إنهم أولادنا (2): حفاة المدن يُسرّحون الهال نَخباً بين قذيفتين

المقاومون، أولادنا، أولاد المعسكر الذي أحبّوه وحفظوا شوارعه وأزقّته، عاشوا فيه أعمارهم القصيرة، سيفشل "جيش" الاحتلال في كل مرة يعود فيها إلى جباليا، في القضاء على المقاومة، وهم أنفسهم الذين سيبقون كابوسه الأبدي.

  • إنهم أولادنا (2): حفاة المدن يُسرّحون الهال نخباً بين قذيفتين
    إنهم أولادنا (2): حفاة المدن يُسرّحون الهال نخباً بين قذيفتين

تبدّد شعورنا بالإنجاز والبطولة على نحوٍ مثير للخجل، حينما رأينا أم محمود تسبقنا مُتسلّلة إلى آخر خطوط النار في حيّ الفالوجا الذي كانت لا تزال الآليات الإسرائيلية تعسكر على بعد عشرات الأمتار منه فقط، وسط الشوارع الخالية والموحشة التي لا يسمع فيها سوى مزيج من أصوات الانفجارات القريبة مع مختلف الطائرات الحربية والمسيّرة وهي تجعر وكأنما تمشي على الأرض، كانت تمضي الحاجة التي يتقاسم وجهها مع أزقة المخيم؛ تجاعيد تفوق الستين عاماً:

- "على وين يا حجة ردك الله، إحنا هان بذنبنا، إنتِ شو"؟

- "ابعد يا بنية بلاش يقصفونا مع بعض.. أنا بدي وصل الأكل للشباب وأرجع".

قالت سيدة المخيم وهي تقطع الأزقة المدمّرة بهمّة رجل لم يطرق بعد باب الأربعين من العمر. في الفالوجا، ستشعر بأن الشوارع ليست خالية وإن كانت تبدو كذلك، سترى الكثير من الإشارات التي توحي بأنهم هنا، أسلحة مغطاة بالركام والحجارة، زجاجات مياه باردة، بقايا التمر والحلاوة، ثم انفجار تتبعه صيحة يتردد صداها في كل شوارع المخيم: "الله أكبررر يا ولااااد"، وكانت الأخيرة، آخر عهدنا مع البقاء في المنطقة الخطيرة، إذ ستكون للطائرات المقاتلة جولة هنا بعد قليل، سينسفون المزيد من المنازل في محاولة لإسكات الصيحة، كان علينا أن نقفز منسحبين، بكل ما وهب الله الغزلان من رشاقة وهي تهرب من مفترسها.

هكذا بدا المشهد "غير المشرف" أبداً، شابان يهربان خوفاً على سلامتهم، وحاجة تواصل التقدّم لتوصل الخبز الساخن والماء البارد إلى مجموعة من المقاومين الذين قرّرت أن تضمّهم إلى عائلتها الصغيرة، وأن تقوم تجاههم بدور الأمومة وإن كان ثمن ذلك أن تتوزّع شظايا جسدها على "بلوكات" المخيم الاثني عشر.

يعرف الأهل في مخيم جباليا المقاومين جيداً، يحفظون أسماء المئات منهم، يتخافتون همساً بحكايات بطولاتهم، إنها المعركة الأولى منذ بداية الحرب، التي تشهد على نحو علني، هذا المستوى من التفاعل الوجداني والمعنوي بين المقاومين وحاضنتهم، ونحن نخطئ أصلاً في توصيف الواقع حين نصنع أي فاصلٍ بين المقاومين والناس، الكتلة البشرية هنا، آباء وأمهات أجداد وجدّات، هي التي واصلت إمداد المقاومة طوال عشرات السنين، بهذا الفائض النوعي والكمي من المقاومين، وهي أيضاً، من تتكفّل في إعادة تذخير الخزّان النضالي في خلال هذه الحرب وبعدها.

في المخيم يحكي الناس عن أولادهم كثيراً، عن مشاهد يهزأ فيها الشبان من الموت، عن أحدهم وهو يُلقّم مدفع الهاون بيدٍ واحدة بعد أن أصيبت الأخرى، عن ثانٍ يشرب بين القذيفة والأخرى رشفةً من القهوة، وعن ثالث يتنافس مع رفيقه في مصارعة دبابة "الميركافا" من مسافة صفر، عن معتصم شحادة وصديقه مصعب، حين سقط الأول قربه شهيداً فحمل سلاحه وواصل الاشتباك، وعن وئام حجاج وحذيفة العربيد وضياء فلفل، هؤلاء الأولاد، رسمت الانتفاضة الثانية في العام 2000 طفولتهم.

اقرأ أيضاً: إنهم أولادنا (1)

قبل 20 عاماً من اليوم، ضجت أزقة المعسكر بصنيع البطل عبد الحي النجار، شابٌ لم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر، تسلل في خضمّ الاجتياح البري الكبير في العام 2004 رفقة صديقه أسامة البرش، إلى أحد مواقع "الجيش" في تلة عبد ربه شرقي مخيم جباليا، وعاد جسداً مسجّى، بعدما قطف رؤوس اثنين من جنود الاحتلال، في ملحمة استخدم فيها الشابان الأسلحة الخفيفة والقنابل اليدوية المصنّعة محلياً فقط. لكن ما لم يكن يعرفه أحد من الذين حفظوا وجه الاستشهادي الأول، سُمرة بشرته ورنّة صوته وكلمات وصيّته المجلجلة، وهو الخطيب المفوّه الذي كان يلهب الجماهير بهدير صوته، أنه وفي عام الاستشهاد نفسه، أنجبت أمه طفلاً جديداً حمل اسم شقيقه البطل، ستمضي السنوات، وفي صبيحة يوم الانسحاب الأخير من المخيم، سيشعل صنيع بطل النخبة الجديد، شمس الاسم والفعل البطولي الذي تقاسم شقيقان يحملان اسماً واحداً عظيم شرفه بفاصل زمني عمره 20 عاماً.

المقاومون، أولادنا، أولاد المعسكر الذي أحبوه وحفظوا شوارعه وأزقته، عاشوا فيه أعمارهم القصيرة، وكان التمشّي المسائي ما بعد صلاة العشاء، من شارع الترنس إلي مربع المركز ثم مرطبات أبو زيتون وشاورما مهند ثم ساحة الخلفاء، أعذب أسفارهم وألذ متع أيامهم، سيفشل "جيش" الاحتلال في كل مرة يعود فيها إلى جباليا، في القضاء على المقاومة، هم أنفسهم الذين "قتلهم قبل خمسين عاماً، هذا القتل نفسه.. مراحل التنفيذ نفسها"، وهم أنفسهم الذين سيبقون كابوسه الأبدي، هذا إن صدّق أنه سيبقى على هذه الأرض أبداً. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.