الأتاوات و"المكتب السرّي".. من يتحكم بأسواق وتجّار دمشق؟
يتعرّض تجار دمشق اليوم لابتزاز مالي متصاعد من الفصائل المسلحة ولجنة ظل اقتصادية، ما عمّق الركود ودفع كثيرين للتخلي عن تجارتهم أو مغادرة البلاد.
-
الأتاوات و"المكتب السرّي".. من يتحكم بأسواق وتجّار دمشق؟
"أيام الأسد كنا ندفع مرة وحدة لجهة معروفة، أما اليوم ندفع 10 مرات لفصائل لا نعلم من تكون"؛ بهذه الكلمات بدأ "أبو خالد" –اسم مستعار- التاجر في سوق "الحميدية" وسط العاصمة السورية دمشق، حديثه عن الواقع الذي يعيشه تجار دمشق منذ سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، وكيف تحوّل السوق التجاري إلى مكانٍ لجباية الأموال من قادة الفصائل التابعة للحكومة الانتقالية.
يقول "أبو خالد" للميادين نت: "لطالما كان التخلص من سطوة رجال المكتب السري التابع للقصر الجمهوري أيام نظام الأسد حلماً يراود التجار في دمشق، فذلك المكتب كان مسؤولاً عن فرض الأتاوات على التجار ورجال الأعمال، عبر إجبارهم على دفع مبلغ مالي شهري، ما دفع العديد من التجّار لإيقاف أعمالهم ومغادرة البلاد".
ويتابع "أبو خالد": "النشوة برحيل النظام سرعان ما تبدّدت، وتحوّل الحلم إلى كابوس، فالتجّار وجدوا أنفسهم تحت رحمة مكتب سري جديد، يقوم بجباية الأموال منهم تحت عنوان التسوية الاقتصادية، فكل تاجر كان يعمل داخل دمشق أيام نظام الأسد مجبر على دفع أموال للمكتب السري حتى يتم السماح له بالبقاء، وفي حال الرفض يتعرّض للاعتقال بتهمة أنه من فلول النظام السابق".
لا تقتصر معاناة تجار دمشق على دفع الأموال للمكتب السري، بل وصل الأمر إلى قيام قادة الفصائل المسلحة التابعة للحكومة المؤقتة بفرض الأتاوات بالقوّة على رجال الأعمال والتجّار وأصحاب المحلات. ويقول "أبو خالد": "كل أسبوع يأتي إلى السوق فصيل مسلح ويطلب من التجار دفع الأموال أو إغلاق محلاتهم، وعند إبلاغهم بأن المكتب يحصل على الأموال، يخبرهم قائد الفصيل بعدم علاقته بأيّ طرف آخر، وأن مهمته محددة بإحضار المال أو الاعتقال".
معاناة "أبو خالد" يمكن تعميمها على شريحة واسعة من تجار دمشق، فهذه الفئة التي كانت تحلم باستعادة دورها التاريخي كلاعب مؤثر في الاقتصاد الوطني، وجدت نفسها مجدداً ضحية للابتزاز المالي من بعض أذرع السلطة الجديدة في البلاد.
مكتب الظل
في تموز/يوليو الماضي، كشف تحقيق استقصائي لوكالة "رويترز" أن حازم الشرع، شقيق الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، يقود لجنة خاصّة في القصر الجمهوري مهمتها إعادة هيكلة الاقتصاد السوري، بالتعاون مع شخصية تُدعى "أبو مريم الأسترالي".
عملية إعادة الهيكلة تجري بعيداً عن الأطر المؤسسية الرسمية أو الإجراءات القانونية، من خلال إجراء تسويات مالية مع رجال الأعمال المقربين من النظام السابق، بهدف إعادتهم إلى سوق العمل وإبعاد شبح الملاحقة القضائية عنهم، مقابل دفعهم مبالغ مالية ضخمة للجنة التي يقودها حازم الشرع.
وأكد التحقيق أن اللجنة استحوذت خلال أشهر قليلة على أصول مالية وتجارية تُقدّر قيمتها بأكثر من 1.6 مليار دولار، وهو ما مكّن بعض رجال الأعمال المقربين من الأسد من العودة إلى العمل داخل سوريا مؤخراً.
وفي هذا السياق كشفت مصادر محلية للميادين نت أن عمل اللجنة توسع بشكل كبير خلال الأسابيع الماضية، ووصل إلى التجار ورجال الأعمال في عموم المحافظات السورية، حيث بدأت عمليات واسعة لإجراء تسويات مالية معهم، بحجة أنهم كانوا داعمين للنظام السابق.
أمام هذا الواقع، وجد بعض تجار دمشق أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما ترك تجارتهم وإغلاق محلاتهم أو مغادرة البلاد لبدء عمل في مكانٍ آخر، وهذا ما بدأ يحدث فعلاً، حيث تؤكد المعلومات أن العاصمة تشهد عزوفاً متقطعاً للتجار عن العمل وسط ركود حاد تعيشه الأسواق المحلية منذ أشهر.
وفي هذا السياق يؤكد تاجر القماش "أبو أحمد" –اسم مستعار- للميادين نت أن معظم تجار دمشق يواجهون صعوبة كبيرة في أعمالهم خلال الوقت الحالي، نتيجة الركود الذي يخيّم على الأسواق، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وازدياد الضرائب، وما زاد "الطين بلّة" حملة الجباية التي تمارسها الفصائل المسلحة بحق التجار.
يقول "أبو أحمد": "خيار الهجرة أصبح مطروحاً أكثر من أيّ وقت مضى، فالأعباء المالية الحالية تفوق قدرة التجار على تحملها، وبرغم الوعود الكبيرة التي أطلقتها الحكومة الجديدة بداية العام الحالي بتقديم تسهيلات للعمل التجاري وتخفيف الضرائب ومد يد العون للتجار ذهبت أدراج الرياح، ولم يترجم أيّ من هذه الوعود على أرض الواقع".
قرار "الفروغ" يضرب عصب التجارة
في شهر حزيران/يونيو الماضي، أصدرت وزارة العدل السورية قراراً بتشكيل لجنة لدراسة الصكوك التشريعية والتعليمات النافذة بشأن عقود إيجار المتاجر ذات التمديد الحكمي أو ما يُعرف بقانون الإيجار التجاري القديم بهدف إلغاء القانون، وهو ما يهدد مئات التجار الدمشقيين بخسارة أماكن عملهم في قلب العاصمة.
واعتراضاً على القرار، اعتصم العشرات من التجار أمام القصر العدلي بدمشق، وطالبوا وزارة العدل والحكومة السورية بوقف تنفيذ القرار، وسط تحذيرات تأثير القرار على الحركة التجارية في العاصمة بما يهدد عصب الاقتصاد الوطني.
فيما بعد التقى وزير العدل في الحكومة الانتقالية مظهر الويس وفداً من تجار دمشق، وأكد أنّ اللجنة لم تصدر أي توصيات أو قرارات بعد، وأن عملها يتركز حالياً على تقييم شامل للأبعاد القانونية والاجتماعية والاقتصادية كافة للقضية.
وأشار الوزير إلى أن الهدف الأساسي هو تحقيق العدالة وحماية حقوق الجميع، مشدداً على أن النقاش داخل اللجنة يجب أن يكون مفتوحاً وشفافاً، ويشمل وجهات نظر كل الأطراف المعنية، بما في ذلك المالكين والمستأجرين، لضمان التوصل إلى حلول متوازنة.
اليوم، يعيش تجار دمشق حالة من التوتر والترقب في ظل الواقع الاقتصادي المتأزم، فبعد أن كان رحيل النظام السابق بارقة أمل لعودة هذه الفئة إلى مكانتها الطبيعية في هيكلية الاقتصاد الوطني، جاءت المتغيرات السياسية لتفرض واقعاً مختلفاً تماماً، وهو ما يستوجب من الجهات الحكومية المعنية تحركاً سريعاً لمد يد العون للتجار، وتقديم التسهيلات اللازمة لعملهم، حتى يكونوا شركاء حقيقيين في بناء سوريا الجديدة.