربية: زينب منعم