خديعة الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والدول العربية فرادى (3-3)

المحلل السياسي المتعمق في البيانات الختامية للحوارات بين كل دولة عربية من ناحية، وواشنطن من ناحية أخرى، يكتشفان مقدار التوظيف الذي ترسمه وتصوغه الولايات المتحدة لهذه الدول والحكومات عبر ما يسمى "الحوار الاستراتيجي".

  • ماذا عن الحوار الاستراتيجي في البلدان العربية؟
    ماذا عن الحوار الاستراتيجي في البلدان العربية؟

حزمت الدبلوماسية الأميركية معظم دول المنطقة العربية وحكوماتها بخيط ناعم وحزام خانق من الاتفاقيات الثنائية، تحت مسمى اتفاقيات التجارة تارة، والاتفاقيات الدفاعية والأمنية تارة ثانية، والتعاون العلمي والفني تارة ثالثة، والتعاون القضائي تارة رابعة، والتعاون الاستخباري تارة خامسة، وأخيراً جاء الحوار الاستراتيجي. 

والقارئ المدقق والمحلل السياسي المتعمق في البيانات الختامية لهذه الحوارات بين كل دولة وحكومة عربية من ناحية، والولايات المتحدة من ناحية أخرى، يكتشفان مقدار التوظيف الذي ترسمه وتصوغه الولايات المتحدة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، لهذه الدول والحكومات عبر ما يسمى "الحوار الاستراتيجي". 

فلنتأملْ معاً بعض تلك الحالات والأمثلة، لنتعرّف، من كثب، إلى هذه الخديعة الاستراتيجية.

الحوار الاستراتيجي بين قطر والولايات المتحدة 

بدأت العلاقات بين إمارة قطر والولايات المتحدة منذ الأسبوع الأول لإعلان استقلال هذه الإمارة عن سلطة الاحتلال البريطاني في أيلول/سبتمبر 1972. 

على رغم عمق العلاقات الاقتصادية والسياسية بين هذه الإمارة والولايات المتحدة، وتعدُّد اتفاقيات التعاون وتنوعها، تجارياً واقتصادياً وسياسياً، فإن طبيعة ما تراه حكومة الإمارة من تهديدات ومخاطر دفعها دفعاً إلى عقد اتفاقية تعاون دفاعي بين البلدين عام 1992 (بمعنى أدق عقد مظلة حماية أميركية)، لكن العلاقة أصبحت أكثر أهمية عندما بدأ تدشين قاعدة العديد الجوية الأميركية عام 1996 وقاعدة السيلية في قطر، وعبر حضور عسكري أميركي يقدَّر بنحو 15 ألف جندي.

إلا أن الدبلوماسية الأميركية حرصت على تطبيق آلية ما يسمى "الحوار الاستراتيجي" مع قطر بدءاً من 31 كانون الثاني/يناير 2018، واستمرت في دورات سنوية تنعقد أحيانا في واشنطن وأخرى في الدوحة. 

وانعقدت الدورة الرابعة للحوار بتاريخ 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، أمّا الدورة الخامسة للحوار فانعقدت في العاصمة القطرية الدوحة، في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 في ظل إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن في شباط/فبراير من ذلك العام قطر حليفاً استراتيجياً من خارج حلف الناتو، وخصوصاً بعد أن برز الدور السياسي الإقليمي والوظيفي القطري في عمليات الوساطة المدعومة من الحكومة الأميركية (مثل طالبان وأزمة أفغانستان، وحماس والكيان الإسرائيلي...) وفي بعض الساحات العربية، مثلما حدث في سوريا.

وعقب هذا الحوار الاستراتيجي الخامس، أكدت وزارة التجارة والصناعة خلال جلسة اقتصادية أن إجمالي الاستثمارات القطرية المباشرة في الولايات المتحدة بلغ نحو 69 مليار دولار حتى عام 2022، وأن الشركات الأميركية العاملة في دولة قطر بلغ عددها 856 شركة تساهم بصورة رئيسة في حركة التنمية التي تشهدها الدولة، في ظل رغبة قطرية – كما سائر دول الخليج – في تنويع اقتصادها، من أجل تقليل اعتمادها بالتدريج على الصناعات الهيدروكربونية، والانتقال نحو اقتصاد قائم على المعرفة، على نحو يتماشى مع رؤية قطر الوطنية 2030 (تماماً كما خطة المملكة السعودية في رؤية 2030)، والتي وضعتها جميعاً شركة ماكينزي الأميركية.

من الناحية الاقتصادية، فإن صادرات الولايات المتحدة إلى قطر تشمل الطائرات، والسيارات، والآلات والمعدات الكهربائية، والأجهزة البصرية والطبية، والمنتوجات الصيدلانية، بينما تشمل صادرات قطر إلى الولايات المتحدة: الأسمدة، والألومنيوم، والغاز الطبيعي المسال. 

وانعقدت جولة ما يسمى الحوار الاستراتيجي بين البلدين في آذار/مارس 2024 وسط النار والدماء الجارية في قطاع غزة.

وحينما نحلل ما ورد في البيانات الختامية لجلسات الحوار "الاستراتيجي" بين البلدين نستخلص عدة حقائق جوهرية، منها:

1- التوظيف الأميركي لدور قطري، في الصعيدين الإقليمي والدولي، فورد في البيان الختامي للدورة الرابعة لهذا الحوار، والمنعقدة بتاريخ 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، تأكيد شكر الولايات المتحدة ووزير خارجيتها أنتوني بلينكن لدولة قطر على الدور الإيجابي الذي أدته بشأن نقل أكثر من 60 ألف مواطن أميركي، ومقيمين دائمين قانونيين، وحاملي تأشيرات هجرة خاصة، والأفغان المعرضين للخطر، إلى الولايات المتحدة للاستقرار، عبر قطر، في عام 2021، وفي إطار التعاون العميق في القضايا الإقليمية والتحديات في أفغانستان. 

2- ناقش الجانبان التطورات السياسية في المنطقة، بما في ذلك سوريا واليمن والقرن الأفريقي، من دون أن نغفل عن الدور القطري المدمّر لبلد مثل سوريا. 

3- يبدو واضحاً مقدار التباين في الاهتمامات والأولويات بين الطرفين، حينما يذكر البيان الختامي القلق العميق الذي يشعران به بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة، ويعلنان أنهما سيواصلان العمل معاً لتحسين الظروف الإنسانية والاقتصادية للجميع (ولا نعرف على وجه الدقة موافقة قطر على إيراد تعبير للجميع في هذا النص، الذي يعني بوضوح الإسرائيليين أيضاً). 

4- سلطت الولايات المتحدة الضوء على جهود قطر في المساعدات الإنسانية الثنائية ومتعددة الأطراف، بما في ذلك تعاونها مع وكالات الأمم المتحدة، في شكل تعهد بشأن تقديم مساعدات، متعددة الأعوام، بقيمة 500 مليون دولار، إلى السكان النازحين قسراً واللاجئين، كأنه دور مكلفة تأديتَه دولةُ قطر من جانب الولايات المتحدة.

5-كما قدمت الولايات المتحدة شكرها إلى قطر مرة أخرى على مساهمتها السخية لمكافحة كوفيد-19 داخل الولايات المتحدة.

6- أقرت كل من قطر والولايات المتحدة بالتقدم الذي أحرزته قطر مؤخراً في مكافحة الإتجار بالبشر وتعزيز حقوق العمل. واحتفت الولايات المتحدة بوكيل وزارة العمل القطري محمد العبيدلي، الذي أطلقت عليه وزارة الخارجية الأميركية مؤخراً لقب بطل تقرير الإتجار بالبشر. وبهذا، تمنح الولايات المتحدة دولة قطر، كما غيرها من الحكومات العربية، شهادة حسن سير وسلوك.

7- ناقشت قطر والولايات المتحدة حقوق الإنسان، ورحبتا بانتخاب إحداهما الأخرى في مجلس حقوق الإنسان (وهكذا، فإن قطر هي حليف للولايات المتحدة في المحافل الدولية، على رغم التاريخ الأسود للولايات المتحدة في مجال انتهاك حقوق الإنسان، بدءاً بتاريخها القديم حتي جرائمها في فيتنام والهند الصينية والعراق ولبنان وسوريا واليمن وغيرها). 

8- سلطت الحكومتان الضوء على شراكتهما الأمنية الثنائية والقوية، بما في ذلك في مجالات التعاون في إنفاذ القانون والطيران وأمن الحدود، ومكافحة التطرف العنيف ومكافحة الإرهاب وتمويله. وأشارت الحكومتان إلى أهمية الاستمرار في توسيع تبادل المعلومات والتعاون في إنفاذ القانون. كما سلطت قطر والولايات المتحدة الضوء على التنسيق الناجح بين حكومتينا في الإدراج المشترك للشبكات الإرهابية في القوائم السوداء. وأكدت الولايات المتحدة التزام قطر تقديم 75 مليون دولار على مدى خمسة أعوام ودعم جهود عمل مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب.

9-أكد البلدان، كونهما منتجين للطاقة، التزامهما المشترك تعزيز العمل المناخي العالمي. واتفقا على العمل في جميع أنحاء المنطقة من أجل تعزيز الحصول على الطاقة ودعم انتقال الطاقة النظيفة. وأعادت الولايات المتحدة وقطر تأكيد جهودهما المشتركة للحصول على الطاقة النظيفة، والتي يمكن الاعتماد عليها بأسعار معقولة، وسلطتا الضوء على قراراتهما الأخيرة للانضمام إلى منتجي النفط والغاز العالميين الآخرين لإنشاء منتدى صافي الانبعاث الصفري.

10- أعادت الحكومتان تأكيد الالتزام الوارد في الإعلان المشترك لعام 2018 بشأن التعاون الأمني لتعزيز السلام والاستقرار ومكافحة الإرهاب وتنمية الشراكة الدفاعية الدائمة بين الولايات المتحدة وقطر. وأعرب الوفد الأميركي عن تقديره استضافة دولة قطر للقوات الأميركية والتعاون في العمليات في أفغانستان، والجهود المبذولة لتطوير المرافق والبنية التحتية الحيوية في قاعدة العديد الجوية لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية. وناقشت الوفود علاقات المبيعات العسكرية الخارجية القوية، والتي تستمر في زيادة قدرة التشغيل البيني للقوات المسلحة القطرية.

11- أمّا في جلسة الحوار "الاستراتيجي" السادسة والمنعقدة بتاريخ 5 آذار/مارس  2024 ووسط صراخ أهل غزة من حرب الإبادة والمذابح الإسرائيلية، نصّ البيان الختامي على أن دولة قطر تؤكد، في كل المحافل الدولية، ضرورة أن تظل تلبية الاحتياجات الإنسانية الحيوية للشعب الفلسطيني أولوية قصوى للمجتمع الدولي، وخصوصاً في ظل معاناته المتفاقمة من ويلات الاحتلال والحصار والحرب وعرقلة "إسرائيل" إدخال المساعدات، في تحدٍّ سافر للقانون الدولي والتدابير الموقتة لمحكمة العدل الدولية في هذا الشأن. كما تعبر دولة قطر عن موقفها الثابت من ضرورة استمرار الجهود الإغاثية وتكثيفها في قطاع غزة، وتحذر من التداعيات الكارثية المترتبة على وقف دعم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا". والسؤال ماذا كان موقف الطرف الأميركي في الحوار؟ وهل استجاب لطلبات شريكه في الحوار الاستراتيجي وقلقه؟ 

الإجابة هي النفي. بل على العكس، شنت الولايات المتحدة حملة مسعورة لوقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لرعاية وتشغيل اللاجئين الفلسطينين، "الأنروا"، ووقفت ضد إدخال المساعدات الإنسانية لسكان قطاع غزة، بالإضافة إلى موقفها المخزي في مجلس الأمن، واستخدامها حق النقض "الفيتو" لمنع إصدار قرار لوقف هذه المذبحة، التي لم يعرف تاريخ الحروب مثيلاً لها. 

وهنا، يجب أن نسأل: هل الحوار بين البلدين هو حوار من جانب واحد؟ وهل يجب أن ينفذ أحد الأطراف الطلبات والتوجيهات والأوامر للطرف الأقوى من دون أن يكون العطاء متبادلاً بين الطرفين؟

وفي إطار التدليس السياسي، جاء في نص البيان أنه "من جهته، أكد أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي، أهمية الشراكة بين واشنطن والدوحة لحل الخلافات وإنهاء الصراعات الإقليمية والدولية، مشيراً إلى أن الحوار الاستراتيجي مع قطر دليل على الشراكة القوية التي تجمع البلدين، والتعاون المشترك. وشدد على أن بين الولايات المتحدة وقطر شراكة ثنائية وإقليمية أضحت عالمية أكثر فأكثر في مجالات متعددة".

وشكلت مذكرات التفاهم والاتفاقيات، التي جرى إبرامها على مدى الأعوام الخمسة الماضية من عمر ما يسمى الحوار "الاستراتيجي"، دفعةً قوية للشراكة التاريخية بين البلدين، والتي تشمل كل المجالات، بحيث تجاوزت الشراكة الاقتصادية بين الدوحة وواشنطن 200 مليار دولار.

وجاء في البيان الختامي لدورة الحوار السادسة، في آذار/مارس 2024، أن العلاقات التجارية والاقتصادية والاستثمارات تشكل علامة مضيئة في صلب العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، واكتسبت زخماً كبيراً منذ عشرين عاماً بتوقيع اتفاقية التجارة والاستثمار (TIFA) في عام 2004، بحيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين أكثر من 9.46 مليارات دولار عام 2022 وحده، الأمر الذي جعل الدوحة الشريكة التجارية التاسعة لواشنطن.

وهنا، نهتف فليَعِش الحوار الاستراتيجي.. ولتَعِش الخديعة الاستراتيجية. فماذا عن الحوار الاستراتيجي في سائر البلدان العربية؟