صدام الأفكار: هنا تبدأ الحرب (2-2)

مواجهةٌ مختلفة لكنها لا تقل خطورةً عن الحرب، وربما تؤسّس لها بالمناظرة بين ألكسندر دوغين وهنري ليفي.

  • صدام الأفكار: هنا تبدأ الحرب (2-2)
    الساحة كانت معهد نيكسوس في أمستردام، حيث وقف ألكسندر دوغين مقابل برنار هنري ليفي.

يمثّل ألكسندر دوغين وهنري ليفي عالمين متقابلين، ورؤيتين متناقضتين لشكل المستقبل، وتصوّرين كبيرين للعلاقات الدولية بقواها وتوازناتها، بل أبعد من ذلك، بأساليب العيش وأنماط الاستهلاك والقيم التي تستحق الحياة فيها والموت من أجلها. هذا ما تقدمه هذه المادة في جزئها الثاني، بعد الجزء الأول: صدام العقول: العمق الفكري للحرب بين دوغين وليفي (2-1).

قبل انفجار الصدام العسكري بين روسيا والغرب في أوكرانيا في شباط/ فبراير 2022، وتحديداً في الـ 21 من أيلول/ سبتمبر 2019، حدثت مواجهةٌ مختلفة لكنها لا تقل خطورةً عن الحرب، وربما تؤسّس لها. الساحة كانت معهد نيكسوس في أمستردام، حيث وقف ألكسندر دوغين مقابل برنار هنري ليفي، مجسّدَين عالمين متقابلين، ورؤيتين متناقضتين لشكل المستقبل، وتصوّرين كبيرين للعلاقات الدولية بقواها وتوازناتها، بل أبعد من ذلك، بأساليب العيش وأنماط الاستهلاك والقيم التي تستحق الحياة فيها والموت من أجلها. لقد تصادم الرجلان كمحاكاةٍ مبكرة لصدام العالمين اللذين يمثلانهما؛ الغرب المهيمن وأنساقه العالمية بمضامينها الشاملة بتنوعها، لكن المتطرفة بوحدتها، وبرغبة جامحة بادّعاء تفوّقٍ أخلاقيٍّ لا قابلية لنقاشه. وفي الجهة الأخرى، الشرق، أوراسيا تحديداً، المساحة التي تشغلها قوة عالمية جديدة، تعود لتصحيح المفاهيم وتوازنات العالم، بل والأنظمة التي تمّ تأسيسها على توازنات ما بعد الحرب الباردة، حيث ترى انهيار الاتحاد السوفياتي كـ"خديعةٍ" استُغلّت لإقفال باب النقاش في الفلسفة السياسية والنظريات الجيوبوليتيكية والاقتصادية العالمية، وتوحيد النموذج الغربي وعولمته. هنا وقف دوغين، وهناك هنري ليفي، وتصادمت أفكار العالَمين، فبانت معالم الحرب العالمية الثالثة بكل أهوالها المحتملة، وبكامل أسلحتها التي لم يعرف البشر قبلاً مثيلاً لها.

نهاية "الحداثة التي قتلت الإله"

يستند دوغين في مقاربته الأولى لفتح النقاش إلى اعتراف صريح من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بـأن "هيمنة الغرب انتهت"، ويعزّز ذلك برأي الكاتب الأميركي فريد زكريا حول "تراجع القوة الغربية"، ثم يغوص أعمق، من السياسي نحو الفكري، ليصحّح لفرانسيس فوكوياما: "ليس التاريخ هو من انتهى، بل إنها الحداثة السياسية التي انتهت"، وتالياً فإن "الليبرالية العالمية والهيمنة والتفوّق الأميركيين، هي التي انتهت"، ليس تقنياً، بل تاريخياً.

وفي صورةٍ بالغة الدلالة على مضامين نظرية دوغين، يوجّه الأخير سهامه إلى فكرة نيتشه الشهيرة، بقوله إن "البشر في بداية الحداثة قتلوا الإله من أجل أن يتحرّروا"، معتبراً أن تلك اللحظة كانت انتحاراً للبشر الذين قتلوا أنفسهم من خلال قتلهم الإله. ومن هذا المنطلق، ذهب دوغين إلى فتح نقاش حول العدمية في النظام الدولي، تأسيساً على رأيٍ سابقٍ لهنري ليفي نفسه.

"مناخ هوسي"

ينكر هنري ليفي دفاعه عن العدمية، بل يدّعي القتال ضدّها، ومن أجل الحداثة السياسية التي تشمل في رؤيته "الديموقراطية والحرية والمساواة بين الرجال والنساء، العلمنة"، وهو على الرغم من اعترافه بمأزقها، يرفض فكرة تراجعها واختفائها. ويخوض هجومه المضاد باتهام فلسفة دوغين بالعدمية (مع تأكيد اعترافه بأهمية الرجل)، بل يعتبره شخصياً وأصدقاءه تجسيداً للعدمية. يهاجم ليفي النظرية الأوراسية من باب "المناخ المهووس" الذي يستشعره من كتب خصمه حول أوراسيا منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، وبالأخص كتاب "الثورة المحافظة"، والتي "تضع حقوق الإنسان المثالية، والحقوق الشخصية، والفردانية، في قوالب كبيرة للمجتمع، وللإيمان الكبير، وللعودة إلى الأصول وإلى العهود المقدسة".

أما دوغين، فيقرّ بأنه ضد المفهوم الغربي لحقوق الإنسان، وضد الليبرالية الديموقراطية التي تستخدم كتعبير عالمي، وهو يرى أن مضمون الديموقراطية يتغيّر. ومن هنا، فهو يشير إلى مناظرته مع فوكوياما الذي عرّف الفهم الحديث للديموقراطية الليبرالية بأنها قانون الأقلية ضد الأكثرية، لأن الأغلبية يمكنها دائماً التحول إلى الشعبوية والفاشية والاشتراكية، وبالتالي فإنه يجد أن هذه فكرة جديدة تماماً. في مقابل فكرة فوكوياما هذه، يرفض دوغين حقوق الإنسان كأيديولوجية، بحيث إنها تتمحور حول الحرية الفردية لا حرية الشعوب أو المجتمعات. وهو يذهب أبعد من هذا المفهوم الضيّق (الفردي) للحرية، ليعتبر أن الثقافة والهوية الإنسانيتين لا يمكن تقليصهما إلى مستوى الفردانية؛ ففي الثقافات الشرقية، وخصوصاً الروسية من بينها، يعتبر موضوع حقوق الإنسان شأناً جماعياً، منذ عصر القياصرة والكنيسة وصولاً إلى الحكم الاشتراكي. لقد طغت الأيديولوجية الجماعية في الثقافة الروسية، كما هي الحال في الثقافات الصينية والهندية، وإلى حدودٍ معينة في الثقافة الإسلامية، بحسب تعبيره.

ولتوضيح المفاهيم، يقول دوغين إنه عدميّ إذا اعتبرت العدمية رفضاً للعولمة المبنية أو الحاملة للحداثة الغربية، التي لا ينكر أنها عالمية بحدّ ذاتها، لكنّها أنماط غربية تجري عولمتها. والعولمة في مفهومه غربية وحداثية، وتستمد حضورها من قوة الغرب الكبيرة التي لا تزال قادرةً على الدفاع عنها.

على المقلب الآخر، يحاول ليفي الاستناد في تعزيز رؤيته إلى شخصيات منتقاة من التاريخ الروسي، اختارها بعناية، فيشير إلى تقاليد الأديبين بوشكين (1799-1837) وإيفان تورغينيف (1818-1883)، وإلى أندريه ساخاروف (1922-1989) (عالم نووي سوفياتي نال جائزة نوبل للسلام عام 1975) والذين يعتبرهم قد حملوا أفكاراً تؤيد حقوق الإنسان والحريات الفردية، ويشير إلى شخصيات أخرى "واجهت التوتاليتارية في الاتحاد السوفياتي"، معتبراً أنه لا يمكن اقتطاع هؤلاء من التاريخ الروسي، والتحدث عن ثقافة روسية بمعزلٍ عنهم. ويعتبر ليفي أنه قد كرّس جزءاً من حياته "للدفاع عن روسيا ضد العبودية والتوتاليتارية"، متجنّباً الغوص في مناظرة دوغين وفوكوياما.

أما بالنسبة إلى الديموقراطية، فيعتقد ليفي أنها مفهوم معقّد، بحيث إنها قانون الأقلية وقانون الأكثرية أيضاً، وقانون البرلمان. إنها وفق مفهومه هندسة معقدة، تغني نفسها من خلال تطورها في أيامنا. وهو يرى أن الفارق بين الديموقراطية وكل مصادر الذاتية، بما يشمل ذاتية بوتين في روسيا اليوم، هو أن الديموقراطية هي دائماً مفتوحة، للتغيّر وللتطور والغنى...

لكنّ ليفي، وبعد أن كان يتحدث عن المفاهيم العالمية الموحدة التي ينظّر لها، يعود فيشير إلى أن العدمية موجودة في ذاكرة الحرب الوطنية العظمى، وحرب الأوروبيين ضد النازية، وهو إذ يشير إلى أن روسيا تكبّدت في تلك الحرب 24 مليون قتيل، فإنه يعود ليتحدث عن اليهود باعتبارهم شعبه، فيقول: "اليهود قومي أنا، كانوا على وشك التعرّض للإبادة، وأولئك الذين ارتكبوا هذه الجرائم (أي النازيين) يجسّدون العدمية، وهم لم يأتوا من السماء، بل أتوا من أفكار أيديولوجيين، مثل كارل شميدت، وأوسفالد سبنغلر، وستيوارت شمبرلاين، وكارل هاوسهوفر..."، متّهِماً دوغين بأنه معجب بهم، يقتبس منهم ويستوحي من أعمالهم. 

ويذهب ليفي بعيداً في اتهام بوتين ودوغين بالعدمية، من خلال إشارته إلى "مناخٍ من العدمية أدّى إلى قتلى حقيقيين مثل آنا بوليتوفسكايا، وبوريس نيمتسوف، وآخرين (معارضون روس)". ويرى ليفي أن هناك "رياحاً سوداء عدمية، نازية وفاشية، تهبّ على روسيا وحضارتها العظيمة".

وفي ردّه على ذلك، يؤكد دوغين عدمية الفاشية باعتبارها ظاهرة حداثية، بل أبعد من ذلك، يعتبر أن كل حداثة هي مشوبة بالعدمية الخالصة، بما في ذلك الليبرالية والاشتراكية والفاشية. وفي السياق نفسه، يتفق مع ليفي حول جرائم أدولف هتلر، ويذكّر بتضحيات "شعبه في الاتحاد السوفياتي السابق" ومن بينهم اليهود، حيث قاتل السوفيات في الحرب الوطنية لحماية كل الشعوب الذين عانوا، وبالأخص في أوروبا.

لكنه يوضح أن اهتمامه ببعض أفكار هايدغر أو شميدت في الثورة المحافظة في ألمانيا، هو محدد بنواحي الواقعية السياسية وبعض الأفكار الجيوبوليتيكية والأخرى المتعلقة بالتقاليد وانتقاد الحداثة، من دون أن يصل هذا الاهتمام إلى تأييد العنصرية. ويرد دوغين بأنه من هذا المنطلق يعارض الفردانية والديموقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان كأيديولوجية، إضافة إلى معارضته للعنصرية. وهو يعتبر أن العنصرية هي تركيبة ليبرالية أنغلوساكسونية مبنية على الهرمية بين البشر، وهو يقول إن العولمة اليوم ترتكب الجريمة نفسها، لأن الليبراليين والعولميين، بمن فيهم ليفي والأشخاص الذين يدعمون أفكاره، يحاولون اليوم تثبيت قيم عالمية كأنها ببساطة قيم غربية ليبرالية حداثية، الأمر الذي يعتبره بحدّ ذاتية نوعاً جديداً عصرياً ومدنياً من العنصرية. ويعيد السببب إلى كونها تقول إن كل من يقبل المجتمع المفتوح هو شخص خيّر، وكل من يقف ضد المجتمع المفتوح، هو عدو المجتمع. وكل من يتّبع القيم الغربية هو خيّر، وكل من يعارضها، كالتقاليد الإسلامية والصينية والروسية والهندية وغيرها... هو من الشعبويين والفاشيين. إنها -وفق رؤيته- قسمةٌ جديدة وعنصرية جديدة.

عولمة القيم الغربية

يحدّد ليفي نقاط اختلاف كبيرة بينه وبين دوغين، ويعتبر أن فكرة الأخير عن العولمة محدودة. فهي توحيد للتركيبة العالمية (Uniformulation)، لكنها أكثر من ذلك بكثير وفق ما يقوله المفكرون الغربيون، حيث تعني الانفتاح على الآخر، ومدّ جسور، والروابط بين الحضارات، والتصدير والاستيراد، للكلمات والأفكار... والكثير غير ذلك. وهو يرفض الاتهام بأن تكون القيم الغربية نوعاً جديداً من التوتاليتارية، ويرى أن أوروبا حققت مكاسب للبشرية، مثل الحقوق المتساوية بين النساء والرجال، ورفض العبودية والتعذيب الجسدي وغيرها...

وفي المقابل، يشير إلى مضامين كتاب دوغين "الثورة المحافظة"، وخصوصاً في حديثه عن اليهود والجدل الفكري بينهم وبين الآريين، وقول دوغين إن هذا الجدل يعتبر تحدّياً ومناظرة لأبعد من قرن واحد، بل إنه تحدٍ دائم ومستمر، الأمر الذي يصنّفه ليفي في خانة الأفكار العنصرية المعادية للسامية، ولليهود تحديداً، وهو الأمر الذي لم يعتبره مفاجئاً بالنظر إلى تصنيفه دوغين من بين المفكرين المؤيدين للأفكار المتطرفة المستوحاة من مفكرين آخرين "معادين للسامية" وفق تصنيفه، كالمفكر اليميني الفرنسي آلان سورال الذي قدّم أحد كتب دوغين.

"للناس ملائكتهم"

يؤمن دوغين بأن "للناس ملائكتهم"، أو نماذجهم الخاصة، فهم ليسوا فقط مجموع جثث وأجساد، بل أرواح، وينطلق من ذلك ليعبّر عن احترامه وإعجابه بروح الشعب اليهودي، وليشير إلى وجود أصدقاء له من "الحلقة التقليدية في إسرائيل"، ممّن يصفهم بـ"الحلقة التقليدية" الذين يشاطرونه آراءه. ويشير إلى أن هؤلاء "يؤمنون بالله"، على عكس ليفي الذي يعرّف نفسه بأنه يهودي غير مؤمن بالله. ووفق دوغين، فإنّ هذا بالتحديد ما يمكن اعتباره معاداة للسامية، فاليهود يعتقدون أنهم شعب الله، وهذه عصارة وجودهم، وهم من دون الله يفقدون أساس دينهم ومهمتهم ومكانهم في التاريخ. ويضيف دوغين أنهم ضدّ أيّ تصنيف أو هرمية بين الناس، بل مع تأكيد الاختلاف بينهم، وبين ملائكتهم أو أرواحهم. وبذلك، فليس هناك حضارة أفضل من غيرها، وهنا تكمن مشكلته مع العولمة التي لا تشرك كل الحضارات ولا تسمح لها بالدفاع عن نفسها، ولا تأتي بما هو مفيد من كل حضارة، ولا تسمح بالحوار بين الحضارات، بل هي تحدد القيم العالمية كانعكاس لما يعتقد الغرب أنه جيدٌ أو سيّئ. وهكذا تصبح الرأسمالية، اقتصاد السوق، أيديولوجية حقوق الإنسان، الحرية الفردية، مبدأ المتعة Hedonism، التكنوقراطية، كل هذه المكوّنات للتجربة الغربية الاجتماعية تمّ عكسها ومحاكاتها على المسرح العالمي، وسُمّيت عالمية. بالمختصر، فإن كل ما هو غربي تمّت تسميته بالعالمي، وهذا ما يعارضه دوغين الذي يؤكد أنه ضدّ التوتاليتارية الاشتراكية وأنه لا يدافع عن الشيوعية، وهو ضد الليبرالية أيضاً، وضدّ المفكرين الروس الذين يعتزّ ليفي بأفكارهم، بحيث يعتبرهم دوغين "غربيين أيديولوجياً"، وهو يستثني من هؤلاء سولجينتسين وتورغينيف (أشار إليهما ليفي)، ويعتبر أنهم من صلب الثقافة الروسية. وفي مقابل إشارة ليفي إلى مفكّرين روس يعتبر أنهم يناقضون أفكار دوغين الأوراسية، فإن الأخير يشير إلى إعجابه بمفكرين غربيين مثل هانّا آرنت التي قالت إن التوتاليتارية ظاهرة حداثية، وليست ظاهرة تقليدية.

يعبّر ليفي عن خوفه عند قراءة دوغين والمفكرين الأوراسيين الآخرين، حيث "يلهمون بوتين"، في حين أنهم ينظرون إلى الحضارات كـ"بلوكات" منفصل بعضُها عن بعض، وهو يرى أنهم مهووسون وعدميون تفوح من أفكارهم رائحة الموت، ويعتقد أن دوغين يتلاقى في أفكاره مع صامويل هنتنغتون حول صدام الحضارات، ويحمّل هذه الأفكار مسؤولية "إزهاق الأرواح في أوكرانيا وسوريا".

لكنّ دوغين يؤكد تقديره لهنتنغتون، ويعتبر أن رؤيته أكثر دقة من رؤية فوكوياما، معتبراً أن الحضارات ستستمر بلعب أدوارها في التاريخ، لكنه يوافق على أنه "في رؤية هنتنغتون هناك نوع من النسخة المبسّطة للحضارة"، بينما هو كرّس 24 كتاباً لدراسة الحضارات، محاولاً إيجاد الفوارق بينها. ويعتقد دوغين أنّه لا يمكن مدّ جسور بين الحضارات إذا لم يتعرّف بعضها إلى تركيبة البعض الآخر، ويرى أن الغرب لا يفهم الآخر على أنه شيء إيجابي، بل يعتقد أن الجميع متماثلون، وبالتالي فهو يوجد الخيالات لا الجسور، وقد خصّص أحد كتبه لمحاولة فهم الآخر "The Otherness". وفكرته هذه تُختصر بضرورة دراسة الحضارات وفهمها قبل مدّ الجسور معها.

يتغنّى ليفي بنشاط أقسام الدراسات حول الآخرين The Otherness في الجامعات الأميركية، ويعتبر ذلك من ملامح عظمة أميركا، التي بحسب رؤيته لديها "اهتمام بالآخر، ونظرة داخلية في جسم الآخر وروحه". وفي المقابل، يشير دوغين إلى أنه موضوع في لائحة العقوبات الأميركية، ولم يزر أميركا منذ العام 2005.

المواجهة في أوكرانيا

يسأل ليفي دوغين عن رأيه في "العنف الذي تمارسه دولته (روسيا)"، وفي السيطرة على القرم، وفي أدائها في شرق أوكرانيا، ويقول إنه كان يشارك في التظاهرات ضدّ الاحتلال الفرنسي للجزائر عندما كان بعمر 14 عاماً، وأيضاً عندما شنّت أميركا حربها على فيتنام.

لكنّ دوغين يذكّره بأنه "تأسّف" على معارضته للحروب الأميركية في كتابه، وبدفاعه عن الإمبراطورية الأميركية والإمبراطورية الليبرالية العالمية، ويضيف أنه شخصياً ليس وطنياً روسياً ولا يدافع أوتوماتيكياً عن الحكومة الروسية، لكنّه يعتبر نفسه مدافعاً عن الحضارة الأوراسية.

وبالنسبة إلى القضية الأوكرانية، يشدّد دوغين على أن روسيا وأوكرانيا يعتبران بلداً واحداً بحضارتين، حيث إن أوكرانيا هي مهد الحضارة الروسية، (الأوكرانيون، آباؤنا المباشرون)، وهم بحسب تعبيره "روسٌ خلّص أكثر منّا (من الروس)، حيث إنهم لا يزالون يعيشون في مهد تقاليد روسيا، بينما هاجر الروس إلى الشرق، ولذلك فقد تأسّست أوكرانيا وفق نظرته على ميلين، الميل الأول هو ميل لدى الإمبراطورية الروسية ضد تركيا التي كانت تحتل منطقة "روسيا الجديدة Novarussia" (القرم وشرق أوكرانيا حالياً)، والميل الثاني هو الميل إلى استخدام العنف في الجزء الغربي من قبل الروس الغربيين الذين يطلق عليهم اليوم "الأوكران"، لأخذ أجزاء من بولندا، وبالتالي فإن "العنف الروسي في الجوار أنتج أوكرانيا"، ويضاف إلى ذلك جزء ضمّه ستالين من هنغاريا، الأمر الذي يجعل من أوكرانيا وحدة سياسية مجمعة ظهرت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وهو يعتبر أنه كانت هناك "فرصة لدى أوكرانيا الجديدة لتشكيل هوية وطنية، كما هي الحال مثلاً بالنسبة إلى الهوية البلجيكية، مع شعبين يتعايشان ويحترم أحدهما الآخر"، بما يشمل شعب الشرق الأوكرانيّ وشعب الغرب الأوكراني، وإيجاد توازن بينهما.

لكنّ المشكلة بحسب دوغين أن الجانب الغربي الذي كان ليفي يحاول إلهامه في "الميدان" ليخرج من العلاقة مع روسيا، تدخّلت الأخيرة لتحميه من أوكرانيا الذي حاول الطرف الآخر إخضاعه. ويعتبر أن روسيا ارتكبت خطأً "بعدم تحرير شرق أوكرانيا مع القرم"، وبرأيه كان يجب "إعادة خلق أوكرانيا كجسر بين روسيا وأوروبا، بناءً على احترام الهويتين". الخطأ هو أن روسيا أخذت القرم فقط، أو دونباس فقط، بينما كان عليها أن تعيد بناء أوكرانيا عندما كان يانوكوفيتش رئيساً، بحسب رؤية دوغين.

من ناحيته، يرى ليفي أن أوكرانيا موجودة قبل روسيا بألف عام، وبالتالي لا يمكن نسبتها إلى روسيا، حيث إن الأمير فولوديمير كان أمير كييف لا موسكو. وفي السياق نفسه، يقول دوغين إن هذا هو "تاريخنا المشترك، إنها روسيا".

يحاجج ليفي بأنه وفق هذا المنطق، فإن كل الدول جديدة، والأفضل أن تُحترم كما هي وبـ"عدم كمالها"، ووفقاً للقوانين الدولية التي يمكنها حماية الجميع من السقوط في كارثة كتلك التي أحدثها هتلر وأزهقت فيها أرواح "حوالى 25 مليون قتيل من الجنود الشجعان" من روسيا وأوروبا. وهو يرى أن "هناك هندسة أمنية بُنيت بعد الحرب الباردة، بالتعاون بين الغرب وروسيا"، وأنه يجب حماية هذه الهندسة غير المثالية، ولكن الحاسمة في الوقت نفسه "من أجل أطفالنا". ويعتبر أن ما يفعله بوتين في القرم، وما يفعله في شرق أوكرانيا وسوريا، "هو ضد مصالح أولادنا وأحفادنا".

عودة ظهور الحضارات مع انهيار الأحادية القطبية

يعارض دوغين هذه الرؤية، ولكنه يوافق على مبدأ الحاجة إلى قانون دولي يعكس توازن القوى. فعلى سبيل المثال، القانون الدولي الحالي تأسّس بعد انتصار الغرب والاتحاد السوفياتي معاً على هتلر، وعندما انهارت الشيوعية والاتحاد السوفياتي، كانت هناك محاولات لخلق القانون الدولي المتمحور حول الغرب، تأسيساً على النصر في الحرب الباردة. ويقول إن هذا القانون وتوازن القوى العالمي، "نحاول تحدّيهما، وتأسيس قانون دولي جديد وهندسة عالمية تحترم الحضارات"، ويعرب عن اعتقاده بأننا "مقبلون على نهاية النظام الأحادي القطب المؤسّس على هذا النصر الأيديولوجي والجيوبوليتيكي، لأن نهاية النظام الأحادي القطب تحدث الآن"، لذلك فإن الحضارات تعود إلى الظهور، ولا يمكننا وضع هذه الحضارات في النظام القديم المنهار للدولة الوطنية، بل إن الحاجة إلى تصحيح ذلك تبرز الآن، بصورة متعدّدة الأقطاب. ويعبّر دوغين عن إعجابه بالأنثروبولوجية التقليدية لدى فرانز بواس Franz Boas والخط الذي يمثّله، وكلود ليفي ستروس، ويعتبرهما معلّمَيه. ولكنه يأخذ على هذه التقاليد التعددية الأنثروبولوجية الأميركية والفرنسية، وكونها لا تنعكس في سياسة الدول الغربية، أو أنها تنعكس بطريقة محرّفة. وهو يعتقد بوجود "تعارض بين هذه الأفكار الأنثروبولوجية في الجامعات الأميركية والفرنسية وبين شكل النيو إمبريالية المتطرفة لترويج المصالح الأميركية على المستوى العالمي بالسلاح".

الإمبراطورية أم الملوك الخمسة؟

بالنسبة إلى بوتين، فإن دوغين يقول بعدم إمكانيّة لومه وحده بالنسبة إلى الأزمة السورية، بل إنه يشير إلى نشاط ليفي نفسه في سوريا واقتراحه إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد من خلال دعم أطراف متطرفين في الحرب الأهلية السورية، ويشير في السياق نفسه إلى كتاب ليفي "الإمبراطورية والملوك الخمسة"، ويعتبر أن ليفي يقف إلى جانب الإمبراطورية، بينما يقف هو (دوغين) إلى جانب الملوك الخمسة.

ويعتقد ليفي أن "التعدّدية القطبية ليست شيئاً جديداً، بل إنه كان هناك دوماً تعدّدية قطبية، وقبل سقوط الاتحاد السوفياتي كان هناك نظام تعدّدي كبير، بين أميركا وروسيا والصين..." ويعتبر أنه "لا يمكن إيجاد حزب يميني فاشي واحد في أوروبا غير مبارك على الأقل أو مموّل من روسيا، ولا يمكن إيجاد أزمة واحدة في أوروبا ليس لروسيا يد فيها"، كما يشير إلى اتهام روسيا بالتدخل في الانتخابات الأميركية، ويعتبر أن الأزمتين في ليبيا وسوريا ليستا حروباً أهلية، بل هما حروب ضدّ المدنيين.

الإعلام والصراع الأبستمولوجي

لا يرى دوغين جدوى في التعليق على "مبالغة" ليفي حيال هذه الاتهامات، ويشير إلى ثبوت عدم وجود تدخل روسي لمصلحة ترامب، بينما ثبت وجود تدخل لمصلحة هيلاري كلينتون من قبل بعض الأوليغارشيين الروس. ويقول إنه بالنسبة إلى تمويل الحركات اليمينية في أوروبا، فهناك شائعات ومنشورات عن تدخّل روسي في هذا المجال في كاتالونيا، لكن ليس هناك إثباتات. ويؤكد أنه يجب التعاطي مع حقائق مبنية على معلومات حقيقية، لأنه كما يقول غي ديبور: "من يسيطر على الميديا يسيطر على الوقائع".

لكن ليفي لا يقبل الاتهام بوجود سيطرة على الإعلام، بل يعتبر أن واحدة من فضائل الغرب هي أن القرّاء والصحافيين هم من يسيطرون على الميديا، ويشير إلى النقاش الدائر في فرنسا حول ملكية صحيفة Le Monde واقتراح أن تطرح المؤسسة للصالح العام، وأن تصبح ملكاً للقرّاء.

في مقابل هذا الرأي، يحاجج دوغين بأن الموضوع لا يتعلق بالملّاك، بل بالـ Epistemology (نظرية المعرفة)، ومبدأ ميشيل فوكو، والسؤال الكبير: من يسيطر على المعرفة أو على الأبستمولوجيا، والماس ميديا (إعلام الجماهير)؟ ويذكّر بقول مستشار الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران إنه لا يستطيع الوصول إلى خطة لدعم الرئيس بسبب مقاومة آتية من "لا مكان"، ويستنتج وجود مركز سيطرة على المعرفة. ويعتبر دوغين أن هناك "نضالاً معرفياً أبستمولوجياً"، ونظام وقائع مختلقاً أو نظام حقائق مختارة، حقائق منحازة، يتم شرحها بطريقة منحازة، ويرى أنه عندما تحاول روسيا فعل الأمر نفسه، وتخلق إعلامها الجماهيري الخاص (روسيا اليوم، سبوتنيك...) تُلام وتُتّهم بإنتاج أخبار مزيّفة، ويخلص إلى استنتاج أن الطرفين (روسيا والغرب) ينتجان أخباراً مزيفة.

أما ليفي فيرى أنه عندما تمّ تأسيس "روسيا اليوم" تمّ تأسيسها عمودياً، ووفق تسمية دوغين (الديموقراطية العمودية)، ويعتبر أنه عندما يكون هناك ­"صراع تفسيرات في الغرب بين لوموند أو لوفيغارو، بين نيويورك تايمز وساينس مونيتور... فهو صراع بين محترفين وأفراد ومحاولات صادقة لإيجاد الحقيقة، وليس من ميديا دعائية آتية من سماء السلطة، ويعتبر ذلك معبّراً عن تفوّق الغرب"، ويضيف أننا اليوم نعيش خارج الزمن "الذي تأتي فيه الحقيقة من السماء، كما عند أفلاطون"، بل "يجب أن يُبحث عنها بصدق ونزاهة، ومن دون تدخّل الدولة، من الكرملين أو من البيت الأبيض". ويعتقد أنه عندما تطبّق روسيا ذلك، فلن يعود غربياً، بل سيصبح من أجل الخير العام.

يردّ دوغين على أفكار ليفي بالتذكير بشكل الديموقراطية التي يريدها الغرب لروسيا، حيث زار جورج بوش الابن موسكو في وقت الاجتياح الأميركي للعراق، وقوله: "كونوا صبورين، سوف يكون لديكم ديموقراطية كما العراق"، وجواب بوتين له: "شكراً جزيلاً، سوف نجد طريقة أخرى لنبني مجتمعنا". 

ويشير دوغين إلى أن الصورة التي صنعها ليفي جميلة، "ولكن لا علاقة لها بالمجتمعات الغربية الحديثة"، التي يرى أنها توتاليتارية بصورةٍ كاملة عند وصف الحقائق ليس من أجل مجموعة صغيرة من ملاك وسيلة إعلامية ما أو أخرى، بل من أجل نخبة سياسية". ويؤكد أن الغربيين أفلاطونيون بهذا المعنى، و"هم بطريقة ما أفلاطونيون، يأخذون الحقائق من أيديولوجيتهم الليبرالية". ويشير إلى اعتراض الناس في الغرب على ذلك. وفي السياق نفسه، يعترف ليفي بأنَّ "الليبرالية تواجه الأزمة نفسها للمصداقية"، كما واجهتها في الثلاثينيات وفي بدايات القرن العشرين، ويكمل اعترافاته ليؤكد رأي دوغين بوجود صراع حضارات حقيقي اليوم، ولكنه يميّزه عن صراع الحضارات الذي يقول به دوغين في كتبه، بل يعتبر أن الصراع الذي يدور اليوم حول العالم هو "بين أولئك الذين يؤمنون بحقوق الإنسان والحرية، بحقّ الجسد في عدم التعذيب والقتل، وهؤلاء السعداء باللاليبرالية وعودة التوتاليتارية، والعبودية".

احترار الميدان على وقع احترار الأفكار

وفي ظل هذا الصراع الفكري الذي يتناقض في معظم جوانبه، ترتفع حرارة الميدان في أوكرانيا، وتتوسّع مساحة الصراع لتعبّر عن ميلين متناقضين؛ ميل غربي للحفاظ على الهمينة على النظام الدولي وإعادة روسيا إلى التفكير في أمنها واستقرارها الداخلي، ومحاصرتها بتوسيع حلف شمال الأطلسي، وتزنير حدودها ببطاريات الصواريخ وراداراتها، ومنع القوى الصاعدة وفي مقدّمتها روسيا والصين من لعب دورٍ عالمي فاعل ومنافس للمصالح الغربية، في مقابل ميل روسي مدفوع برغبة عارمة إلى استعادة الدور العالمي، وحفظ الأمن الاستراتيجي في محيطها، وحماية أمنها القومي، ورفض الأحادية القطبية.

ومع أن نظرية دوغين تتوسّع إلى حدّ رفض العولمة والنظام العالمي الحالي بمتفرعاته الاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بأنماط العيش، وتعزيز الفردانية وفرض القيم الغربية وتعميمها كنموذجٍ أوحد، فإن سياق الأحداث لا يشير بصورةٍ مؤكدة إلى حتمية مطالبة القيادة الروسية بتأسيس نظامٍ عالميٍ جديد، بل إن المواقف الروسية المعلنة والمشار إليها في وثائق التخطيط الاستراتيجي الروسي، وفي تصريحات القادة الروس، تشير إلى مطالب بتعديل التوازنات في النظام العالمي الحالي، والاعتراف بالتعددية القطبية داخله، وما يتفرّع منها من احترام لمصالح الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي. ويتعزز هذا الرأي من خلال عدم السعي الصريح من قبل الروس لتغيير المؤسسات الدولية الممثلة لهذا النظام، وأبرزها الأمم المتحدة بكل هيئاتها، ومنظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد والبنك الدوليان... مع ثبوت الميل الصيني والروسي إلى تأسيس هياكل جديدة تعبّر عن التغيرات التي تطال النظامين الاقتصادي والمالي الدوليين، وعن التغيرات التي تطال موازين القوى السياسية والعسكرية على المستوى الدولي.

وتحت هذا الاستنتاج، تُبرز الحرب في أوكرانيا ضرورتين متناقضتين: الأولى، هي ضرورة تحقيق الانتصار بالنسبة إلى الروس، وذلك لإثبات المكانة والقدرة وحماية الأمن وتحقيق النفوذ المطلوب في مجالها الحيوي. والثانية، هي ضرورة منع الانتصار الروسي بالنسبة إلى الغرب، للحفاظ على الهيمنة الغربية وانعكاساتها. وبين هاتين الضرورتين، يمكن للحرب أن تنفلت من حساباتها المنطقية، وأن تنزلق إلى مواجهة عالمية مجنونة، تحاكي جنون الحربين العالميتين، لكن بتفاعلات مختلفة، وأسلحة أكثر تنوّعاً وفتكاً، يمكنها في سيناريو كارثيّ تدمير العالم.