هل أحاديث الموظفين تهديد… أم فرصة خفية للإبداع؟

الخوف من العلاقات الإنسانية داخل العمل يحوّل المؤسسات إلى كيانات منضبطة شكلاً لكنها ميتة روحاً، فيما تُثبت الدراسات الحديثة أن الثقة والحوار هما سرّ الإبداع والنجاح المؤسسي.

0:00
  • هل أحاديث الموظفين تهديد… أم فرصة خفية للإبداع؟
    هل أحاديث الموظفين تهديد… أم فرصة خفية للإبداع؟

كانت الساعة تقترب من العاشرة صباحاً، بعد ساعتين فقط من بدء الدوام، عندما خرجت مجموعة من الموظفين إلى باحة الشركة الخارجية، بعضهم يحتسي القهوة، وآخرون يتناولون وجبة سريعة، فيما يكتفي البعض بتدخين السجائر. لكنهم جميعاً يتبادلون الأحاديث، و يتسامرون ويضحكون. مرّت عشر دقائق أو أكثر بقليلٍ على جلستهم. في الطابق العلوي كان المدير العام يقف خلف زجاج نافذته الداكنة، يراقب المشهد بقلق مكتوم. نادَى مساعده بنبرة غاضبة، وأشار إلى الأسفل: "ما هذا؟". 

ظنّ المساعد أن انزعاج المدير سببه ترك الموظفين لمكاتبهم، فسارع إلى التبرير: "إنها فترة استراحة الموظفين". لكن المدير قاطعه بجملة كشفت أن الأمر أبعد بكثير من مسألة انضباط: "أعرف ذلك… ولكن لماذا يخرجون مجموعات؟". للوهلة الأولى، اعتقد المساعد أن هدف المدير هي رفع الإنتاجية ومنع التباطؤ، غير أن الجملة التالية بدّدت هذا الظنّ تماماً.

قال المدير وهو يضرب بيده على حافة النافذة: "هذه التجمعات مؤشّر خطر. تبدأ بدردشة ثم تتحول لحلقات تذمّر ومع الوقت تصبح مجموعات مطلبية واتحادات تطالب بحقوق والتزامات نحن في غنى عنها. امنع هذا. اجعل استراحاتهم منفردة".

في اليوم التالي تغيّرت قواعد العمل، تم تقصير فترات الاستراحة، وتوزيعها على أوقات متفرقة في القسم الواحد، ومُنع الجلوس الجماعي، وطُلِب من المشرفين تأنيب من يطيل الحديث مع زملائه أثناء الدوام.

نجحت الخطة ظاهرياً، وخفتت الأصوات، لكن خفت معها ما هو أهم وأخطر على المدى المتوسط، إذ تراجعت ثقة الموظفين بالمؤسسة، تضاءلت المبادرات، وتحولت الاجتماعات إلى حضور جسدي بلا مشاركة. ومع مرور الوقت، اتّسعت المسافة بين الموظف والمسؤول، وصار الجميع يحتفظ بمسافة داخلية صامتة تجاه الإدارة. 

قد يظن القارئ أن القصة خيالية أو حالة استثنائية، بينما هي صورة واقعية عن نمط إداري راسخ عرفته مؤسسات عربية وعالمية كثيرة، نمط كان يرى في العلاقات بين الموظفين تهديداً، وفي النقاشات بذور تمرّد، وفي روابط الصداقة بين الزملاء مؤشرات خطر ينبغي تفكيكها.

الإدارة التقليدية: الصمت ضامن للإنتاج

هذا المنطق في مراقبة العلاقات لم يأتِ من فراغ، بل هو جزء من إرث إداري طويل شكّل عقلية المؤسسات لعقود. ففي المدرسة الإدارية القديمة التي تشكّلت عبر نظريات تايلور في تقسيم العمل وفايول في الانضباط الهرمي، ثم ترسّخت لاحقاً في البيروقراطية الصارمة التي صاغها ماكس ويبر، كانت المؤسسة تُدار بمنطق فصل العامل عن محيطه الاجتماعي لكي يُركّز على مهمته فقط، وكأن العلاقات الإنسانية ترفٌ يمكن أن يعرّض الإنتاج للاهتزاز.

وانطلاقاً من هذه الرؤية، تمّ التعامل مع العلاقات الاجتماعية داخل مكان العمل بوصفها تشويشاً على السّلطة أو بوابةً لولادة مجموعات ضغط قد تعارض القرار الإداري. فكان التنظيم الإداري، في كثير من المؤسسات، يتجه لقطع الروابط بين الزملاء، وتكريس ثقافة العزلة، وتغليب شعار "اعمل.. ولا تندمج كثيراً".

لكن ما بدا انضباطاً ظاهرياً كان في جوهره انسحاباً نفسياً وفقداناً لروح المؤسسة وللهويّة المشتركة. فالصّمت الذي اعتبرته الإدارات القديمة دليلاً على الرّضا والولاء، كان في الحقيقة آلية دفاع لإخفاء الآراء. والانضباط الذي قُدّم كمرادف للإنتاجية، كان في الحقيقة تعطيلاً للإبداع وكابحاً للمبادرة الفردية.

هذا النمط من الإدارة، الذي تكرّر في مؤسسات عربية أو غربية، خلق في كثير من الأحيان مؤسسات تبدو منضبطة في ظاهرها، لكنها هشّة عند مواجهة أي تغيير.

العلاقات الاجتماعية ليست خطراً.. بل رأس مال مؤسسي

على الضّفة المقابلة للعقلية الإدارية التقليدية، جاءت دراسات علم نفس العمل الحديثة لتُعيد رسم الصورة. فالبحوث المعاصرة في السلوك التنظيمي تؤكد أنّ الروابط الاجتماعية داخل بيئة العمل، تُمثّل في العمق ثروةً مؤسساتية تضاهي بأهميتها الخبرة التقنية والكفاءة الفرديّة.

وتبرز في هذا السياق دراسة حديثة صدرت عام 2025 أعدّها الباحثان راجيش دير وشيفاني فالباه، وهي من أحدث الأعمال التي تناولت أثر العلاقات بين الزملاء على الإبداع والسلوك الابتكاري داخل فرق العمل. إذ تُظهر نتائجها، إلى جانب تقارير حديثة لمنظمة العمل الدولية، أنّ وجود علاقات صحية بين أفراد الفريق يخلق ما يسمى الأمان النفسي، وهو شعور الموظف بأنه قادر على التعبير، والاقتراح، والاعتراض، والاعتراف بالخطأ دون خشية من السخرية أو العقاب. 

هذا النوع من الأمان يرفع منسوب المبادرة، يذكي تبادل الأفكار، ويحوّل الخطأ إلى فرصة للتعلم والابتكار. كما تؤكد أبحاث نُشرت في جامعات عالمية مثل "هارفارد" و"ستانفورد"، أنّ العامل الأكثر تأثيراً في نجاح أي فريق ليس المهارات الفردية وحدها، بل جودة العلاقات الإنسانية داخله. فإنّ الثقة بين الإدارة والأفراد تولّد أماناً نفسياً يولد بدوره جرأة في التفكير عند الموظفين فيرتفع الابتكار مما ينتج  أداء ونجاعة أعلى. هذه المعادلة كفيلة بإعادة تعريف ثقافة العمل المعاصرة. فالمؤسسات تتقدم بما تخلقه من بيئة اجتماعية تسمح للفكرة بأن تولد، وللإنسان بأن يشارك، وللفريق بأن يصبح أقوى من مجموع أفراده.

القيادة الحديثة: إدارة البشر لا إدارة الصمت

تقوم القيادة المعاصرة على قدرة المدير في التقاط الإشارات الخفية داخل فريقه، على فهم ما تقوله الهمسات العابرة أكثر مما تقوله التقارير الرسمية. فالقائد الناجح هو من يدير البشر بعلاقاتهم وتفاعلهم، ويعي أن الحوار هو البنية الأولى للثقة، وأن المؤسسة التي تنجح في ترسيخ هذه الثقة تمتلك القدرة على النمو مهما اشتدّت التحديات.

وفي التجارب الحديثة، من الاقتصاد إلى التكنولوجيا والميديا وغيرها، يبرز اتجاه واسع يرى في العلاقات الاجتماعية داخل العمل ركيزةً أساسية للاستقرار والإبداع. فالتقارب بين العاملين يتحوّل إلى مصدر قوة عندما تكون الإدارة حاضرة ومنفتحة، وعندما يشعر الموظف بأنّ دوره يتجاوز حدود المهمة اليومية ليصبح جزءاً من رؤية أوسع وهوية مشتركة. أما التحزّب السلبي فينشأ غالباً من المسافة بين الإدارة وموظفيها، لا من قرب الموظفين من بعضهم.

وتميل المؤسسات الأكثر نجاحاً إلى بناء انتماء إيجابي يربط كلّ فرد بهدف العمل، ويمنحه مساحة للتعبير والمبادرة، ويجعله شريكاً في المسؤولية. وتوصف القيادة الحديثة بأنها فنّ تنظيم الروابط الإنسانية قبل تنظيم المهام؛ تقوم على الإصغاء وتوسيع المشاركة وتوجيه العلاقات لتصبح طاقة تطويرية.

ومن هنا، يصبح السؤال الجوهري: كيف نُعيد الاعتبار للعلاقات الإنسانية داخل المؤسسة؟

قرب آلة القهوة.. قد تولد الأفكار الكبيرة

أعاد علم نفس العمل الاعتبار لفكرة أنّ الإنسان لا يعمل منفرداً، حتى لو جلس في مكتبٍ معزول، أو أمضى يومه أمام شاشة الحاسوب. فالمؤسسة التي تتوجّس من العلاقات بين موظفيها تشبه مدينةً تخشى شوارعها، تُطفئ الحركة ظنّاً أنها تحمي نفسها، بينما تفقد في المقابل روحها وقدرتها على النمو والتطور.

 فالروابط الاجتماعية تنشئ هوية مشتركة، والهوية تبني ثقة، والثقة تفتح الباب للإبداع. لقد حان الوقت للانتقال من عقلية الحدّ من التجمّعات إلى عقلية رعاية الروابط، فالكثير من الأفكار الكبيرة تبدأ بهمسةً قرب آلة القهوة، أو نقاشاً عابراً في استراحة قصيرة. 

وفي تلك اللحظات البسيطة، التي قد تبدو خارج مسار العمل، يولد أحياناً مستقبل المؤسسة نفسها.

اخترنا لك