بولندا: حائط الصد الغربي في مواجهة روسيا

لقد تكرر الصعود البولندي ثلاث مرات، كما تكرر السقوط والاقتسام لبولندا بين الجيران ثلاث مرات كذلك، فهل تدعم أميركا بولندا الآن كحائط صد في مواجهة التمدد الروسي والنفوذ الألماني؟

  • كيف يمكن أن يستغل الغرب بولندا في مواجهة التمدد الروسي؟
    كيف يمكن أن يستغل الغرب بولندا في مواجهة التمدد الروسي؟

في العام 1919-1920 نشبت حرب غير متوقعة بين بولندا والاتحاد السوفياتي، بدأت الحرب بهجوم بولندي مفاجئ وبتحريض أوروبي غربي، ثم تمكن الاتحاد السوفياتي من رد الهجوم ومطاردة القوات البولندية حتى حصار العاصمة البولندية وارسو، لكن، ونتيجة للدعم الأوروبي لم يتمكن الاتحاد السوفياتي من اقتحام وارسو واضطر للتراجع، وربما لم يكن ستالين حريصاً جداً على اقتحام العاصمة البولندية خاصة أن الحرب الأهلية كانت مستمرة في الاتحاد السوفياتي، لكنه كان حريصاً على معاقبة النخبة القومية البولندية، الأمر الذي حققه لاحقاً في الحرب العالمية الثانية وما بعدها.

أبرزت هذه الحرب أهمية بولندا بالنسبة إلى أوروبا الغربية، فهي من الناحية الجغرافية قاعدة السيطرة على أوروبا الشرقية والجنوبية، لكن الأكثر أهمية، لاحظت النخب الغربية حجم التطلعات البولندية لاستعادة إمبراطوريتها السابقة التي سقطت في القرن الـ18 (الكومنولث البولندي-اللتواني) والذي ضم أراضي كل من بولندا وليتوانيا وبيلا روسيا ومناطق من روسيا وأوكرانيا، بل إنها في العام 1610-1612 تمكنت من السيطرة على موسكو لمدة عامين، وأعلن الملك البولندي نفسه قيصراً على روسيا، وكانت استعادة هذه الأراضي أحد أسباب الحرب سالفة الذكر، بمعنى تطبيق الشعار القومي البولندي (بولندا من البحر إلى البحر) أي بولندا من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، وهو ما وصفه زعيم القوميين البولنديين وأول رئيس لبولندا بعد الحرب العالمية الأولى، جوزيف بيوسودسكي بـ (Międzymorze – التحالف بين البحار)، ورغم أن بولندا لم تتمكن من استعادة هذه الأراضي فعلاً، لكن وبحسب معاهدة ريجا (18 مارس 1921) فقد رسمت حدود بولندا الشرقية مع روسيا وبيلاروسيا السوفيتيتين، مع منح بولندا السيطرة على بعض الأراضي في بيلاروسيا وأوكرانيا الغربية .

لم تكن هذه هي كل أهمية بولندا، فتاريخياً كانت بولندا أحد المنطلقات الأساسية لممر الكهرمان، والذي كان ينطلق من بحر البلطيق إلى الجنوب الأوروبي ثم البحر المتوسط، كما كانت إحدى الوسائط المهمة في ممر الشرق-الغرب والذي يربط بين روسيا والدولة العثمانية وبين غرب أوروبا، ومن هنا فقد اعتبرت أوروبا أن اجتياح قوات الزعيم النازي أدولف هتلر لبولندا في الأول من سبتمبر عام 1939 تعد خطاً أحمر، ما دفعها إلى إعلان الحرب بعدها مباشرة، بالرغم من أن اليابان (حليفة ألمانيا) كانت قد أعلنت الحرب على الصين في 7 يوليو 1937، لكن لم يعتبر هذا التاريخ بداية الحرب لأنه لم يحمل تهديداً حقيقياً لأوروبا ومصالحها، وفي المقابل كان اجتياح هتلر لبولندا، عقب معاهدة مولوتوف-ريبنتروب في أغسطس 1939، يمثل تهديداً مباشراً لم تحتمله أوروبا الغربية .

إذن مثلت بولندا لأوروبا بشكل عام محوراً مهماً، بحسب وصف الجغرافي البولندي فاتسلاف بيوتر نالكوفسكي، فهي تنتمي للسلاف الشرقيين من الناحية العرقية، لكنها من الناحية المذهبية تنتمي للعالم الكاثوليكي (ذي الغالبية اللاتينية)، على عكس الغالبية من السلاف الذين ينتمون لكنيسة الروم الأرثوذكس، كما أن وجودها على طرق التجارة المهمة في أوروبا جعل ثقافتها متنوعة إلى حد ما، ما بين السلافية واللاتينية والنوردية (شمال أوروبا).

لقد أدرك الغرب أن هذا التميز لبولندا يؤهلها لأن تكون حائط صد قوياً في مواجهة الروس، خاصة عقب تأسيس الاتحاد السوفياتي سنة 1917، ولهذا سعوا إلى دعمها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وعقب سقوط الاتحاد السوفياتي سنة 1991، ومستغلين الأحلام القومية البولندية بمحاولة استعادة إمبراطوريتها القديمة، إلى درجة أن يطلق عليها وينستون تشرشل لقب ضبع أوروبا، في إشارة إلى تحيّن البولنديين للفرص لاستعادة الإمبراطورية القديمة إلى درجة التحالف مع الزعيم النازي أدولف هتلر في الثلاثينات والمشاركة معه في سنة 1938 في العدوان على تشيكوسلوفاكيا، وكوفئت بضم أجزاء منها إلى الأراضي البولندية، قبل أن تنقلب الأمور بينهما للعداء ويقوم هتلر باجتياح بولندا في العام التالي.

كانت بولندا عقب انهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو من أوائل الدول التي أعلنت انضمامها للغرب الأوروبي، فحصلت على عضوية المجلس الأوروبي في سنة 1991، وأصبحت عضواً في الناتو سنة 1999، وأخيراً انضمت للاتحاد الأوروبي سنة 2004، وهي خطوات سعى الغرب دائماً إلى تحقيقها في مواجهة روسيا، ومن هنا بدأ الغرب في ممارسة دوره القديم في دعم بولندا كي تكون حاجزاً أمام التوسع الروسي.

إن قصة الصراع بين الغرب وروسيا لم يكن لها علاقة بالثورة البلشفية وتأسيس الاتحاد السوفياتي كما يتخيل البعض، فمثل هذا الرعب الأوروبي من التوسع الروسي سابق كثيراً على المرحلة الشيوعية، وعلينا أن نتذكر أن بريطانيا ساعدت اليابان في سنة 1905 في صراعها مع روسيا وتحطيمها للأسطول القيصري الروسي، ولم تكن الثورة الشيوعية في هذه الفترة وإسقاط النظام القيصري واردين أو محتملين بدرجة كبيرة، لكن الغرب كان يدرك بناء على رؤية جغرافييه السياسيين وعلى رأسهم هالفورد ماكيندر أن روسيا مؤهلة من ناحية المساحة والتعداد السكاني والثروات لكي تكون قوة عظمى تبتلع أوروبا، ومنذ بروز الروس على الساحة العالمية في عهد بطرس الأكبر، كان الأرق الأساسي للغرب هو: كيف يمكن إيقاف الروس؟!

لكن التساؤل الأساسي الآن: كيف يمكن أن يستغل الغرب بولندا في مواجهة التمدد الروسي؟

الواقع أن المشكلة متشابكة إلى حد ما لأن لكل طرف من الغرب مساعيه الخاصة، مع الاتفاق على ضرورة تحجيم روسيا، لكن بالرغم من توحد الهدف الاستراتيجي لدى الغرب، فإن هناك أهدافاً خاصة تبرز الخلاف بين أوروبا (ألمانيا وفرنسا) وبين الولايات المتحدة الأميركية. ومن الواضح أن البولنديين أكثر ميلاً لتحقيق الأهداف الأميركية.

   مبادرة البحار الثلاثة (TSI) 

في عام 2016 تم الإعلان عن إقامة تحالف سياسي واقتصادي إقليمي يجمع 12 دولة من الاتحاد الأوروبي تقع بين البحار الثلاثة (بحر البلطيق في شمال أوروبا، البحر الأسود في شرق أوروبا والبحر الأدرياتيكي في جنوب أوروبا) تحت مسمى مبادرة البحار الثلاثة، ومن بين الـ12 دولة الموقعة على المبادرة يوجد 7 دول كانت سابقاً ضمن الكومنولث البولندي – الليتواني بالكامل أو جزئياً وهي (بولندا وليتوانيا وأوكرانيا وبيلاروسيا ولاتفيا وأستونيا ورومانيا).

كانت أهداف هذا التحالف واضحة ومعانة في العداء للروس، فقد استهدف تقليل الاعتماد على الطاقة الروسية عبر تعزيز البنية التحتية الإقليمية في مجالات الطاقة (أنابيب الغاز والربط الكهربائي) والنقل (طرق وسكك حديد) والاتصالات الرقمية، إضافة إلى تعزيز الأمن الإقليمي والتعاون والتعاون الدفاعي في مواجهة النفوذ الروسي، وأخيراً تحقيق التوازن الاقتصادي داخل الاتحاد الأوروبي، حيث تستأثر دول أوروبا الغربية (كفرنسا وألمانيا) بالثروة بينما شرق أوروبا يعتمد عليها اقتصادياً.

ومن خلال هذه الأهداف (المعلنة) يمكننا استنتاج أن بولندا أصبحت رجل أميركا في الاتحاد الأوروبي، خاصة مع الدعم الأميركي الكبير لهذه المبادرة، ويهدف الأميركيون من هذا الدعم إلى تحويل بولندا إلى قوة إقليمية تقود كتلة شرق-وسط أوروبية مستقلة عن كل من موسكو وبرلين في آن واحد لتطويق النفوذ الروسي من ناحية الشرق، وتحجيم هيمنة كل من ألمانيا وفرنسا على الاتحاد الأوروبي من الغرب. وبالتالي خلق محور قوي موالٍ للولايات المتحدة في أوروبا، وهو ما تشير إليه المشروعات الرئيسية للمبادرة، مثل: طريق Via Carpathia وهو طريق سريع من بحر البلطيق (ليتوانيا/بولندا) إلى البحر الأسود (رومانيا/بلغاريا). خط أنابيب الغاز البلطيقي (Baltic Pipe): لربط بولندا بالغاز النرويجي. مشروعات الربط الكهربائي بين دول الشمال والجنوب الشرقي. صندوق استثماري مشترك (Three Seas Investment Fund)  لدعم هذه المشاريع. 

لا يخفي القوميون البولنديون طموحاتهم بخصوص هذه المبادرة، حيث يعتبرونها استعادة سلمية للهندسة الجيوسياسية القديمة للكومنولث البولندي – الليتواني السابق، لكن عبر الاتحاد الأوروبي والناتو بدل المواجهات العسكرية، بمعنى أن بولندا في هذه المبادرة لا تسعى إلى السيطرة المباشرة وإنما إلى القيادة الإقليمية الاقتصادية والسياسية، وإعادة بناء الكيان العازل بين روسيا وأوروبا الغربية، وخاصة بين روسيا وألمانيا، حيث يعد التحالف الروسي الألماني من الممنوعات عند المفكرين الجيوسياسيين الغربيين.

على الجانب الأوروبي، وبالرغم من إدراك الأوروبيين لمدى خطورة نمو تحالف من هذا النوع في شرق أوروبا، إلا أن القادة في ألمانيا وفرنسا لا يمكنهم الآن التراجع عن دعم كل من بولندا وأوكرانيا خوفاً من التمدد الروسي، لكن في المقابل يخشى قادة فرنسا وألمانيا من نمو قوة عسكرية واقتصادية جديدة في أوروبا تؤدي إلى إضعاف هيمنة الدولتين على الاتحاد الأوروبي، وتحجيم مشروعات كل منهما، ومع استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، وضغط ترامب على الدول الأوروبية لزيادة نفقاتها العسكرية، فإن بولندا تبدو هي الدولة الأكثر استفادة من هذا الاستمرار، من النواحي الاقتصادية والعسكرية، وهو ما سيجبر الأوروبيين لاحقاً على ضرورة الاختيار بين إحدى القوتين السلافيتين: القوة الروسية والقوة البولندية.

   شحن القوة العسكرية البولندية 

منذ عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما وحتى الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب مروراً بفترة جو بايدن، وبالرغم من الخلافات بين أسلوب إدارة هؤلاء الرؤساء، يبدو أن الدعم العسكري لبولندا كان من الأشياء القليلة التي تم الاتفاق عليها، حيث توالت شحنات الأسلحة والتدريبات وحتى التعاون الاستخباري في سبيل دعم مخطط تحويل بولندا لأكبر قوة في أوروبا، وهو مخطط شاركت فيه بريطانيا كذلك، ففي شهر يوليو 2023 وقعت الحكومة البريطانية ممثلة بوزيري دفاعها وخارجيتها على اتفاقية شراكة استراتيجية ثنائية مع بولندا تمتد حتى 2030 م، وعقب توقيع الاتفاقية صرّح وزير الدفاع البريطاني بن والاس بأن بولندا ستمتلك قريباً أكبر وأقوى جيش في أوروبا، وأوضحت الحكومة البريطانية أن هذه الشراكة الاستراتيجية تعد تقوية لموقف الردع والدفاع لحلف الناتو.

لقد كانت بولندا من الدول التي استفادت من اشتعال الحرب بين روسيا وأوكرانيا في 2022، حيث قامت بإقرار قانون الدفاع عن الأمة، وتخصيص 4.7% من الناتج القومي للتسلح وهو ما يعادل 35 مليار يورو سنوياً، وخلال ثلاث سنوات من بداية الحرب الروسية-الأوكرانية، حصلت بولندا ​​على أكثر من 1100 دبابة قتالية، آخرها الاتفاق الذي وقعته مع كوريا الجنوبية للحصول على 180 دبَّابة من طراز K2 Black Panther و81 مركبة دعم مدرَّعة من تصميم شركة "هيونداي روتيم"، لتصبح بولندا ثالث أكبر قوَّة مدرَّعة بين دول "الناتو"، بعد تركيا (2238 دبابة) واليونان (1344 دبابة). كما حصلت على مدافع هاوتزر ذاتية الحركة ومركبات مدرعة للمشاة، إضافة إلى عدة مئات من قاذفات الصواريخ. كما أعلنت أن الجيش البولندي سيعمل على مضاعفة قوته لتصل إلى 300 ألف جندي.

وقد اعتبر بعض المحللين الأوروبيين أن تجاوز بولندا في مشترياتها العسكرية لدول الاتحاد الأوروبي إلى دول في آسيا إضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية يعكس توجهاً جيوسياسياً لدى وارسو بالتموضع في الصف الأميركي، وهو ما أظهره تصريح وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث الذي وصف بولندا بأنها "الحليف المثالي لحلف الناتو"، ما دفع البعض من المحللين إلى وصف بولندا بأنها وكيل الولايات المتحدة الأميركية الجديد في أوروبا.

لكن، هل بناء هذه القوة العسكرية البولندية يستهدف فقط إيقاف المد الروسي في أوروبا؟ هنا من الواضح أن البولنديين يسعون إلى تحقيق أحلام قومية خاصة بهم، ويبدو أن الأميركيين لا يرون مانعاً في تحقيقها، حيث تسير في إطار خططهم كذلك في إقامة هذا الحاجز بين روسيا وأوروبا الوسطى والغربية، وتحجيم النفوذين الروسي في شرق أوروبا، والألماني/الفرنسي في الاتحاد الأوروبي عموماً.

هذه الأطماع الإمبراطورية تتمثل في التطلعات البولندية لاستعادة السيطرة على أراض غرب أوكرانيا المتحدثة بالبولندية والتي تعتبرها بولندا أراضي تاريخية بالنسبة إليها، ومن الواضح أن هذه المحاولات تجري بعيداً عن الاتحاد الأوروبي وبالتنسيق مع واشنطن، وقد أعلنت الاستخبارات الروسية أن بولندا بدأت المرحلة الأولى من خطتها عبر إرسال كتيبة من 1800 مرتزق بولندي للقتال في أوكرانيا، مشيرة إلى أن هذه الكتيبة تتمركز في غرب أوكرانيا على وجه الخصوص.

لكن الأمر لا يتوقف عند هذه الطموحات لاستعادة أراض تاريخية، فمنذ العام 2022 أصبحت فكرة الاتحاد بين أوكرانيا وبولندا تناقش علناً، وقد دعمت هذا الطرح تصريحات للرئيس الأوكراني زيلنسكي بأنه قريباً لن تكون هناك حدود بين أوكرانيا وبولندا، وهي تصريحات أكدتها تصريحات الرئيس البولندي أندي دودا الذي قال إن شعبي البلدين سيكونان قادرين على العيش معاً لبناء سعادتهم وقوتهم المشتركة. وبحسب المحلل السياسي الروسي ألكسندر نازاروف فإن كييف منحت البولنديين امتيازات تكاد تكون مساوية لحقوق مواطني أوكرانيا، وهو ما اعتبره خطوة نحو هذا الاتحاد والذي سيخضع طبعا للهيمنة البولندية.

وفي كل الأحوال، إذا ما قررت بولندا استعادة أراض غرب أوكرانيا التي كانت تابعة لها سابقاً والمتحدثة بالبولندية، فإنها ستتطلع إلى ضم أراض أخرى في غرب بيلاروسيا كانت كذلك تابعة لها وتقطنها أقلية بولندية، وإن كان ذلك يبدو صعباً نتيجة الوجود الروسي المكثف في بيلاروسيا، وستفتح المجال أمام كل من المجر ورومانيا لمطالبات مماثلة بأراض تقطنها أقليات تتحدث بلغاتها في أوكرانيا، وهو ما سينعكس بالسلب على الاستقرار في شرق أوروبا والبلقان بكل تأكيد، فهناك مطالبات رومانية في استعادة مولدوفا، كما سينشط القوميون اليمينيون في ألبانيا لمحاولة تحقيق حلم ألبانيا الكبرى، فهل سيتمكن الاتحاد الأوروبي من التعايش مع هذه النزعات اليمينية التي ستبرز كنتيجة للعسكرة الجديدة لدوله في مواجهة التمدد الروسي المزعوم؟ من المؤكد أن صعود هذه النزعات لن تكون نتيجته سوى سقوط الاتحاد الأوروبي في النهاية، خاصة أن الألمان الذين يشعرون بالخطرين الروسي والبولندي معاً صاروا يعلنون بأنهم يخططون لزيادة إنفاقهم العسكري، وإن كانت ظروفهم الاقتصادية لا تسعفهم كثيراً.

لكن يبقى التساؤل: ما الذي ستستفيده بولندا من استعادة أراض تاريخية في غرب أوكرانيا سواء عبر الاستيلاء أو الاتحاد؟

 إذا نظرنا إلى الخارطة، فإن التوسع البولندي سوف يسمح لها بعدد من المميزات:

1- زيادة الوزن الاستراتيجي في حلف شمال الأطلسي، حيث ستزيد مساحة الدولة البولندية 120 ألف كم، وستبلغ ما يقرب من نصف مليون كم، كما سيزداد عدد سكانها عدة ملايين

2- السيطرة على مناطق غنية زراعياً وصناعياً (غاليسيا ولفيف)، كما توجد ثروات معدنية مهمة مثل التيتانيوم والمنجنيز والجرافيت والليثيوم والبوتاس، والسيطرة على شبكة طرق وسكك حديد تربط بولندا بالبحر الأسود عبر أوكرانيا، إضافة إلى السيطرة على ممر E40 المزمع إنشاؤه بين شرق أوروبا وآسيا الوسطى، حيث يبدأ من غدانسك ببولندا، مروراً بنهر فيستولا إلى كييف ثم دنيبرو ثم البحر الأسود ومنه إلى القوقاز وآسيا الوسطى، وإذا سيطرت بولندا على غرب أوكرانيا فسوف تمتلك الجزء البري من الممر، كما ستصبح جزءاً مهماً من ممرات الطاقة بين القوقاز وأوروبا عبر البحر الأسود. 

3- قوة سكانية أكبر، حيث تعاني بولندا من نقص السكان ويادة نسب الشيخوخة. 

4- قطع الطريق على النفوذ الألماني في أوكرانيا وزيادة اعتماد دول الشرق الأوروبي على وارسو بدلاً من برلين. 

5- التفوق الجيوسياسي على المجر، وهي منافسة بولندا على قيادة الشرق الأوروبي، ولديها تحالف مع تركيا. 

6- إيجاد حزام أمني في مواجهة روسيا وهو المشروع القديم للرئيس البولندي في العشرينات بيوسودسكي.

تحقيق الحلم الجيوسياسي للقوميين البولنديين باستعادة الدور التاريخي للكومنولث البولندي – الليتواني، وتحقيق شعار بولندا من بحر البلطيق إلى البحر الأسود.

وذلك في حال دعمت وارسو نظاماً موالياً لها في كييف ما سيحولها من دولة بلا منفذ جنوبي إلى دولة بحرية تجارية ثنائية المنافذ عبر امتلاك موانئ على البحر الأسود، كما سيجعلها محور التجارة بين وسط وشرق أوروبا من ناحية والقوقاز والشرق الأوسط عبر تركيا من ناحية أخرى، ما سيعزز دورها كعقدة جيوسياسية لا يمكن للاتحاد الأوروبي تجاهلها. 

لكن في المقابل هناك عقبات تواجه هذه المشروعات الأمريكوبولندية، لعل أهمها مدى خطورتها على كل من روسيا وألمانيا وكلاهما لن يقبل بتطورات من هذا النوع، خاصة الروس الذين يعتبرونها تهديداً وجودياً لوحدة أراضيهم، أما الألمان فإن المشروعات البولندية تهدد هيمنتهم الاقتصادية على المنطقة، والأهم أنها تهدد بقاء الاتحاد الأوروبي ذاته.

ثمة عقبة أخرى، إلى أي مدى يمكن للاقتصاد البولندي أن يحتمل مثل هذه التحديثات العسكرية المتتابعة بسرعة؟ فعلى الرغم من المكاسب الاقتصادية التي يمكن أن تتحقق مع إنجاز البولنديين لهذا المشروع، إلا أنها حتى الآن مكاسب مؤجلة وغير مضمونة، كما أن الدعم الأميركي ذاته يمكن ألا يستمر في حال تورط الأميركيين في صراع ضخم قد يؤدي إلى استنزافهم عسكرياً بالرغم من القاعدة الأميركية التي تم تأسيسها في بوزنان البولندية.

إن هذه المكاسب المتوقعة يمكن أن تنتهي في حال واصل الروس تقدمهم في أوكرانيا حتى جمهورية ترانسنستريا المولدوفية والتي توجد فيها حتى الآن قوات روسية، في هذه الحالة سوف تحرم أوكرانيا من وجودها على البحر الأسود وهو ما سيعرقل المشروع البولندي بكل تأكيد، وربما كان هذا الاحتمال هو ما دعا نواب إقليم ترانسنستريا الانفصالي إلى طلب الحماية الروسية في مارس من العام الماضي وإجراء استفتاء على مقترح الانضمام إلى الاتحاد الروسي والذي حظي بموافقة 95% من السكان.

إن هذا الصعود البولندي الجديد والسريع بدعم أميركي وبريطاني واضح يدعم احتمالية حدوث صدام بينها وبين روسيا، والأمر لا يتوقف على قضية إقليم ترانسنستريا كمنطقة يمكن أن تشعل الحرب بين الطرفين، فهناك ممر سوفالكي وهو ممر طوله 60 متراً يقع على الحدود بين ليتوانيا وبولندا ويربط بيلاروسيا بإقليم كالينينغراد الروسي على بحر البلطيق، وفي الفترة الأخيرة تتهم روسيا بولندا بتشجيع النزعات الانفصالية لسكان هذا الإقليم المنعزل عن روسيا، وهذا الدعم للنزعات الانفصالية في كالينينغراد يحظى بقبول أميركي كذلك ضمن محاولة حصار الوجود الروسي في بحر البلطيق، بما يعني أن الأميركيين يسعون إلى محاولة استنزاف كل من روسيا والاتحاد الأوروبي في معارك متلاحقة بشرق أوروبا عبر الزج ببولندا في الصراع، الذي يمكن اعتباره مغامرة غير محسوبة العواقب قد تؤدي إلى عودة القوة الروسية إلى شرق أوروبا مرة أخرى. فبولندا لن تحظى بتعاطف كبير من الدول الأوروبية الكبرى، وربما لن تحظى بدعم من دول شرق أوروبية مجاورة ترفض القيادة البولندية ومحاولات الاحتكاك بالروس.

لقد تكرر الصعود البولندي ثلاث مرات، كما تكرر السقوط والاقتسام لبولندا بين الجيران ثلاث مرات كذلك، فهل تدعم أميركا بولندا الآن كحائط صد في مواجهة التمدد الروسي والنفوذ الألماني، ثم تتركها بين القوتين لاقتسامها لاحقاً مع أول كبوة للأميركيين أو مع أول صفقة يعقدونها؟ من الناحية التاريخية كانت نهايات الصعود الإمبراطوري البولندي دائماً كارثية، وهي التقسيم بين الجيران خاصة الروس والألمان، والآن يسعى القوميون البولنديون إلى الصعود الإمبراطوري مجدداً عبر الدعم الأميركي، والاحتكاك بالمصالح الروسية والألمانية مجدداً، وربما سيكون عليهم أيضاً الاستعداد لنهاية كارثية جديدة.