إنّهم يتحاشون الاعتراف بانتصار المقاومة!

رغم فارق القوة الذي يصب لصالح "إسرائيل"، وكذلك الضوء الأخضر الأميركي باستخدام القوة، فإن أغلب خبراء السياسة الغربيين يرون أن الحرب في غزة لا يمكن أن تنتهي بتحقيق أهدافها التي أعلنها "جيش" الاحتلال.

  • معدل الاهتمام بالقضية الفلسطينية في العالمين العربي والإسلامي في ارتفاع مستمر.
    معدل الاهتمام بالقضية الفلسطينية في العالمين العربي والإسلامي في ارتفاع مستمر.

على المستوى الرسمي العربي، فإن الأمور ليست كما تبدو في أغلب الأحيان، وثمة شعارات وافِرة يتم رفعها بينما الواقع يكذّبها، ورُبّ كثير ممن يتظاهرون اليوم بالتعاطف مع الشعب الفلسطيني الذي يتم ذبحه في قطاع غزة على مدار تسعة أشهر، لا يتمنّون له الانتصار على عدوّه و(عدوَّهم)!

فغاية ما يريده هؤلاء أن تعود الأوضاع إلى ما قبل السابع من أكتوبر 2023، لا أكثر ولا أقل، أمّا مسألة بقاء احتلال الإسرائيليين الأراضي العربية قائماً، فهو أمر لا يمثل لهم أي أهمية، فالمقاومة ليست ضمن المشاريع التي يتبنّونها، وقضية تحرير فلسطين من ناهبيها مسألة لا تشغلهم على أي مستوى.

في هذا السياق، يمكن فهم أن أغلب ما يتم بذله من مجهوداتٍ تقوم عليها تلك الأطراف، وتقع في إطار "تقريب وجهات النظر" و"رعاية المفاوضات"، ويتم تغليفها بحديثٍ وافر عن "حُرمة الدماء" و "حق البشر في حياةٍ آمنة"، لا تستهدف بالحقيقة سوى خفض مستوى الصراع في المنطقة، لتجنّب تدحرج كرة النار، لكن ما في القلب يظلّ بداخله.

وليس في قلوب تلك المجموعة من البشر سوى نبذ المقاومة كأيديولوجية وكممارسة، وبالطبع كفصائل ميدانية، وهم في بُغضهم للحركات المقاوِمة -ويا للعجب-عادِلون جداً، إذ يُسفّهون من قيمة أي مقاوِم بصرف النظر عن طائفته أو خلفيته السياسية أو المنطقة التي يوجّه منها سلاحه نحو الجسد الإسرائيلي.

هؤلاء يريدون لأبناء غزة والقدس وجنين وحيفا.. أن يظلّوا مسجونين داخل إطار "المظلوميّة" و"المأساة"، وعندها ربما يجودون عليهم بالمؤن الغذائية وبعض الأموال ومواد البناء، أما أن يفكر أحدهم في إشهار مسدسه في وجه الصهيوني، أو يتجرأ على إعلان رفضه وجود "إسرائيل"، فهذا يُعدّ خروجاً على الضوابط، وبالتالي يتم اغتياله معنوياً، قبل أن يتم التآمر على اغتياله فعلياً.

من الطبيعي تبعاً لتلك الشروط أن يتجاهل الإعلام التابع لأغلب الأنظمة العربية الإشارة إلى عمليات المقاومة الناجحة حتى اليوم في قطاع غزة، وأن يتم التعامي عن أي اعتراف يصدر من العدو الإسرائيلي نفسه، ويتضمن إقراراً بقوة الحركات المسلحة الغزيّة، وقدرتها على استنزاف "جيش" الاحتلال ومنعه من تحقيق الأهداف التي تطلع إليها نتنياهو وحكومته.

لماذا يرفضون الاعتراف بقوة المقاومة؟

رغم نجاح عملية "طوفان الأقصى" في قلب الموازين داخل المجتمع الإسرائيلي، وقدرتها على إثارة الرعب في قلوب المستوطنين حتى اليوم، فإن الأقلام المشككة في جدوى العملية لم تتوقف حتى الساعة، بل امتد الأمر إلى حدّ إلقاء مسؤولية سقوط ضحايا بسبب الإجرام الإسرائيلي على عاتق المقاومة!

تؤكد الصحافة العبريّة ذاتها أن القوات الإسرائيلية لم تنجح في تحقيق أي هدف أعلنت عنه حكومة الاحتلال حتى اليوم، فلم يتم تحرير الأسرى، كما لم تتوقف عمليات المقاومة، وحتى إطلاق الصواريخ من داخل أراضي قطاع غزة مستمرٌ حتى الآن، بل أن حركة حماس نجحت في استعادة قوتها ووجودها في المناطق التي زعم "جيش" الاحتلال أنه أقصاها منها.

اللافت هنا أنّ الخبراء والمحللين الذين يداومون على الظهور عبر الشاشات الإسرائيلية أكثر استعداداً للإقرار بقدرات المقاومة وكفاءتها، وهم بالطبع لا يقولون ذلك لولعهم بكتائب عز الدين القسام أو سرايا القدس، وإنما لأنهم لا يريدون تضليل متابعيهم، كما يرغبون في تنمية قدرات "جيشهم" ليتمكّن من المواجهة في غزة.

في المقابل، فإن الشخصيات التي تظهر في أغلب الشاشات العربية، حتى ولو عبّرت عن تضامنها مع أسر الشهداء، وطالبت بعلاج المصابين وسرعة توفير المعونات، فإنها دوماً ما تشكك في كفاءة المقاومة الفلسطينية، وتتهمها بالرعونة والطيش، وفي بعض الأحيان بالتآمر على القضية!

أما عن الأسباب التي يمكن أن تدفع تلك الشخصيات القريبة من الدوائر الرسمية في عدد من الدول العربية، إلى ممارسة هذا النوع من التضليل، الذي لا يلتزم بأبجديات العمل الإخباري والتحليل السياسي، فيمكن إجمالها في النقاط الآتية:

أولاً، تعي حكومات عديدة أن إدراك العرب لإمكانية الانتصار على "إسرائيل"، هو أمر سيدفع الشارع العربي إلى الانتفاضة والمطالبة بخوض المعركة مع "إسرائيل" بالأشكال كافة، المباشرة وغير المباشرة، وهو أمر لا يمكن أن تقبله تلك الحكومات بحُكم ارتباطاتها بالعواصم الغربية، وتبعيّتها السياسية.

ثانياً، الإقرار بكفاءة المقاومة الفلسطينية وقدراتها القتاليّة المتطورة، هو في الوقت ذاته إقرار بسابِقة وحسن صنيع محور المقاومة، وذلك بحكم أنه الجهة الوحيدة التي يمكن لها أن تزوّد الفصائل الفلسطينية بالسلاح.

بالإضافة إلى ذلك، فإن مختلف ساحات المحور تخوض المعركة بالفعل ضد العدو الإسرائيلي، وهذا سيؤدي بدوره إلى زيادة شعبية محور المقاومة في الشارع العربي، وهو أمر يزعج واشنطن وحلفاءها في المنطقة.

ثالثاً، ارتفاع معدل التأييد للنضال المسلح ضد "إسرائيل"، سيدفع تلقائياً العديد من الشباب والشابات العرب إلى التطوّع بهدف القتال داخل الأراضي المحتلة، وتلك مسألة تتحسس منها المؤسسات الأمنية داخل الدول العربية، كما أنها، بطبيعة الحال، ستكون مرفوضة من قِبل الأنظمة المتورطة في التطبيع مع "تل أبيب".

رابعاً، تزايد ثقة المواطن العربي في ذاته الناجم عن رصده لصلابة وكفاءة مثيله العربي الفلسطيني في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية، ربما يدفعه نحو المطالبة بحقوقه السياسية والاقتصادية المسلوبة داخل القُطر العربي الذي يعيش فيه.

خامساً، الاتجاه الرسمي السائد في معظم العواصم العربية هو الركض لنيل رضى البيت الأبيض، أو بصياغة مهذبة أكثر، السعي نحو تجنب الصدام مع واشنطن أو إثارة غضبها، وهو أمر يدفع الحكومات العربية نحو ابتلاع أي "تجاوزات" إسرائيلية، كما يجبرها على القبول بالكيان كأمر واقع، ووفقاً لهذا التسلسل تصبح المقاومة أمراً مرفوضاً.

سادساً، تصاعد الإحساس الشعبي بالتضامن مع القضية الفلسطينية عموماً، والنضال المسلح خصوصاً، سيحرّض الجماهير لاتخاذ خطوات تصعيدية قد تؤذي الاستثمارات الغربية في المنطقة، كما هي الحال مع انتشار دعوات المقاطعة، وهو درب من دروب المقاومة الاقتصادية.

كما قد يدفع الناشطين العرب إلى التظاهر والاحتشاد بهدف تعطيل أي مشاريع للتطبيع مع "إسرائيل"، أو بغرض فك الارتباط السياسي بالعواصم الغربية بماضيها وحاضرها الاستعماري.

دلالات النصر 

أولاً، ارتفاع معدل الاهتمام بالقضية الفلسطينية في العالمين العربي والإسلامي، وعلى المستوى الدولي كذلك. فبعد أن كانت القضية قد أوشكت على الدخول في طي النسيان، نجحت الفصائل الفلسطينية عبر عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من عمليات في إعادتها إلى دائرة الضوء، ثم دفعها لتحتل الصدارة.

ثانياً، إطباق الحصار على أهالي غزة دفعهم نحو مزيد من التأييد للعمل المسلح، فليس هناك خيار في مواجهة ذلك الطوق الخانق إلا الخروج إلى القتال، فلن ينتظر شباب غزة الموت على أسرّتهم التي لم تعد موجودة من الأساس، كما أن العدو يخطط صراحة لتهجير أهالي القطاع، أو فرض سلطة عميلة لخدمة أغراضه.

كل ما سبق أكسب المقاومة عناصر جديدة، وأدى إلى اتساع مساحة النضال المسلح، أي أن "إسرائيل" تسببت بإجرامها المُفرط في إضافة مزيد من النقاط لصالح حركات المقاومة.

وكان المركز الفلسطيني للبحوث المسحيّة قد أجرى استطلاعاً للرأي، شمل فلسطينيين في الضفة والقطاع، خلال نهاية الشهر الماضي، وقد أظهر الاستطلاع ارتفاعاً في نسبة التأييد الإجمالي لعملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حيث بلغ نسبة 73%، بعد أن كان 71% قبل ثلاثة أشهر.

ثالثاً، نجحت المقاومة في إظهار ضعف قدرات أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية الداخلية (الشاباك، وأمان)، والخارجية (الموساد) في تقديرها للمخاطر التي يمكن أن يواجهها "جيش" الاحتلال، أو في توقعاتها بشأن سلوك الحركات الفلسطينية المقاتلة.

رابعاً، رغم فارق القوة الذي يصب لصالح "إسرائيل"، وكذلك الضوء الأخضر الأميركي باستخدام القوة بلا أي خطوط حمر، والدعم المالي الكبير الذي يقدمه الغرب إلى "إسرائيل"، فإن أغلب خبراء السياسة الغربيين يرون أن الحرب في غزة لا يمكن أن تنتهي بتحقيق أهدافها التي أعلنها "جيش" الاحتلال.

ويؤكدون أن الحرب من الوارد أن تنتهي بـ "لا غالب ولا مغلوب"، وفي تلك الحالة ستكون غزة قد فقدت عشرات الآلاف من أبنائها، لكن "إسرائيل" ستكون قد خسرت أيضاً مقاتلين ومستوطنين، بالإضافة إلى سمعتها في مجال حقوق الإنسان، وكذلك في الميدان العسكريّ والعمل الاستخباري.

وقد يُفضي ما سبق إلى تغيير كبير في نظرة العرب إلى أنفسهم، حيث سيستصغرون "إسرائيل" مرة أخرى، كما كانت الحال قبل حرب الأيام الستة.

خامساً، نجحت المقاومة الفلسطينية في الصمود طوال الشهور الماضية، وما زالت حتى اليوم تستدرج القوات الإسرائيلية إلى الأنفاق داخل مناطق شمال ووسط غزة، ثم تنفيذ عملياتها، وهذا يمثل فشلاً وهزيمة للحملة العسكرية والاستخباريّة الإسرائيلية.

سادساً، حتى اللحظة لم يتمكن الاحتلال من تحويل أيّ مساحة، حتى وإن كانت محدودة داخل أراضي غزة، إلى مكان آمن له ويستطيع منها فرض سلطته الكاملة.

سابعاً، منذ بداية الحرب، تواصل ساحات محور المقاومة قتالها وتربط جبهاتها بقرار غزة، وهو ما يجعل الاحتلال الإسرائيلي في حالة من الإرباك والتشتت، بالأخص أنَّ خطاب قادة المحور يشير إلى أنَّ لديهم المزيد من المفاجآت، والتي يمكن أن تؤلم الكيان ورعاته الدوليين.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.