الإمارات والاستثمار في الذكاء الاصطناعي في أفريقيا، أهداف تنموية أم جيوسياسية؟
تغلغل تكنولوجي إماراتي–أميركي–إسرائيلي في دول القرن الأفريقي ومن ضمنها إثيوبيا، وكينيا، وجنوب السودان، قد يخلق بنية بيانات ومعلومات يمكن استخدامها ضدّ القاهرة.
-
الإمارات كواجهة للولايات المتحدة و"إسرائيل" في أفريقيا.
تسارعت وتيرة التحوّل الرقمي العالمي خلال السنوات القليلة الماضية، لتصبح البنية التحتية للذكاء الاصطناعي إحدى أهمّ أدوات النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري.
وفي قلب هذا التحوّل برزت دولة الإمارات العربية المتحدة كلاعب محوري، بعد أن نجحت في أن تصبح ثاني أكبر قوة عالمية في قدرات الذكاء الاصطناعي بعد الولايات المتحدة، وفق دراسة "تي ار جي داتاس سنتر" للعام 2025، التي أشارت إلى امتلاك أبو ظبي لأكثر من 188 ألف شريحة ذكاء اصطناعي وطاقة حوسبة تصل إلى 6.4 آلاف ميغاواط.
في هذا الإطار، برزت إلى العلن الأنباء التي تحدّثت عن عزم أبو ظبي لتصدير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إلى دول الجنوب العالمي، وإعلانها عن مبادرة بقيمة مليار دولار لتوسيع البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في أفريقيا، وذلك خلال أعمال قمة مجموعة العشرين التي عقدت أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2025 في جوهانسبرغ.
غير أنّ هذا الاستثمار، على الرغم من طابعه التنموي المعلن، فإنه يفتح الباب أمام تساؤلات حول الأبعاد الحقيقية لهذا الإعلان في ظلّ العلاقات الأمنية السيبرانية الوثيقة التي تربط الإمارات بكلّ من "إسرائيل" والولايات المتحدة، اللتين تسعيان لمواجهة ما تعتبرانه تعزيزاً للنفوذ الروسي والصيني في أفريقيا على حساب الهيمنة الغربية التقليدية في القارة السمراء، إضافة الى تطويق دور كلّ من مصر والجزائر وجنوب أفريقيا التي تسعى لتعزيز علاقاتها مع القوى الأوراسية بغية مواجهة الهيمنة الغربية.
الإمارات كواجهة للولايات المتحدة و"إسرائيل" في أفريقيا
خلال العقد الأخير، تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى سلاح جيوسياسي عالي الأهمية. فالسيطرة على البنية التحتية للحوسبة الفائقة، وعلى أشباه الموصلات، وعلى شبكات البيانات، باتت تمثّل ركائز النفوذ في الاقتصاد والدفاع والأمن السيبراني.
وتبرز أهمية القطاع السيبراني في الوقت الذي تشهد فيه الساحة الأفريقية تنافساً كبيراً على النفوذ بين القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة بصفتها القوى التي هيمنت على أفريقيا خلال القرنين السابقين، والقوى الأوراسية ومن بينها الصين وروسيا والتي تتطلّع إليها الدول الأفريقية الساعية للخروج من تحت عباءة الهيمنة الغربية.
ويتمثّل الحضور الصيني بالاستثمارات الضخمة التي تديرها شركات صينية لتأهيل البنى التحتية في عدد كبير من بلدان القارة الأفريقية في إطار مبادرة حزام وطريق، إضافة إلى العلاقات الروسية قوية مع عدد كبير من الدول الأفريقية والتي لا تقتصر فقط على العلاقات الاقتصادية بل تشمل أيضاً علاقات عسكرية عبر العدد الكبير من الخبراء العسكريين الروس الذين يقدّمون المشورة لحكومات الدول الأفريقية التي تواجه سياسات عدوانية من الدول الغربية خصوصاً في منطقة الساحل والصحراء الأفريقية.
وتخشى واشنطن أكثر ما تخشاه من الحضور الصيني الرقمي الذي ترى فيه تهديداً لهيمنتها خصوصاً أنّ من شأنه دمج الفضاء السيبراني الأفريقي بالصيني.
وبما أنّ الدول الأفريقية باتت تشعر أكثر فأكثر بالحساسية تجاه الحضور الأميركي والغربي، فإنّ الولايات المتحدة باتت تسعى لتعزيز حضورها عبر قوى رديفة تشمل واجهة لنفوذها، وهنا تكمن أهمية دور الإمارات العربية المتحدة التي تمتلك قوة مالية ضخمة ولا ينظر إليها في أفريقيا على أنها قوة استعمارية مثل الولايات المتحدة أو فرنسا أو غيرها من الدول الغربية، أو قوة رديفة للاستعمار مثل "إسرائيل"، علماً أنّ أبو ظبي ترتبط بعلاقات أمنية وثيقة مع كلّ من واشنطن و"تل أبيب" في إطار اتفاقية التعاون الأمني التي تضمّ أيضاً نيو دلهي والتي تعرف بـ "أي تو يو تو."
من هنا، فإنه يمكن قراءة المبادرة الإماراتية للتعاون السيبراني مع الدول الأفريقية على أنها امتداد للقوة الأميركية والإسرائيلية، باستخدام أدوات غير عسكرية، عبر بوابة الذكاء الاصطناعي. ومنذ تطبيع العلاقات بين الإمارات و"إسرائيل"، شهد التعاون بين البلدين قفزة نوعيّة في مجال التعاون في تقنيات الأمن السيبراني، وتكنولوجيا المراقبة، والأنظمة البيومترية، والذكاء الاصطناعي الأمني. وتشكّل شركات مثل " ان اس او" و"اني فيزيون" و"سايبر بيت" أمثلة على هذا التعاون الإماراتي – الإسرائيلي المشترك، فيما تمثّل أفريقيا ساحة رئيسية تسعى "تل أبيب" للولوج إليها لأسباب عديدة، من ضمنها السعي لمدّ نفوذها السيبراني في منطقة القرن الأفريقي وأفريقيا الوسطى ومنطقة الساحل والصحراء الأفريقية. وتستفيد "إسرائيل" من الفرصة التي يتيحها الطلب المرتفع على تقنيات الأمن والمراقبة في أفريقيا، وضعف الرقابة على صادرات التكنولوجيا الأمنية، ورغبة "تل أبيب" في تطويق مصر في مناطق تعتبر حساسة للأمن القومي المصري، وتأدية دور الوكيل الأميركي في مواجهة ما تعتبره تمدّداً للنفوذ الروسي والصيني في أفريقيا على حساب الغرب وعلى رأسه واشنطن والتي تعتبر الداعم الرئيسي للكيان الصهيوني.
بالنسبة لـ "إسرائيل"، يمكن أن تشكّل الإمارات قناة مثاليّة لتسويق التقنيات الإسرائيلية بشكل غير مباشر في أفريقيا، خصوصاً في مجالات ضبط أمن الحدود، وتتبّع الجماعات الداعمة لحركات المقاومة، والسيطرة على الهوية الرقمية للأفرد والجماعات في أفريقيا عبر المنصات التي ستنتجها "إسرائيل" وتسوّقها الإمارات على أنها تكنولوجيا إماراتية، وهذا يمكن أن يحوّل ميدان الذكاء الاصطناعي إلى "حصان طروادة" يسمح لـ "إسرائيل" بالوجود داخل أجهزة ومؤسسات الدول الأفريقية عبر منصات وشبكات إماراتية الصنع أو التمويل.
تهديد الأمن القومي المصري والجزائري والجنوب أفريقي
خلال العقد الماضي تعزّزت علاقات مصر وجنوب أفريقيا والجزائر بروسيا، ما جعل الولايات المتحدة وحليفتها "إسرائيل" تستهدف تطويق هذه البلدان الثلاثة في إطار استراتيجيتها لتطويق ما تعتبره تمدّداً لنفوذ موسكو وبكين على حسابها في القارة السمراء.
وبالنسبة لمصر، فإنه على الرغم من مرور أربعة عقود على توقيعها لاتفاقية سلام مع "إسرائيل" وسعيها لتعزيز علاقاتها بواشنطن، إلّا أنّ "تل أبيب" لا تزال تعتبر القاهرة عدوّها الاستراتيجي الأول الذي يجب أن يتمّ تطويقه وإضعافه أكثر فأكثر.
وبعد نجاحها في تعزيز حضورها في المشرق العربي بعد الضربات التي كالتها لمحور المقاومة وبعد انهيار النظام السوري السابق برئاسة الرئيس بشار الأسد، فلقد حوّلت "إسرائيل" أنظارها إلى أفريقيا بصفتها الظهير الذي تستند إليه مصر تاريخياً.
فمن عمق القارة الأفريقية ومن القرن الأفريقي، ينبع نهر النيل الذي يشكّل شريان الحياة بالنسبة لمصر. كذلك فإنّ منطقة القرن الأفريقي تشكّل جزءاً لا يتجزّأ من أمن البحر الأحمر الذي يشكّل عنصراً مهماً من عناصر الأمن القومي المصري.
إضافة إلى ذلك فإنّ "إسرائيل" باتت حاضرة بقوة في المشهد السوداني عبر علاقات الإمارات الوثيقة بكلّ من قائد قوات الدعم السريع محمد أحمد دقلو الذي يقاتل الحكومة المركزية المدعومة من القاهرة، وعبر علاقات أبو ظبي بالجنرال الليبي خليفة حفتر الذي يسيطر على شرق ليبيا، ما يجعل مصر تشعر بالتهديد من جهتي الشرق والجنوب. والجدير ذكره أنّ واشنطن تدعم المساعي الإماراتية الإسرائيلية لتطويق مصر بعد تعزيز رئيسها عبد الفتاح السيسي لعلاقاته مع روسيا خصوصاً في مجال الطاقة والتسلّح والتعاون الاستخباراتي، ما يجعل واشنطن تخشى من خروج القاهرة عن طوعها، لتشكّل مرة أخرى مدخلاً لتغلغل النفوذ الروسي في القارة الأفريقية، تماماً كما حصل في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في ظلّ الزعيم جمال عبد الناصر.
من هنا فإنّ تغلغلاً تكنولوجياً إماراتياً–أميركياً–إسرائيلياً في دول القرن الأفريقي ومن ضمنها إثيوبيا، وكينيا، وجنوب السودان، قد يخلق بنية بيانات ومعلومات يمكن استخدامها ضدّ القاهرة.
كذلك من شأن تعزيز نفوذ الإمارات السيبراني في القارة الأفريقية أن يمكّن "إسرائيل" من استهداف الجزائر التي تعدّ واحدة من أبرز حلفاء روسيا خصوصاً في غرب أفريقيا.
فالجزائر هي المستورد الأول للسلاح الروسي في القارة السمراء منذ استقلالها في العام 1962 وحتى يومنا هذا، وهي كما مصر باتت عضواً في منظمة بريكس التي تشكّل منصة رئيسية للعلاقات الاقتصادية والجيوسياسية بالنسبة لروسيا والصين.
إضافة الى ذلك فهي لاعب جيوسياسي مهم جداً في منطقة الساحل الأفريقي في مواجهة النفوذ الفرنسي الذي شهد تراجعاً بعد تمرّد عدد كبير من بلدان هذه المنطقة على هيمنة باريس ومن ضمنها مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
من هنا فإنّ التعاون الإماراتي–الإسرائيلي في مجال الذكاء الاصطناعي، وتوسيع الإمارات لعلاقاتها االسيبرانية مع دول الساحل الأفريقي يمكن أن تسمح لـ "إسرائيل" في أن تنطلق من الفضاء السيبراني لهذه الدول للتجسّس على الجزائر وحتى إطلاق أعمال عدائية ضدّها، خصوصاً في ظلّ التقارب المغربي الإسرائيلي الذي بات يشكّل تهديداً للجزائر من جهة الغرب.
أما في ما يتعلّق بجنوب أفريقيا، فإنها عضو مؤسس في منظمة بريكس كما أنها تشكّل الاقتصاد الأكبر حالياً في القارة السمراء.
وتعمل جوهانسبورغ على دعم حركة التحرّر الأفريقية في مواجهة قوى الاستعمار الغربي. من هنا، فإنّ من شأن الحضور السيبراني الإماراتي في بلدان أفريقيا الوسطى أن يفتح المجال أمام "إسرائيل" والولايات المتحدة للسيطرة على الفضاء السيبراني لدول محاذية لجنوب أفريقيا مثل موزمبيق، وزيمبابوي، وأنغولا، وتنزانيا.
هذا يمكن أن يتيح المجال أمام واشنطن و"تل أبيب" لاختراق شبكات البيانات الإقليمية ومواجهة الحضور السيبراني الصيني القوي في وسط أفريقيا والذي يتخذ من جوهانسبورغ منطلقاً له، وتطويق جنوب أفريقيا التي تسعى لتدعيم العلاقات الأفريقية مع روسيا والصين.
بنتيجة ما تقدّم فإنه يجب النظر إلى التعاون الإماراتي – الأفريقي ليس فقط على أنه مجال استثماري تنمويّ صرف، بل على أنه أحد مجالات الصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة وحلفائها وعلى رأسهم "إسرائيل" من جهة، وروسيا والصين وحلفاؤهما المصريون والجزائريون والجنوب أفريقيون من جهة أخرى.
والجدير ذكره أنّ الصين تسيطر حالياً على 70 بالمئة من شبكات الاتصالات في القارة الأفريقية عبر شركتي هواي و" زد تي أي" والتي تدير برامج هوية رقمية في أكثر من 20 دولة أفريقية.
إلّا أنّ بكين ومعها روسيا لا تزالان بعيدتين عن "استغلال" المجال الرقمي في مواجهة السياسات العدائية الأميركية والتي تدار بالوكالة من قبل "تل أبيب" وأبو ظبي.
وإن لم تعِ موسكو وبكين ومعها حلفاؤهما القاهرة والجزائر وجوهانسبورغ أبعاد المشروع الإماراتي – الإسرائيلي – الأميركي، فإنها قد تجد نفسها في مواجهة تهديد سيبراني في القارة الأفريقية يزعزع آفاق التعاون مع القارة السمراء ويفقدها حضورها في ميدان يعتبر أنه سيكون أهمّ ميادين التنافس مع الغرب خلال القرن الحادي والعشرين.