"نيويورك تايمز": الأزمة الاقتصادية في مصر تُثير معضلة الإكراميات
يتلقى النُدُل وعمال التوصيل إكراميات، وكذلك موظفو الاستقبال والموظفون الحكوميون والممرضون في المستشفيات. ومع غرق مصر في أزمة اقتصادية، باتت حتى تكلفة الإكراميات تتضخم.
-
"نيويورك تايمز": الأزمة الاقتصادية في مصر تُثير معضلة الإكراميات
صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تنشر مقالاً يتناول ظاهرة الإكراميات والرشاوى الصغيرة في مصر، وكيف تحوّلت من عادة اجتماعية قديمة إلى ضرورة اقتصادية قاسية في ظل تدهور الأوضاع المعيشية وارتفاع معدلات التضخم.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
عندما يعود مصري، بطل الفيلم المصري الكلاسيكي "عسل إسود"، إلى القاهرة في زيارة بعد 20 عاماً قضاها في أميركا، يجد نفسه مضطراً للتأقلم مجدداً مع قسوة الحياة اليومية في مصر. لكن إحدى أكبر صدماته كانت عندما ذهب إلى مكتب حكومي لاستخراج جواز سفر جديد. ولإتمام معاملته، طلب الموظف المسؤول "شاي" مع 100 ملعقة سكر، وهو طلب حيّر مصري، حتى شرح له صديقه أن الموظف يريد رشوة. ويقول الموظف لمصري الذي انصدم: "هل أساعدك؟ أم ترغب في الوقوف في نهاية الصف بضمير مرتاح؟"
يُعدّ دفع النقود لتخطي طابور الحصول على مساعدة إضافية أو كعربون شكر أمراً مفروغاً منه في مصر، لدرجة أن الشركات تعتبر أحياناً هذه "الإكراميات" نفقات عمل روتينية. ويحصل عليها العاملون في مواقف السيارات، والنُدُل، وموظفو الاستقبال، وعمّال التوصيل، كما هي الحال في دول أخرى. وينطبق الأمر نفسه على موظفي الاستقبال في العيادات الطبية الخاصة، والموظفين الحكوميين، وحتى على الممرضين في المستشفيات، الذين يطلب بعضهم إكراميات مقابل مهام مثل إحضار الماء لمرضاهم.
وبالنسبة لأي شخص يشاهد فيلم "عسل إسود" في مصر عام 2025، أي بعد 15 عاماً من عرضه، يعلق في ذهنه حجم الرشوة المذكور فيه. ففي عام 2010، كانت الـ100 جنيه مصري تساوي حوالى 18 دولاراً أميركياً. أما اليوم، وبعد الأزمات الاقتصادية المتعددة التي واجهتها مصر والانخفاض في قيمة عملتها، لم تعد الرشوة التي دفعها مصري تساوي سوى دولارين تقريباً.
وحتى هذا الرقم قد يبدو بعيد المنال بالنسبة إلى الطبقة المتوسطة أو الفقيرة في مصر في الوقت الراهن. فقد استقر معدل التضخم عند رقم مزدوج منذ بدء الأزمة الاقتصادية الأخيرة في البلاد مطلع عام 2022، ليصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق عند 38% في أيلول/ سبتمبر 2023. ثم انخفض معدل التضخم إلى 11.7% في أيلول/ سبتمبر الماضي، بعد أن حصلت مصر على حزمة إنقاذ بمليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي والإمارات العربية المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتحركت نحو استقرار الاقتصاد.
إلا أن التقدّم في مسألة إجراء الإصلاحات الاقتصادية لا يزال بطيئاً. ولا يزال الشعب المصري يعاني آثار سنوات من التضحيات والتقشف والفقر المُدقع. وفي هذا السياق، تقول مارينا قلدس، مديرة مواقع التواصل الاجتماعي في القاهرة: "لقد طال التضخم كل شيء، حتى الإكراميات. في الماضي، كان بإمكان الناس دفع ما بين 10 و20 جنيهاً، وكان ذلك كافياً تماماً. أما اليوم، إذا دفعتَ لشخص ما 10 جنيهات فقط، فلن يستطيع فعل أي شيء بها". وتشير مارينا إلى أنه عندما دخل والدها المستشفى في آذار/ مارس بسبب الفشل الكلوي، تجاهل الممرضون طلباته للحصول على الماء أو المساعدة في تغيير ملابسه حتى بدأتُ في إعطائهم الإكراميات – وهذه تكلفة باهظة، حتى لو كانت دولاراً واحداً فقط في اليوم لكل ممرض. وتقول إنها تتفهم الأمر بسبب الوضع الاقتصادي الصعب. فـ"انخفاض الأجور يُجبر الناس على الاعتماد على الإكراميات. وهم بحاجة إلى كل مال إضافي".
قد تكون الإكرامية عادة متأصلة في مصر، لكن الآراء تتباين بشكل كبير حول التوقيت المناسب لتقديمها، وما إذا كان دفع المال مقابل خدمات معينة يُعدّ عربون امتنان أم رشوة.
قبل عامين، وجدت السيدة قلدس نفسها عالقة في طابور طويل أمام أحد المكاتب عندما احتاجت إلى تجديد رخصة قيادتها على عجل. وأثناء انتظارها، أشارت إلى أنها رأت أشخاصاً يرشون موظفاً حكومياً للحصول على رخص قيادة من دون الخضوع للاختبار. وقد أبدت رفضها لمثل هذا التصرّف، متسائلةً عن وضع السلامة العامة على الطرقات. إلا أنها لم تتردد، على حد قولها، في إعطاء إكرامية للموظف نفسه بعد أن سمح لها بالوقوف في مقدمة الصف، بحيث أعطته 1000 جنيه (أي حوالى 33 دولاراً) لتشكره إضافة إلى الرسوم المعتادة. وقالت إنه لو تكرر هذا الموقف اليوم، لكانت ستضطر إلى إعطائه إكرامية تصل إلى 1800 جنيه (أي حوالى 38 دولاراً).
-
مكتب صرافة في القاهرة
تزداد صعوبة تحمّل الإكراميات المرتفعة بالنسبة إلى الكثير من المصريين. ومع ذلك، يرى البعض أن التبرع بالمال الإضافي واجب ديني أو عمل خيري، أو وسيلة لسد الفجوة الهائلة بين من يملكون ما يتبرعون به ومن لا يملكون أي شيء تقريباً. وعلى الرغم من إعلان مصر عن توسيع دائرة برامج الرعاية الاجتماعية، تشير أحدث الإحصائيات الرسمية لعام 2019 إلى أن ما يقارب الـ30% من المصريين يرزحون تحت وطأة الفقر. ومن المؤكد أن هذه النسبة قد ارتفعت مع انتشار جائحة كورونا والتباطؤ الاقتصادي الأخير. كما تعمل الحكومة على خفض دعم الخبز والغاز والكهرباء، وهي سلع أساسية للكثير من فقراء مصر.
وتقول مي محمد صادق، وهي معلمة لغة إنكليزية في القاهرة، إنها حاولت إعطاء ما بين 10 إلى 15 جنيهاً (أي حوالى 20 إلى 30 سنتاً) لموظفي موقف السيارات وحاملي أكياس التبضّع، مقارنة بـ5 جنيهات كانت تدفعها عادة قبل الأزمة الاقتصادية. "لطالما شكّل هذا الأمر جزءاً من ثقافتنا، لكن النوايا اليوم قد تختلف قليلاً. أنت تفعل هذا لأنك تدرك صعوبة الأمر، وبالتالي، أنت تساعد بدلاً من أن تقول كلمة شكراً".
ولكن بغضّ النظر عن احتياجات المتلقي، تقول إنها تشعر بالانزعاج كلما دخلت إلى موقف سيارات عام في الشارع. فقد يظهر فجأةً أحد موظفي مواقف السيارات ممن نصّب نفسه للمساعدة، ويوضح لها، من خلال لغة جسده أو من خلال تمنياته لها بعطلة سعيدة، أنه يتوقع الحصول على إكرامية، على الرغم من أنها وجدت المكان وركنت السيارة بنفسها. "ماذا فعلتَ أنتَ؟ لا شيء!"
وتُضيف مي أنّ العطايا التي تمنح صاحبها ميزة على الآخرين، مثل الإذن بتجاوز الطابور، تسيء إلى شعورها بالعدالة أيضاً. وبالنسبة إلى بعض من يدفعون الإكراميات، تُعدّ هذه التبادلات الوسيلة الوحيدة لتحفيز عجلة الحياة المتهالكة في مصر. أما بالنسبة إلى من يتلقونها، فيُعدّ جمع الإكراميات وسيلة مقبولة اجتماعياً للبقاء على قيد الحياة في ظل وضع اقتصاديّ قاسٍ.
في وقت سابق من هذا العام، كان عَمرو أحمد، وهو فني حاسوب من القاهرة يبلغ 55 عاماً، في عيادة طبية مكتظة إلى درجة أنه كان يعلم أنه سينتظر الطبيب لساعات طويلة. فشعر، من خلال لطف موظفة الاستقبال، بأنها تستطيع مساعدته، مقابل مبلغ مالي؛ فدفع لها 50 جنيهاً، أي ما يعادل دولاراً واحداً تقريباً، ليحجز موعداً مبكراً. وقال إنه قبل بضع سنوات، ربما كان سيدفع 5 جنيهات فقط. "أحياناً تشعر بالحرج عندما تدفع مبلغاً زهيداً كهذا، لأنك تعلم مدى قلّة قيمته. وعندما تُعطي الناس المال، فأنت ترغب في منحهم شيئاً يُقدّرونه".
نقلته إلى العربية: زينب منعم.