بنيامين نتنياهو: بين ونستون تشرشل وديفيد بن غوريون
لا يخفي نتنياهو إعجابه بتشرشل وبن غوريون. وفي حين يحاول وضع نفسه في السلسلة نفسها، فإنّ من بين الأمور التي سيذكرها التاريخ عنه هو أنّه كان الرجل الذي تلقت "إسرائيل" في عهده أكبر ضربة منذ تأسيسها.
-
بنيامين نتنياهو: بين ونستون تشرشل وديفيد بن غوريون
يَعدُّ الإسرائيليون ديفيد بن غوريون مؤسس "دولتهم". وقوفه في الـ14 من أيار/مايو 1948 تحت صورة ثيودور هرتزل، معلناً قيام "دولة إسرائيل" حفر عميقاً في وجدانهم. بن غوريون، المهاجر من بولندا إلى فلسطين المحتلة، والمتشبّع بالصهيونية العُمّالية، رأى تلك اللحظة الأنسب لتأسيس الكيان الإسرائيلي، على الرغم من تخوّف بعض زملائه في الحركة الصهيونية من ردّة فعل العرب، فأقدم على ذلك متحملاً التبعات.
على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، كان رئيس حكومة بريطانيا، ونستون تشرشل، قد سبق نظيره الإسرائيلي في ترك أثره في نفوس الإنكليز، عندما قاد بريطانيا في "ساعاتها الحالكة"، إبان الحرب العالمية الثانية.
لم يكن تشرشل مجرد عابر سبيل في الحياة السياسية البريطانية. تميّز إبان الحرب العالمية الثانية بكلماته، وكان خطيباً ملهماً، حوّل هزيمة البريطانيين وانكسارهم إلى صمود، والدمار الذي حلّ بلندن إلى روح متّقدة. في كانون الأول/ديسمبر عام 1941، وقف أمام الكونغرس الأميركي، وبدا وكأنه لا يخاطب نواباً، بل يقود العالم بأسره في معركة المصير ضدّ النازية، إذ نجح في إقناع الأميركيين بدخول الحرب إلى جانبه ووقف سياسة الحياد والنأي بالنفس.
وخطابه الشهير – "سنقاتل على الشواطئ وفي الحقول… ولن نستسلم أبداً" – لم يكن مجرد بلاغة بالنسبة للبريطانيين، بل سلاحاً حقيقياً رفع معنوياتهم. صحيح أن الرجل هُزِم انتخابياً بعد النصر مباشرة، لكن تلك الهزيمة الانتخابية لم تمحُ صورته بالنسبة للبريطانيين، بوصفه "أعظم رئيس حكومة".
أما في كيان الاحتلال، فلم يكن بن غوريون خطيباً مفوّهاً كتشرشل، بل كان يعدّه الإسرائيليون رجل أفعال. وهو برأيهم، عندما أعلن "استقلال الدولة" عام 1948، كان يعرف أن جيوش الدول العربية ستهاجم كيانه الوليد. ومع ذلك، يُحسب له عند الإسرائيليين أنه قاد الحرب حتى النهاية، وحلّ الميليشيات المسلحة، حتى أنّه تحمّل مسؤولية قصف سفينة "ألتالينا"، التي حملت مسلحين من عصابة "الأرغون"، رفضوا الاندماج في "الجيش". كما أمر باستيعاب مئات آلاف المهاجرين اليهود، على الرغم من ضيق الموارد وصغر مساحة "إسرائيل". رأى الإسرائيليون ذلك "انتحاراً اقتصادياً" حينذاك، لكنهم يرون اليوم أنّه كان "تأسيساً للهوية السكانية اليهودية والسياسية للدولة العبرية"، فـ"الأهم ليس ما يقوله الغوييم (الغرباء) عنّا، بل ما نفعله نحن"، وهي عبارة قالها بن غوريون، ويرددها الإسرائيليون اليوم.
في "إسرائيل" المعاصرة، يقف رئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو، محاولاً وضع نفسه في السلسلة ذاتها، بين تشرشل وبن غوريون.
بنيامين نتنياهو، المولود بعد عام من قيام كيان العدو، نشأ في بيئة ربّته على "مأساة اليهود". والده بنتسيون (بني صهيون) نتنياهو، المؤرخ المتشدد تجاه التاريخ اليهودي، والسكرتير الخاص لوالد اليمين زئيف جابوتنسكي، أورث ولده شعوراً دائماً بالخطر والتهديد. لذلك، عندما صوّر نتنياهو انتفاضات الفلسطينيين وحروب غزة، وصولاً إلى هجوم حماس في الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023، على أنّها "تهديد وجودي"، قدّم نفسه على أنّه القائد الوحيد القادر على إنقاذ "إسرائيل" من خطر الإبادة. لم يتردد في تشبيه المعركة ضدّ حماس والمقاومة بمعركة تشرشل ضدّ هتلر والنازية. "نحن في حالة حرب"، قالها نتنياهو في تلك الليلة، مستحضراً خطاب تشرشل ومتماهياً معه، كأنّ "إسرائيل" تواجه دولةً تملك جيشاً جرّاراً، وليس فصيلاً مسلّحاً في قطاع محاصر، يمتلك قذائف ورشاشات وصواريخ ذاتية الصنع.
لكن الفارق بين تشرشل ونتنياهو كبير. الأول وحّد بريطانيا خلفه، بينما دفع نتنياهو الإسرائيليين إلى الانقسام، وأوجد مجتمعاً غارقاً في احتجاجات من "إصلاحاته القضائية"، وصولاً إلى إطلاق سراح الأسرى بعد 7 أكتوبر. هذا الأمر جعل المجتمع الإسرائيلي في حالة إنهاك من أزمات اقتصادية واجتماعية (الانقسام بين اليمين واليسار). لقد أراد نتنياهو أن يكون تشرشل "إسرائيل"، لكنه اصطدم بحقيقة أن الخطر الوجودي ليس خارجياً فقط، بل يوجد في الداخل الإسرائيلي أيضاً، وهو سبب فيه.
نتنياهو حاول الجمع بين تشرشل وبن غوريون: فهو خطيب مفوّه بالإنكليزية، استخدم استعارات الحرب العالمية الثانية لحشد الغرب، مثل استعادته عام "1938" (تاريخ صعود النازية)، في كل خطاب، وكأن العالم متجه دوماً إلى حرب جديدة ضدّ النازية. صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية سخرت من هذا النهج، قائلةً إنه "يتصرّف وكأنه دائماً في عام 1938". أما الأديب الإسرائيلي عاموس عوز فقد حذّر منذ عقود من "هوس إحياء هتلر لقتله مرةً بعد مرة".
حتى إن الكاتب يوسي فيرتر قال في مقال في "هآرتس" (18-9-2025): "في عقله المصاب بجنون العظمة أو في فيلمه الخيالي، كان نتنياهو يأمل بأن يكون لخطاب «إسبرطة العظمى» الذي ألقاه تأثير مشابه لخطاب «الدم، العرق والدموع» الذي ألقاه ونستون تشرشل. ولكن، كما في حالات كثيرة في الفترة الأخيرة، خاب أمله". انتقد فيرتر محاولة تشبّه نتنياهو بتشرشل وقال: "وحّد رئيس حكومة بريطانيا شعبه وأثار حماسته في فترة صعبة بشكل خاص في الحرب العالمية الثانية. لكن في المقابل، نتنياهو فقط عزّز الفهم الذي يسري بين الجمهور بأن الخطر الحقيقي على وجود إسرائيل لا يكمن خارجها. لكل هذا الشر هناك عنوان واحد وهو رئيس حكومة إسرائيل. هو، فقط هو، دهور بيديه إسرائيل إلى الهاوية، وهو الذي حوّلها إلى دولة مجذومة ومنبوذة وأثار ضدّها أفضل الأصدقاء". هكذا يرى جزء كبير من الإسرائيليين نتنياهو، من قسّم الإسرائيليين ولم يوحّدهم.
في المقابل، كان بن غوريون عملياً، يقبل التسويات عند الضرورة، ويعرف أن "السلام" المؤقت قد يكون سلاحاً لا يقلّ أهمية عن النصر العسكري. في النهاية، وافق بن غوريون على تأسيس "كيان" على جزء من فلسطين المحتلة، في حين كان آخرون يدعونه إلى رفض ذلك. هذا ما يفتقر إليه نتنياهو: رؤية اليوم التالي للحرب.
نتنياهو لم يُخفِ إعجابه بتشرشل، فقد وضع تمثالاً نصفياً له في مكتبه، كأنه يراقبه يومياً. في مقابلة مع "نيويورك تايمز"، شبّه نفسه بالقادة المعزولين الذين يصمدون على الرغم من الانتقاد. أما فيما يتعلق ببن غوريون، فبلغ إعجاب نتنياهو حدّ أنه في إحدى المفاوضات، عام 1996، همس للدبلوماسي الأميركي دينيس روس قائلاً إنه ينوي "أن يفعل ما فعله بن غوريون". وعندما استفسر روس ظناً منه أنه يقصد مناحم بيغن (زعيم "الليكود" التاريخي)، أوضح نتنياهو: "لا… بيغن لم يفعل الأمور الكبيرة، بن غوريون هو من فعل الأمور الكبيرة". هذا التصريح يكشف تأثّر نتنياهو ببن غوريون، واعتباره نموذجاً صنع القرارات المصيرية والتاريخية.
وعليه، حاول نتنياهو رسم صورة لنفسه كخليفة لذلك الإرث. كذلك، يرى نتنياهو أن إنجازاته الدبلوماسية والأمنية – من بناء قوة عسكرية ضاربة إلى اتفاقيات سلام وتطبيع مع دول عربية (اتفاقيات "أبراهام" عام 2020 وغيرها) – ما هي إلا استكمال لحلم الآباء المؤسسين بضمان مكان دائم وآمن لـ"إسرائيل" في المنطقة، مردداً: إذا كان بن غوريون من أسس "إسرائيل" فهو من سيحافظ عليها.
يذكّر المؤرخون نتنياهو بأن بن غوريون "عرف متى يتنحّى عن السلطة"، فهو استقال مرتين من رئاسة الحكومة "حفاظاً على المصلحة الوطنية". أما نتنياهو فما زال يتمسك بالكرسي على الرغم من كل الأزمات، حتى لو قسّم الإسرائيلين نصفين.
تشرشل انتهى بجنازة وطنية مهيبة. بن غوريون اعتكف في كوخ في صحراء النقب لكتابة مذكراته، محتفظاً بلقب "الأب المؤسس". أما نتنياهو، فقصته لم تُكتب نهايتها بعد. لكنه اليوم سيُذكر كزعيم أطال أمد الحروب الداخلية، وأضاع فرص التسوية، وترك "إسرائيل" منقسمةً على نفسها، وهو رجل تلقت "إسرائيل" في عهده أكبر ضربة منذ تأسيسها، ضربة "طوفان الأقصى"، في 7 أكتوبر.