الكمأة.. فطرٌ "يوزن ذهباً" ثمنه الدماء في سوريا

سابقاً كانت مواسم الكمأة مناسبة ربيعية سعيدة للأهالي ينتظرونها بفارغ الصبر، للتجمّع معاً والانطلاق في رحلة البحث والقطاف، الأمر الذي تغيّر بعد عام 2011 مع تعاقب سيطرة مختلف الجماعات الإرهابية، وفلول تنظيم "داعش"، على البادية، ومخلّفاتها من ألغام.

  • الكمأة.. فطرٌ
    الكمأة.. فطرٌ "يوزن ذهباً" ثمنه الدماء في سوريا


"لا تخاطر بحياتك لجمع الكمأة، لا تقترب من المناطق المشبوهة"، "جمع الكمأة قد يكلّفك حياتك". رسائل تصل بكثافة هذه الأيام على هواتف المواطنين السوريين، لكنها لا تفلح في التخفيف من الدموية التي بات ربيع البلاد على موعد معها كل عام.

"45 شهيداً لم يتمّ سحب جثامين العديد منهم وعشرات الجرحى، هي الحصيلة النهائية لآخر مجزرة ارتكبتها فلول تنظيم داعش الإرهابي في البادية السورية هذا الشهر بحق المواطنين الذاهبين للبحث عن الكمأة"، سماع مثل هذا الخبر صار اعتياداً ومكرّراً، ما جعل بعض الصفحات السورية على مواقع التواصل الاجتماعي، تبادر لإطلاق دعوات لمقاطعة هذا الفطر، علَّ الطلب يقل عليه وينخفض سعره، فتمتنع الناس عن المخاطرة.

الراتب الشهري لا يساوي سعر نصف كيلو كمأة!

بعد ثلاثة أيام قضاها في بادية دير الزور، عاد أبو أحمد إلى منزله حاملاً "ذهبه الأصفر" في أكياس سوداء. تعانق صفاء والدها قائلة: "الحمد لله على السلامة"، وهي العبارة المناسبة بحقّ لأن "العائد من جمع الكمأة هذه الأيام كالعائد من الموت المحتم"، بحسب ما قاله الرجل الخمسيني للميادين نت.

سابقاً كانت مواسم الكمأة مناسبة ربيعية سعيدة للأهالي ينتظرونها بفارغ الصبر، للتجمّع معاً والانطلاق في رحلة البحث والقطاف، الأمر الذي تغيّر بعد عام 2011 مع تعاقب سيطرة مختلف الجماعات الإرهابية، وفلول تنظيم "داعش"، على البادية، ومخلّفاتها من ألغام وقنابل لم تنفجر.

تبلغ مساحة البادية السورية نحو 80 ألف كيلومتر مربع، وتمتد على محافظات: السويداء، الرقة، حلب، حماه، حمص، ريف دمشق، ودير الزور تحديداً، حيث يتجوّل أبو أحمد حاملاً أداة معدنية لينبش فيها التراب باحثاً عن "بنت الرعد"، ويشرح: "سميت الكمأة بهذا الاسم لأن ظهورها يرتبط بكثرة الرعد والبرق في الشتاء، يطلق عليها أيضاً جمة أو الفقع، وهي برية لا تُزرع، أي رزق مجاني من الله لنا، وتظهر إلى جانب النباتات الصحراوية وقرب جذور الأشجار".

للحظة يرتجف ابن دير الزور وهو يستذكر ابن عمه الذي قضى مذبوحاً على يد تنظيم "داعش" منذ عامين، وهو يجول في الصحراء بحثاً عن الكمأة، ويستدرك: "غير الناس الذين استشهدوا في الحرب، الكثير من البيوت هنا قدّمت شهداء في سبيل لقمة العيش، اسألي العائلات، بعضهم ذبحتهم داعش، بعضهم قتلتهم رشاً، والبعض الآخر خطفتهم ولم نسمع عنهم شيئاً أو نرَ لهم جثة".

يدرك أبو أحمد حقيقة المخاطر التي قد يواجهها في "مثلث برمودا الصحراوي" كما يقول ممازحاً، لكنه يضيف: "لا توجد أمامنا خيارات أخرى، قدرنا مكتوب وأعمارنا بيد الله، نحن أناس فقراء، ولا أحد يهتم بنا إن عشنا أو متنا، راتبنا الشهري الذي لا يساوي سعر نصف كيلو كمأة يتسابق مع الأسعار، أليس من المفروض علينا أن نفعل ما في وسعنا لأجل ملء أفواه أطفالنا الجائعة ومساعدتهم في دراستهم وتأمين كل مستلزماتهم؟".

"الأمر أشبه بالقمار"

ظهر منحنٍ وخطى وئيدة، تميّز محمد الجندي الذي يملك دكاناً صغيراً في بلدته السلمية. يُعرف أبو إسماعيل بين جيرانه في الحي بأنه "الرجل الذي فقد ولديه أثناء ذهابهما لجمع الكمأة". يقول الرجل الستيني للميادين نت: "خاطروا مرة من دون علمي، فكانت حصيلة ما جمعوه تساوي ما نربحه من الدكان بأكثر من أسبوع، قلت لهم يكفينا هذا أرجوكم لا تذهبوا مرة أخرى، لكن الأمر صار أشبه بالقمار، وفي المرة الثانية بدل أن يأتوا إلي، ذهبت لاستلام جثمانيهما من المشفى الوطني، لقد انفجر بهما لغم".

"نخزة في القلب" أصبحت تصيب أبا إسماعيل كلما نظر إلى ثمرة كمأة، أو سمع بائعاً ينادي عليها، أو رأى شباناً على دراجة نارية يحملون أكياساً متسائلاً: "لا أعرف كيف تمر هذه الثمار من حلوق المشترين أو التجار وهي مغمسة بدماء أبنائنا، بدماء الفقراء، بدماء الذين لم تقتلهم القذائف ولا الأسلحة بل شظف العيش الذي دفعهم للمخاطرة بحياتهم". 

نحو 100 كيلومتر تفصل بين القرية والمناطق الصحراوية التي يذهب إليها المغامرون عبر طريق "يعتقدون أنه آمن"، بحسب أبي إسماعيل، الذي يصمت قليلاً، ويختم حديثه بالقول: "أريد أن أصرخ بكل واحد منهم لئلا يذهبوا، لكن صوتي يتجمّد لسبب ما، ربما لأنه لا فائدة من قول شيء لشخص لم يعد لديه ما يخسره".

تغلب صناديق الكمأة على سوق الخضار في حماه هذه الأيام، وترتفع أصوات التجار الذين يفاوضون البائعين على الأسعار رغبة منهم في شراء أكبر كمية ممكنة.

ينهي البائع عساف الأسعد المزاد على 400 ألف ليرة سورية للكيلو الواحد، أي ما يعادل نحو 27 دولاراً، وقد فاز بهذه الصفقة أحد التجار الدمشقيين. "الشوام والحلبيون هم زبائننا الرئيسيون"، بهذه العبارة يبدأ الرجل الأربعيني حديثة للميادين نت، ويتابع: "لا يأكل الكمأة في سوريا إلا المقتدرون مادياً، حتى القاطفون يفضّلون بيعها على الاستهلاك الشخصي، ومعظمها يعاد تصديره إلى دول الخليج، هناك إقبال شديد عليها هناك، وطبعاً يوجد كميات لا يستهان بها يتم تصديرها من المناطق التي لا تقع تحت سيطرة الدولة، إلى العراق وتركيا عبر معبر سيمالكا غير الشرعي".

وكانت لجنة تجار ومصدّري الفواكه في سوريا قد قالت العام الماضي إن الكمأة تحتل المرتبة الأولى في التصدير، وتعد المملكة العربية السعودية الوجهة الأكثر استقبالاً، تليها الكويت ثم الإمارات وقطر، حتى أنه خلال عشرة أيام فقط بلغت الكمية المصدّرة أكثر من 600 طن.

ينفض الأسعد التراب عن بعض الثمار مختلفة الحجم، ويشرح قائلاً: "تختلف أنواع هذا الفطر بحسب الجودة واللون والحجم، فمثلاً الأكبر والأثمن نسميها شيوخاً، والزبيدية تكون متوسطة الحجم ولونها فاتح قليلاً، أما الحرقة فيكون لونها أكثر اغمقاقاً وحجمها هو الأصغر، وجميعها غنية بمضادات الأكسدة والفوسفور والصوديوم والبوتاسيوم".

يشعر التاجر الحموي في كثير من الأحيان بالألم والحزن على أغلب من يأتون إليه ليبيعوا ما استطاعوا جمعه "فهم إما مواطنون فقراء أجبرهم ضيق العيش على التضحية بأنفسهم، أو بدو أو رعيان فقدوا قطعانهم في الحرب، ويختم حديثه بالقول: "لو تعلمون كم هي المرات التي اضطررنا فيها لغسيل بعض الثمار من آثار الدماء".