جزر سليمان.. ولعبة الاستقطابات الصينية الأميركية

كيف ترى الولايات المتحدة أن من حق أوكرانيا نشر صواريخ في أرضها، بينما من غير المسموح لجزر سليمان إقامة قاعدة عسكرية صينية في أراضيها، على رغم أن الولايات المتحدة تبعد عن جزر سليمان أكثر من عشرة آلاف كيلومتر، بينما أوكرانيا تقع عند الحدود مع روسيا!

  • فشل الولايات المتحدة في تكرار نموذج غينيا الاستوائية.
    فشل الولايات المتحدة في تكرار نموذج غينيا الاستوائية.

تابع العالم باهتمام الانتخابات التي جرت في جزر سليمان، والتي أدت إلى انتخاب "جيريماياه مانيليه" رئيساً للحكومة في البلاد.

الأمر ليس عائداً إلى أهمية تلك الدولة بكل تأكيد، لكنه نابع من أن المنافسة بين المرشحين كان عنوانها الصين.

مستقبل العلاقة بين الجزيرة والصين كان هو محور الصراع بين المرشحين، والذي انتهى بفوز مانيليه "صديق الصين" بـ 38 صوتاً من أصل 50، في مقابل 11 صوتاً حصل عليها منافسه "ماثيو ويل" زعيم المعارضة.

الولايات المتحدة أعلنت، من جهتها، أنها ستراقب ما تقوم به الحكومة في جزر سليمان، بمعنى أنها ستعمل على منعها من التقارب أكثر مع بكين.

لم يكن أحد ربما سمع بشأن دولة اسمها جزر سليمان قبل عام 2019، حين أعلنت الجزيرة استدارتها نحو بكين وإقامة علاقات دبلوماسية بها، وكان "مانيليه" وزيراً للخارجية حينها.

تلك الاستدارة تعني بالضرورة قيامها، قبل أي شيء، بقطع علاقاتها بتايوان، وهو الشرط الذي تضعه الصين لإقامة علاقات دبلوماسية بأي دولة.

وهو ما ينسجم مع توجهات بكين التي تَعُدّ تايوان جزءاً من أراضيها، سيعود حتماً إلى الوطن الأم، طال الزمان أم قصر.

لكن تلك الخطوة لم تمر بسهولة، فانفجرت التظاهرات في الجزيرة بدعم من الولايات المتحدة الأميركية، التي أدت إلى الهجوم على الحي الصيني وإحراقه وتعرض المصالح الصينية للتخريب.

تدخلت أستراليا حينها للتهدئة، وساعدت بكين حكومة الجزيرة على استعادة الأمن، لكن ذلك كان إشارة إلى ضرورة قيام الصين بتأمين القوة اللازمة لحماية مواطنيها ومصالحها في الجزيرة.

جزر سليمان عبارة عن دولة جزرية تتألف من عدد كبير من الجزر، يصل عددها في بعض المراجع إلى ألف جزيرة صغيرة.

وهي دولة فقيرة على رغم امتلاكها عدداً من الثروات، في مقدمتها الذهب الذي يوجد بكميات كبيرة وفي أعماق صغيرة، وهو السبب في تسميتها "جزر سليمان"، بحيث ساد اعتقاد، مفاده أن كنز سليمان موجود فيها.

الجزيرة لا تزال بكراً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فلا عملة موحدة (على رغم وجود الدولار السليماني) بحيث ما زال "نظام المقايضة" مستخدماً فيها.

ولا لغة رسمية تجمع بين سكانها، بحيث إن هناك أكثر من سبعين لغة مستخدمة بين السكان البالغ عددهم نحو 800 ألف نسمة، ولا يزيد عدد من يستخدم اللغة الإنكليزية على 2٪. ولا جيش مجهز وقادر على الدفاع عن "الدولة" وحدودها. 

تتمتع الجزيرة بأهمية كبيرة في منطقة جنوبي المحيط الهادئ، وتمتد على مساحة تقدَّر بـ 128500 كيلومتر مربع، وهو ما جعلها مسرحاً لأشد المعارك التي شهدتها الحرب العالمية الثانية.

كانت تتبع التاج البريطاني إلى أن نالت استقلالها عنه في عام 1978، لكنها لم تخلُ من التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية، وخصوصاً من أستراليا والولايات المتحدة الأميركية.

قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية بالجزيرة عام 1993 في إطار التقليص العالمي للمواقع والأولويات الدبلوماسية بعد الحرب الباردة.

بعد إعلان توقيع اتفاقية أمنية بين الصين والجزيرة في عام 2022، أعادت الولايات المتحدة الأميركية افتتاح سفارتها في هونيارا في مبنى قديم كان لقنصليتها، وضمت دبلوماسيين اثنين فقط.

الاتفاق الأمني ...والمخاوف الأميركية

كان إعلان توقيع الاتفاقية الأمنية بين الصين وجزر سليمان في نيسان/أبريل 2022 بمنزلة صفعة وُجهت إلى الولايات المتحدة، لأنها لم تعرف بشأنه من قبل، وبالتالي لم تستطع عرقلته. 

جاء هذا الاتفاق بمنزلة الرد السريع من بكين على تحالف أوكوس الذي ضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، والذي تم إعلانه في أيلول/سبتمبر 2021.

بعد توقيع الاتفاقية بين الصين وجزر سليمان، أعربت كل من أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة عن مخاوفها بشأن الأمن في منطقة المحيط الهادئ، مطالبين البلدين بالإفصاح عن تفاصيل الاتفاق.

بكين اكتفت بالقول إن الاتفاق يندرج فيما يحق لكلا البلدين توقيعه وفقاً للقانون الدولي، وإنه ليس موجَّهاً ضد أحد، وإن الهدف منه تعزيز التعاون بين البلدين، ومساعدة الجزيرة على الاستفادة من مشاريع التنمية الصينية.

ورأت أنه لا يحق لأحد أن يطلب إليها الإفصاح عن مضمون الاتفاق، بينما لم يتم الإفصاح عن كامل تحالف أوكوس.

أما حكومة الجزيرة فأعلنت حينها أنه "تم توقيع الاتفاق بعيون مفتوحة"، بمعنى أنه لم يكن مجحفاً بحقها، كما حاول بعض الدول وصفه، عادّةً التشكيك في قدرة قادة البلاد على تقدير مصالح بلدهم أمراً لا يمكن قبوله.

وقال رئيس حكومة جزر سليمان حينها، "سوغافاري"، إن بلاده مثل "فأر عاجز تحيط به القطط من كل مكان"، وعليه فعل أي شيء من أجل البقاء في قيد الحياة. 

وأشار إلى سعي بلاده لتنويع شراكاتها، كما أنها في أمس الحاجة إلى التسهيلات التي تقدمها الصين إلى الدول النامية.

الاتفاق الأمني يتيح للسفن الصينية التوقف والعبور والحصول على التموين والدعم اللوجستي اللذين تحتاج إليهما، كما سمح بنشر جنود صينيين لحماية تلك السفن.

الصين تقلل من أهمية الاتفاق، وأن القوة التي سيتم نشرها من قوات الشرطة لا الجيش، في حين ترى الولايات المتحدة أن الصين لا تبني موانئ أو قواعد مدنية فقط، بل هي تدمج دوماً بين المدني والعسكري. 

هذا الاتفاق يتيح لبكين مراقبة الغواصات النووية التي ستزود بها الولايات المتحدة أستراليا وفقاً لاتفاق أوكوس، والتي ستتحرك في تلك المنطقة. 

كما يسمح للصين بالاقتراب أكثر من القوات الأميركية الموجودة في عدد من دول المنطقة، ويجعلها موجودة في المنطقة التي تصل بين الولايات المتحدة وأستراليا.

أهمية جزر سليمان للصين

 تنظر الصين إلى الجزيرة من عدة نواحٍ، فهي أولاً دولة لها صوت في الأمم المتحدة، وكانت تقيم علاقات بتايوان، والصين تسعى لـ"تصفير" عدد الدول التي تعترف بتايوان، بحيث لم يبق الآن سوى أربع جزر في المنطقة تعترف بها.

ومن الناحية الاقتصادية، يمكن لبكين الاستفادة من الجزيرة الغنية بالثروات، والتي تتمتع بأهمية سياحية كبيرة. وبالتالي، فإن مشاريع التنمية الصينية ستحقق نفعاً مشتركاً للبلدين.

أما على الصعيد الجيوسياسي، فإن الجزيرة تقع في مواجهة الساحل الشرقي للولايات المتحدة، في قلب خليج غينيا، وتبعد عن البر الأميركي نحو عشرة آلاف كيلومتر، ولا يتجاوز بُعدها عن أستراليا ألفي كيلومتر.

وتُعَدّ الجزيرة لؤلؤة جديدة في "استراتيجية عقد اللؤلؤ" التي تسعى بكين من خلالها لبناء طوق حول المنطقة يستند إلى عدد من المرتكزات الجيوبولتيكية، والتي ستكون الجزيرة أحدها.

كما تسعى بكين لإضعاف النفوذ الإقليمي لأستراليا، والسعي لاستقطاب أكبر عدد من دول المنطقة إلى صفها، كما حدث مع ساوتومي وكيريباتي.

هذه الرؤية لبكين تنطلق من النظرية الواقعية التي ترى أنه لا يمكن لأيّ دولة أن تصبح دولة عظمى إذا لم تتمتع بقوة إقليمية تسيطر من خلالها على محيطها الإقليمي كله، ثم تنطلق نحو العالمية.

فتأمين البيئة الإقليمية له الأولوية، وهو ما تسعى الولايات المتحدة لتقويضه، عبر تغذية الصراعات بين الصين وجوارها الإقليمي، وخصوصاً اليابان والفلبين.

فشل الولايات المتحدة في تكرار نموذج غينيا الاستوائية

غينيا الاستوائية هي أصغر دول القارة الأفريقية، وكانت الصين سعت لإقامة قاعدة عسكرية لها هناك، بعد أن فشلت في إقامة قاعدة لها في موريتانيا، لكن الولايات المتحدة ضغطت على الحكومة الغينية وأفشلت ذلك.

ترى الولايات المتحدة أن سبب نجاحها يعود إلى معرفتها الأمر قبل وقوعه، بينما لم تسمع بشأن الاتفاق الصيني مع جزر سليمان إلا بعد إعلاننه من جانب بكين.

في الواقع، الأمر مغاير بين غينيا الاستوائية وجزر سليمان، فوسائل الضغط التي تمتلكها الولايات المتحدة على غينيا أقوى مما يمكنها فعله بالنسبة إلى جزر سليمان.

اقتصاد غينيا الاستوائية اقتصاد نفطي، جل معداته أميركية الصنع. وبالتالي، هناك حاجة كبيرة إلى الولايات المتحدة، بينما جزر سليمان دولة زراعية تعتمد على محصول جوز الهند بصورة أساسية، وليس لديها صناعات، وبالتالي فهي ليست في حاجة إلى الولايات المتحدة الأميركية.

من الواضح أن الولايات المتحدة لا تملك الكثير من الخيارات للضغط على حكومة جزر سليمان، وخصوصاً أن الضغط عليها قد يدفعها إلى التقارب أكثر مع الصين.

أمّا الترغيب، فلا يمكن مقارنة ما تستطيع بكين تقديمه بما يمكن للولايات المتحدة فعله، في ظل ما يعانيه الاقتصاد الأميركي من مشكلات، وما تمتلكه الصين من مزايا تجعل نموذجها التنموي محط جذب لعدد من الدول النامية.

السؤال هنا: لماذا يحق لأميركا وأستراليا التحالف، بينما يحرَّم على الصين وجزر سليمان المضي في تعاونهما؟ 

وكيف ترى الولايات المتحدة أن من حق أوكرانيا نشر صواريخ في أرضها، بينما من غير المسموح لجزر سليمان إقامة قاعدة عسكرية صينية في أراضيها، وتَعُدّ ذلك تهديداً للأمن القومي الأميركي، على رغم أن الولايات المتحدة تبعد عن جزر سليمان أكثر من عشرة آلاف كيلومتر، بينما أوكرانيا تقع عند الحدود مع روسيا!

لقد أصبحت جزر سليمان طرفاً في لعبة "شد الحبل" بين الصين والولايات المتحدة، وهو الحبل الذي ما زالت بكين تنجح في الحيلولة دون انقطاعه.