عائلة البحيصي تعيش "التغريبة الفلسطينية" بعد النكبة أملاً بلمّ الشمل

لا تزال عائلة البحيصي الفلسطينية تعيش تغريبتها جراء النكبة عام 1948 التي كانت سبباً بتهجير أفراد العائلة إلى بلدان عربية، ولا يزال أفرادها حتى اللحظة يأملون بالحصول على حق لم الشمل.

  • التغريبة الفلسطينية في شكل آخر
    ذكرى النكبة الـ74.. التغريبة الفلسطينية في شكل آخر

على لحن التغريبة الفلسطينية التي كانت تصدح في أرجاء الصالة الداخلية لمنزل عائلة البحيصي في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، تحملنا السيدة ديما البحيصي بذاكرتها إلى ما عايشته من فقدٍ وتشتت لأفراد عائلتها في عدد من الدول العربية من دون هوية أو أوراق ثبوتية، جراء النكبة الفلسطينية.

تقول ديما البحيصي البالغة من العمر 50 عاماً: "مات والدي قبل حصوله على أوراقه الثبوتية التي عاش عمره يحلم بها، وما زالت أمي تعيش على أمل الشعور بكينونتها الوطنية، ولمس هويتها الفلسطينية، وجواز سفرها الذي يُعدّ حلماً بالنسبة لها كي تتمكن من زيارة إخوتي النازحين في الخارج"، وتابعت بضحكة ساخرة: "بعد أن أصبح عمري 50 عاماً حصلت على الهوية الفلسطينية منذ أشهر، وبات بإمكاني السفر للقاء إخوتي الذين لم أرهم منذ عودتي إلى قطاع غزة". 

وتضيف: "بدأت رحلتنا في تغريبة فلسطينية من نوع آخر، وأصبحنا مثل الطيور المهاجرة بين بلدان الوطن العربي، فبعد هجرة أهلي قسراً إلى قطاع غزة من بلداتهم الأصلية بفعل النكبة، خطفتهم الغربة إلى دولة الكويت، ثم العراق، ثم الإمارات والسعودية مروراً بالأردن، حتى اهترأت حقائب سفرهم، وذابت ملامحهم، واحتلت التجاعيد وجوههم، وما زال الأمل بالحصول على هوية تثبت حقنا بالمواطنة كفلسطينيين قائماً". 

وبتنهيدة ملؤها الحسرة، عبّرت البحيصي بقلب منفطر عن استمرار معاناتهم من تبعات النكبة التي هجرت عائلتها، واصفةً الحرمان من الهوية الفلسطينية بأنه كابوسٌ يلاحق كل اللاجئين الفلسطينيين، فقالت :"تنام في أرض ولا تعلم في أيّ أرض يمكن أن تستيقظ". 

وتتابع: "تزوجت في السعودية ولم أحصل على إقامة، حتى الولادة لم أستطع أن أحصل فيها على شهادة ميلاد لمولودي البكر هناك، وفي العام 2006 جاءني اتصال من عمي في غزة، يفيد بأن هناك فرصة ضعيفة لدخول القطاع، وفور سماعي هذا الخبر انطلقت أنا وزوجي وطفلي إلى قطاع غزة، حيث دخلت بتصريح دخول لمرة واحدة لا يسمح لي بالخروج منها أبداً"، مشيرةً إلى أنه بعد مرور فترة قرر زوجها العودة إلى السعودية لمتابعة أعماله من دون أن تتمكن من مرافقته، نظراً لأن قرار الخروج من غزة لن يعد متاحاً، وقد حرمها الاحتلال من ذلك، مضيفة: "انفصلنا عن بعضنا. فقد حكم الاحتلال على علاقتنا بالقتل".

من جانبها قالت زهر راغب (76 عاماً) والدة ديما: "نزحت وأهلي من قرية صرفند المحتلة شمال فلسطين إلى قطاع غزة جنوباً، وفترة ما قبل النكسة واحتلال كامل الوطن لجأنا إلى الكويت وعملت كمُدرّسة لأعيل أسرتي، أما محمد البحيصي والد ديما فقد نزح من قرية السوافير المحتلة إلى القطاع ثم إلى الكويت بقصد العمل أيضاً، حيث تزوجنا هناك في العام 1970 كنازحين لا يملكان من هويتهم سوى وثيقة مصرية، وأنجبنا خمسة أطفال كنا نتمنى أن يبقوا طوال العمر إلى جوارنا". 

وأضافت راغب: "لم يستمر الهدوء في الكويت كثيراً فاضطررنا إلى المغادرة وتوجهنا إلى العراق، لكن وبفعل الغزو الأميركي، خرجنا من العراق إلى الأردن ثم السعودية"، وعن مشوار سعيهم للحصول على أوراق ثبوتية، قالت: "لقد قدّمنا أوراق لم الشمل للحصول على هوية فلسطينية وطنية في العام 1982، لكنا لم نحصل على أي أوراق، وكنت بحاجة ماسة لرؤية العديد من أقاربي في الداخل الفلسطيني وقطاع غزة".

 وعند سؤالها عن دخول قطاع غزة، أجابت: "بعد انسحاب الاحتلال من القطاع، سمعت بأن الحدود الفلسطينية المصرية قد فُتحت لفترة مؤقتة، وحملت أوراقي وزوجي وجئنا إلى مطار القاهرة الذي سمح في حينه إلينا بالمرور، وبالفعل، عبرنا الحدود المفتوحة التي لم أستطع مغادرتها حتى اللحظة، وما جعل الوضع أسوء بكثير أن الاحتلال لا يريد أن يعترف بهويتنا الفلسطينية، بدليل أنني لم أحصل على أوراق مع ابنتي ديما التي جاءت عبر تصريح زيارة من خلال معبر رفح البري". 

وتابعت: "قبل خمسة أعوام تقريباً احتجت لاحتضان أبنائي الذين لا يزالون في الخارج بعيداً عن المشاعر الباردة التي توفرها التكنولوجيا، أردت أن أضمّهم بشدة وبشغف وأن ترتاح رؤوسهم على كتفي، وأن أشعر بهم وأرى ملامحهم، فلا أدري متى يدركني الموت بعد وفاة والدهم  فانطلقت إلى معبر رفح البري، ووصلت إلى الصالة المصرية بجواز سفر مصفر، وهو جواز يمنح لحملة الوثائق من اللاجئين الفلسطينيين لا يحمل رقماً وطنياً، وهناك جعلني الأمن المصري أنتظر لساعات طويلة، وبدأت استعطافهم أن يراعوا كبر سني، إلى أن جاءني أحدهم وقال لي بأن جواز السفر هذا لا يسمح لي بالعبور نهائياً".

بلعثمة وحزن علقت راغب: "أعتمت الدنيا في عينيّ بعد إجابته، وذرفت دموعاً لا أدري إن كانت شوقاً لأطفالي وقد أصبحوا على مشارف الخمسينات، أم حسرة على عجزنا المستمر منذ لعنة النكبة التي تطاردنا حتى اللحظة، لكني أراها قريبة، وأحلم بأنني أحتضن ولديّ وبناتي تحت سقف هذا البيت، وأجالسهم على هذه المقاعد ونضحك حتى تمعن أصوات ضحكاتنا المتعالية في صدور من بقي حياً من المحتل وهو يحمل حقائبه راحلاً عن كل ثرى فلسطين".