زهران ممداني والتغيير الاجتماعي.. وجه جديد لتناقضات نيويورك
فوز ممداني يصعب فصله عن سياق أوسع، لا يختزله فوز الديمقراطيين الكبير الحالي في المجالس التشريعية المحلية ومناصب الحاكم والعمدة وحسب، لكن يرتبط بعوامل ذات صلة بنيويورك نفسها، وأخرى سياسية عامة.
-
زهران ممداني
لم يكن مفاجئاً فوز زهران ممداني، ابن المهاجر المسلم وذي الأصل الأوغندي الهندي، بمنصب عمدة نيويورك، بعد تفوق واضح في استطلاعات الرأي السابقة للتصويت، لكن اللافت اتساع الجدل عن دلالات الفوز، والصدام المتوقع الآتي بين ممداني والرئيس ترامب، مع تدهور واضح في العلاقة بين الأخير والتيار والحزب الديمقراطييَن، انعكس في الإغلاق الحكومي وموجات التظاهرات التي ملأت الشارع الأميركي مؤخراً.
يعكس فوز ممداني حقيقتين أساسيتين، أولهما تضرر قطاعات واسعة من المجتمع الأميركي من السياسات الاقتصادية القائمة، وموقع مدينة نيويورك تحديداً من ذلك، إذ يعد ربع سكانها تقريباً فقراء، فضلاً عن نفوذ الحزب الديمقراطي وأفكاره فيها، والثانية نجاحه وحملته على مستوى جماهيري سياسي، مستنداً إلى عمل تنظيم كثيف استطاع من خلاله التواصل مع الطبقات الشعبية، التي يشكّل المهاجرون نسبة معتبرة منها، وخاطبها برنامجه السياسي من موقع الانحياز، معلناً أن أولويته حل أزماتها، تحت عنوان خفض تكلفة المعيشة.
رغم انتشار توصيف ممداني وفوزه بالظاهرة، يمكن التماس صعوده في سياق كامل أوسع، متصل بالمجتمع الأميركي نفسه واتجاهاته الفكرية، ذات الطيف المتنوع داخل الاستقطاب الواحد (جمهوري يميني - ديمقراطي يساري)، إذ سبق لبيرني ساندرز، الرمز الديمقراطي، المحسوب على "أقصى اليسار" بالمعيار الأميركي، أن طرح نفسه اشتراكياً ديمقراطياً في سعيه إلى الترشّح عن الحزب الديمقراطي لمنصب الرئاسة (وبرنامجه)، كأنه كان يمهّد مسار طرح السؤال الاجتماعي في السياسة الأميركية إجمالاً، ويطرح حلاً موضوعياً لأزمة المعيشة التي يشهدها ملايين الأميركيين، أي تغيير السياسات الحاكمة لصالح الشركات العملاقة وكبار الملاك.
من هنا يمثل ترشّح ممداني عن الحزب الديمقراطي، بالأساس ورغم إحجام رموز الحزب عن الترويج له، توجه ناخبين ومؤيدين للحزب والتيار الديمقراطييَن إلى التركيز على الحل الاقتصادي، وعلى محاولة إنجاز تغيير اجتماعي هيكلي لصالح الأغلبية العاملة. ويعد صعوده - مثل سطوع ساندرز وأفكاره سابقاً - إجابة عن سؤال تراجع الحزب، وتمدد اليمين ومؤيدي ترامب في السنوات الأخيرة. إذ يركز خطّهما السياسي، وظهيره في الحزب والتيار، على استخدام التشريع والصلاحيات المتاحة، فيدرالياً وعلى مستوى الولايات، في وضع سياسات تخصم من مصالح الشرائح الأعلى، في ظل تناقض كبير وواضح في توزيع الدخول والثروة، على مستوى نيويورك.
رغم اختلاف الحزب الديمقراطي مع جذرية وجرأة برنامج ممداني، يقع صعود الأخير في مصلحة الأول، خاصة في التوقيت الحالي، والصدامات المتوالية لترامب مع مجمل جمهور التيار الديمقراطي، الذي نجح في حشد تظاهرات واسعة مؤخراً، اتهمت ترامب بالفاشية. وفي الخلفية افتقاد الحزب - طويلاً - لرمز سياسي أو شخصية ذات شعبية كبيرة، وعجز كاملا هاريس عن تحقيق ذلك، في مقابل تمتع اليمين المحافظ، في السنوات الأخيرة، بأصوات "جماهيرية" لافتة، استطاعت الوصول إلى شرائح اجتماعية كثيرة، وإلى نفس جيل ممداني من الشباب ومواليد الألفينيات، كان أبرزها تشارلي كيرك، الرمز اليميني المحافظ الشاب الذي اغتيل منذ أسابيع، وصوّبت وسائل الإعلام المقرّبة من المحافظين بعدها الاتهامات على الخصوم الديمقراطيين، ومؤيديهم، بالشيوعية وتشكيل منظمات إرهابية.
كذلك يصف ترامب ممداني، الذي وصف نفسه في أول خطاباته في المنصب بالمسلم الاشتراكي الديمقراطي، بأنه "شيوعي"، مستغلاً شعاره وبرنامجه، العدالة الاجتماعية وخفض تكلفة المعيشة ودعم الشرائح الأفقر. واللافت أن ترامب نفسه جقق إمبراطوريته المالية في نيويورك، وأفاد من نفس البناء الرأسمالي السائد، الذي تديره البنوك الكبرى وقوى البورصة والعقارات، وأن برنامج ممداني يركز على ضبط سوق العقارات تحديداً، الذي كفل لترامب تضخيم ثروته بشكل قياسي. في مقابل منافسه الحاكم السابق أندرو كومو، الذي دعا ترامب وإيلون ماسك إلى التصويت له، والذي ينتمي إلى الحزب الديمقراطي، ولا يعبر برنامجه عن أغلبية متبلورة وذات مصالح واضحة، ويفتقد الطابع اليميني الشعبوي المتصل بحزب والتيار الجمهوري.
مثل تقاطع الهوية (الجنوبية المهاجرة) والديانة، والسياسات الاجتماعية المطروحة، في شخصية وبرنامج ممداني، تتقاطع في نيويورك، عاصمة المال والبورصة والمضاربات، مصالح متضاربة، أحد طرفيها أغلبية السكان، التي تعاني معيشياً ويضغطها الغلاء وسوق الإسكان، ما يفرض صراعاً اجتماعياً وسياسياً، تختلف درجات وأشكال التعبير عنه وفق حالات ومتغيرات السياسة الأميركية. ومثّل المهاجرون (تاريخياً) طرفاً ذا ثقل في مشهد الولاية السياسي، من دون ارتباط "لازم" باليسار وأفكاره، في مقابل القوى المسيطرة، المرتبطة بأصحاب الثروات الأكبر والحركة الصهيونية، التي تعد نيويورك أحد معاقلها.
من هنا يصعب فصل فوز ممداني، عن سياق أوسع، لا يختزله فوز الديمقراطيين الكبير الحالي في المجالس التشريعية المحلية ومناصب الحاكم والعمدة وحسب، مثل الفوز بمنصب الحاكم في فرجينيا ونيوجيرسي، لكن يرتبط بعوامل ذات صلة بنيويورك نفسها، وأخرى سياسية عامة، تشمل الاستجابة لسياسات ترامب، التي تعمّق الاستقطاب الجمهوري الديمقراطي سريعاً، في الشارع وعلى مستوى جماهيري، مع اتجاه جيل من المصوّتين وجمهور السياسة، ومن تتردد أصواتهم بين الخيارين، إلى خيارات ومواقف معاكسة للسائد، وللسردية الرأسمالية التقليدية في الولايات المتحدة، والسياسات والقوى المرتبطة بها