معركة إعمار غزة (2-2)

لا شك في أن الموقف العربي -وخصوصاً دول الفائض المالي في الخليج- سيكون بمنزلة رمانة الميزان، سواء من حيث الكميات المالية أو التوقيت الزمني.

  • تحتاج عملية إعادة الإعمار في غزة إلى نمط مختلف من ترتيب الأولويات.
    تحتاج عملية إعادة الإعمار في غزة إلى نمط مختلف من ترتيب الأولويات.

بقدر ما تحتاج إعادة إعمار غزة إلى عشرات المليارات من الدولارات قدرناها بنحو 43.3 مليار دولار على الأقل، فهي تحتاج إلى المعدات ومواد البناء وتجهيزات المستشفيات والمعامل وتجهيزات المدارس ومواد الإغاثة العاجلة، وخصوصاً الأغذية والأدوية والوقود، وآلات محطات الكهرباء والصرف الصحي وتحلية المياه ومضخات رفعها من الآبار ومعدات المخابز.. فمن سوف يدخلها؟ ومن أين؟ من معبر رفح المصري – الفلسطيني المغلق بأوامر إسرائيلية وأميركية أم من المعابر الثلاثة مع الكيان الصهيوني؟

1-معبر بيت حانون المسمى إسرائيلياً "معبر إيريز"، وهو المعبر البري الوحيد لحركة الأفراد من قطاع غزة إلى فلسطين المحتلة والضفة الغربية المحتلة.

 2-معبر المنطار المسمى إسرائيلياً "معبر كارني" الذي تأسس وافتتح بعد اتفاقية أوسلو عام 1993، وذلك من أجل استيراد وتصدير البضائع من وإلى غزة، وكان يديره الجانبان: الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية. وقد أغلق عدة مرات، حتى تم إغلاقه نهائياً عام 2011. 

3-وأخيراً معبر كرم أبو سالم المسمى إسرائيلياً معبر "كيرم شالوم"، وهو معبر حدودي على المثلث الحدودي بين قطاع غزة ومصر وفلسطين المحتلة، ويستخدم لمرور الشاحنات التي تحمل البضائع إلى قطاع غزة.

أما معبر رفح مع مصر، وهو المعبر الحدودي الوحيد بين قطاع غزة ومصر، فهو يقع رسمياً وشكلياً تحت السيطرة الفلسطينية والمصرية الكاملة، فيما في الحقيقة - وكما أظهرته محرقة غزة الأخيرة - هو مسيطر عليه فعلياً وسياسياً وأمنياً من جانب "إسرائيل"! 

وزد عليها في الأسبوع الثاني من شهر مايو/أيار الجاري أن قوات "الجيش" الإسرائيلي قامت باحتلاله عسكرياً من الجانب الفلسطيني، وسيطرت على ممر صلاح الدين (فيلادلفيا)، من دون أن يتحرك النظام والحكم في مصر بإجراءات مضادة سوى ببيانات لفظية. 

على أي حال، لا شك في أن عملية إعادة الإعمار -بعد تلك المحرقة التي لم يشهد تاريخ الحروب الحديثة مثيلاً لها- تحتاج إلى نمط مختلف من ترتيب الأولويات من منظور علم السياسة وعلم الإعمار وعلم الاجتماع.

ومن أبرز تلك الأولويات: 

1- إعادة إعمار المدارس، سواء تلك التي أقامتها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا)، أم تلك المدارس الحكومية أو الخاصة لإنقاذ أطفالنا في غزة المحرومين من التعليم، والبالغ عددهم نحو 608 ألف طالب وطالبة من حقهم بالتعليم المدرسي، ومن حالات التيه والضياع. 

2- يتزامن معها مباشرة المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية والطبية. 

3- إعادة بناء وإعمار المخابز وإنتاج الخبز وشبكات توزيعه.

4- وبعدها محطات المياه وتحلية مياه البحر.

 5-ومحطة الكهرباء وشبكات التوزيع. 

6- ومحطات الصرف الصحي والنظافة العامة والبيئة (القمامة المتراكمة). 

7- بعدها، يأتي دور الوحدات السكنية للأهالي والنازحين والمشردين، إذ إن هذا الشعب البطل يستطيع - برغم قسوة وبشاعة ما جرى - أن يتحمل ولو لشهور إضافية البقاء في الخيام ووسط ركام بيوتهم المدمرة. 

8- أما المنشآت الحكومية والمنشآت الاقتصادية الصناعية والتجارية والخدمية، فتأتي في الترتيب اللاحق.

 9-وبالمثل مباني الجامعات والمعاهد التعليمية العليا. 

والآن، ما تحديات إعادة الإعمار؟ 

أشرنا من قبل إلى مجموعة من الصعوبات والعوائق التي سوف تواجهها عمليات إعادة الإعمار، ونعني بها تحديداً مواقف الدول والحكومات والمنظمات الإقليمية والدولية. 

أولاً، الكيان الإسرائيلي

لا شك في أن أكبر العوائق والتحديات التي سوف تواجهنا في عملية إعادة الإعمار هو موقف النظام العنصري الصهيوني الذي مارس القتل والذبح والتدمير والتهجير القسري للسكان داخل القطاع والرغبة في التهجير القسري إلى خارج القطاع بما لم يحدث في تاريخ الحروب، سواء قبل إصدار الأمم المتحدة اتفاقيات حقوق الإنسان عام 1948 أو اتفاقيات جنيف الأربع وملاحقها عام 1949 أو بعدها. 

نكتشف أن هذا الكيان العنصري لن يكتفي بما قام به من جرائم حتى لو جرى الاتفاق على وقف لإطلاق النار، فسوف ينتقل (بعدما فشلت خطته في تهجير السكان والقضاء على حركات المقاومة الوطنية المسلحة في غزة واغتيال أو القبض على قياداتها) إلى مرحلة جديدة تقوم على عمليات القصف المتكرر بين الحين والآخر على أهداف داخل القطاع بذريعة مطاردة قادة المقاومة أو تدمير ما يشتبه في أنه موقع عسكري أو يُستخدم لأغراض شبه عسكرية، وهو ما أطلق عليه جنرالاته وشركاؤهم الأميركيون "المرحلة الثالثة" من العملية العسكرية الإسرائيلية في القطاع منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهذا يعني بوضوح أن قطاع غزة وسكانه سيظلون تحت النار والقصف المتكرر والمتقطع من الجو والبحر والبر ما دامت هذه الجولة من الصراع لم تنتهِ باتفاق سياسي دولي ترعاه كل الدول الكبرى والأمم المتحدة. 

الرؤية الإسرائيلية ترى أن من غير مصلحتها إعادة الإعمار لسنوات طويلة، فربما ينجح هذا الوضع القاسي في تحقيق الهدف الاستراتيجي لهذه المحرقة بتنفيذ "التهجير الطوعي" أو على الأقل تأخير الإعمار وإبطاء تنفيذه لأطول فترة زمنية تجبر فصائل المقاومة وسكان قطاع غزة والإدارة الجديدة لغزة (سواء أكانت هذه الإدارة من المقاومة أم من القريبين منها أم من غيرها) على الانشغال لعشر سنوات أو أكثر في عمليات إعادة الإعمار ولملمة الجراح الاجتماعية والنفسية والاقتصادية لشعب غزة البطل، وهو ما يضمن للكيان الإسرائيلي فترة هدوء على الجبهة الجنوبية لسنوات طويلة قادمة. 

ثانياً: الولايات المتحدة 

تتطابق السياسات والأهداف الاستراتيجية لحرب الإبادة والمحرقة الجارية في غزة بين الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، فيما قد يختلفان في بعض التفاصيل والتكتيكات. لذا، فإنَّ الموقف الأميركي من إعادة إعمار غزة سوف يتفق في الأغلب الأعم مع الموقف الإسرائيلي، باستثناء الرغبة الأميركية في استخدام تمويل عمليات إعادة الإعمار وفقاً لإيقاع الوصول إلى موقف سياسي في غزة، سواء بالتنازلات المطلوبة من قوى المقاومة الفلسطينية أو من جانب استخدام سلطة محمود عباس.

وسوف تمارس الولايات المتحدة الضغوط على الأطراف الممولة لعمليات الإعمار، سواء الأوروبية أو العربية الخليجية، كما سيكون الفتح البطيء والتدريجي لمعبر رفح المصري والمعابر الصهيونية أداة من أدوات الضغط الأميركي على شعب غزة والمقاومة الوطنية والإسلامية فيها.

ثالثاً: الأمم المتحدة ومنظماتها 

رغم أن منظمة الأمم المتحدة، بدءاً من قمة جهازها (الممثل في مجلس الأمن والجمعية العامة)، ومؤسساتها الفرعية (مثل الصليب الأحمر الدولي، ومنظمة الصحة العالمية، وبرنامج الأغذية العالمية، ومنظمة الطفولة "اليونيسف"، ومنظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأنروا")، أثبتت للمرة المئة عجزها عن إدارة هذه الأزمات بكفاءة وفاعلية، فإن هذه الهيئة ومنظماتها العاملة ربما تنشط في تقديم الخدمات المتاحة لمواردها المالية وإزالة الغبار والركام الذي غطى عليهما طوال المذبحة والمحرقة التي جرت في القطاع على مرأى العالم وسمعه. 

صحيح أنها كمنظمات إغاثية جرى حصارها وتجميد نشاطها –وخصوصاً الأونروا– في محاولة للانفراد الأميركي والإسرائيلي بالقطاع وسكانه، بيد أنَّ المرجح أن هذه المنظمات سوف تتلقى في الفترة اللاحقة لوقف إطلاق النار بعض المساعدات من كثير من الدول التي تعاطفت مع الشعب الفلسطيني في هذه المحنة والمحرقة، سواء من دول وحكومات في أميركا اللاتينية (التي أبدت تعاطفاً وتأييداً مشرفاً للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها فنزويلا وكوبا وكولومبيا والبرازيل والبيرو وبوليفيا وتشيلي والمكسيك)، ومن دول أخرى في أفريقيا (في مقدمتها جنوب أفريقيا)، ومن حكومات دول كالصين وروسيا ودول البريكس. 

رابعاً: الموقف الأوروبي 

أما الموقف الأوروبي، فسوف يعتمد أكثر على إعادة إحياء دور وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) وزيادة حصتها في المعونات والمساعدات من أجل إعادة بناء البنية التحتية داخل قطاع غزة، وتحديداً المدارس والمستشفيات والمخابز وبعض الوحدات السكنية المدمرة جزئياً أو كلياً، وخصوصاً أن الزخم الشعبي في المدن الأوروبية المؤيدة للشعب الفلسطيني وقضيته والمناهضة لسياسات الإبادة الجماعية التي ارتكبتها "إسرائيل" في القطاع أثر في سياسات بعض الدول الأوروبية، مثل أيرلندا وإسبانيا وبلجيكا وسلوفينيا واسكتلندا والنرويج وغيرها من الدول والحكومات، وإن ظلت مراكز القرار الكبرى في أوروبا مثل ألمانيا وفرنسا وإنكلترا تحت سيطرة اليمين الصهيوني والعقل السياسي الاستعماري. 

ورغم ذلك، فإن هذه المساعدات الأوروبية لن تكون كافية أبداً لإنقاذ الموقف الخطير الذي يعيشه الشعب الفلسطيني البطل في قطاع غزة، وخصوصاً إذا أدركنا أن هذه الدول الأوروبية (سواء المتعاطفة مع القضية الفلسطينية الآن أو تلك الغارقة في التبعية للموقف الأميركي والصهيونية) سوف تربط كثيراً من مساعداتها بسلطة محمود عباس التي سقطت سقوطاً مروعاً في أثناء معركة طوفان الأقصى. ومع ذلك، فإن بعضاً من تلك المساعدات سوف تصل بشكل أو بآخر إلى قطاع غزة. 

خامساً: الموقف العربي والإيراني 

لا شك في أن الموقف العربي -وخصوصاً دول الفائض المالي في الخليج- سيكون بمنزلة رمانة الميزان، سواء من حيث الكميات المالية أو التوقيت الزمني.

وهنا، فإن بعض الحكومات العربية التي لم تتورط في حرب الإبادة بصورة مباشرة (ممارسة الحصار) أو غير المباشرة (تقديم الدعم والمساعدة لكيان الاحتلال الصهيوني)، هذه الدول، مثل قطر والجزائر والكويت وعمان والعراق وليبيا، قد تسارع إلى تقديم المساعدات والمعونات المتاحة لديها والمناسبة لقدراتها المالية. 

وكذلك، إن الجمهورية الإسلامية في إيران -برغم الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها وحالة الحصار الإمبريالي الغربي المفروض عليها- لن تتأخر في تقديم مساعداتها المالية والعينية، من دون أن نرنو بالبصر إلى بقية الدول والحكومات "العربية" الأخرى في الخليج العربي، التي قد تسارع إلى تقديم بعض المساعدات المالية أو العينية من باب رفع العتب عن صمتها أو مساندتها الخفية للكيان الإسرائيلي.

الموقف الخليجي متفاوت ومتباين في الاهتمام والعطاء، فباستثناء قطر والكويت وعمان، فإن بقية دول الخليج سوف تتعامل مع قضية الإعمار بصورة جزئية متمثلة في إعادة بناء وإعمار بعض المستشفيات والوحدات الصحية أو الطرق والبنية التحتية، وذلك طبقاً لما يمليه الموقف الأميركي المرتبط كلياً وجزئياً بالرؤية الإسرائيلية والموقف الإسرائيلي الحريصين على إبقاء هذا الوضع المدمر للقطاع لأطول فترة زمنية ممكنة حتى تستقر الأوضاع على شكل التسوية المطلوبة أميركياً وإسرائيلياً بشأن إدارة القطاع والإشراف على شؤونه. 

في المقابل، ربما نجد بعض الاهتمام التركي بتقديم ما يستطيع تقديمه من أجل إعمار قطاع غزة، بيد أن قدرة تركيا المالية والقيود المفروضة على معابر الحدود، وخصوصاً معبر رفح، قد لا تسعفها في تحقيق الكثير والسريع في هذا المجال. كما قد نجد مساندة ودعماً من بعض الحكومات الإسلامية مثل ماليزيا وإندونيسا.

سادساً: موقف الصين وروسيا ودول البريكس

برغم التأييد السياسي والدبلوماسي الذي حظيت به القضية الفلسطينية -سواء قبل معركة طوفان الأقصى أو أثناءها- من هاتين الدولتين العظميين، فإن الحاجة إلى دعم ومساندة اقتصادية ومالية سريعة وجادة مطلوبة أكثر من أي وقت مضى. صحيح أن كلا الدولتين مشغول بمشكلات كبرى جيو – استراتيجية ضد التحالف الغربي الاستعماري (أوكرانيا – تايوان) وتشابكاتهما الاقتصادية، بيد أنهما تدركان أن ما يجري في الشرق العربي والقضية الفلسطينية هو بمنزلة رصيد قوي في المعركة الكبرى لتصحيح الخلل الاستراتيجي في ميزان العلاقات الدولية والنظام الدولي الراهن. 

لذا، قد يكون من المناسب أن تدفع هاتان الدولتان بنك التنمية الجديد التابع لمنظمة البريكس - والتي تضم 10 دول ولديها قدرات اقتصادية هائلة - إلى تبني دور تاريخي للمشاركة في إعادة إعمار جزء من البنية التحتية المدمرة في غزة، وهي قادرة على إنجازها في فترة زمنية قصيرة نسبياً. 

إنها معركة الإنسانية في مواجهة الهمجية والعنصرية والنازية الجديدة، وهي بالقدر نفسه معركة المقاومة بالمعنى الواسع للكلمة في مواجهة الغطرسة والهيمنة الأميركية والغربية، وفي صحبتهم الكيان الصهيوني. 

اقرأ أيضاً: معركة إعمار غزة (1-2)