الفاشر… آخر فصول الخديعة في السودان

الفاشر اليوم جرحٌ مفتوح في الجسد العربي والأفريقي معاً، وصرخة تنبّهنا إلى أن الوطن لا يُحمى بالشعارات، بل بالعدالة والمواطنة والمساءلة.

  • الفاشر ليست مأساة محلية، بل مرآة لزمنٍ عربي فقد مناعته (أرشيف).
    الفاشر ليست مأساة محلية، بل مرآة لزمنٍ عربي فقد مناعته (أرشيف).

ما يحدث في الفاشر اليوم ليس مجرّد معركة عسكرية أو صراع على النفوذ، بل مأساة إنسانية عميقة تمسّ روح السودان وتكشف إلى أي مدى أنهكته الحروب وتنازع المصالح.

المدينة التي كانت يوماً قلب دارفور النابض، صارت اليوم مسرحاً لواحدة من أبشع صور الانهيار الوطني والإنساني، إذ تُباد الحياة، وتُهجَّر العائلات، وتتحوّل المدارس والمستشفيات إلى ركام.

لم تبدأ مأساة الفاشر اليوم، بل جذورها تمتد إلى عقودٍ من سوء الحكم وتسييس الدين وتغليب الولاءات الضيقة على فكرة الوطن.

حين حوّل نظام البشير الدين إلى أداة سلطة، وفتح الباب أمام الميليشيات لتكون بديلاً عن الدولة، بدأ العدّ التنازلي لتمزق السودان.

ومن انقسام الإسلاميين بين جناح البشير والصادق المهدي، والعقوبات على السودان رضخ البشير لتسويات الخارج التي مزّقت ما تبقّى من النسيج الوطني، ودفعت دارفور الثمن الأكبر.

سقوط النظام لم ينهِ المأساة، بل أعاد إنتاجها بأشكالٍ جديدة.

لا نعلم بالضبط كيف تحوّل الجيش إلى مؤسسة مثقلة بالتنافس الداخلي، فيما وُلدت قوات الدعم السريع من رحم الجنجويد، تحمل معها كل إرث العنف والانقسام.

وبين الطرفين، يقف الشعب السوداني بلا حماية، ضحية صراعٍ على من يرث البلاد وينقذها ويأخذها إلى بر الآمان. 

الهجوم على الفاشر لم يكن مفاجئاً لمن يقرأ المسار العام؛ فهو جزء من خطة طويلة لإعادة رسم خريطة دارفور سياسياً واقتصادياً، تمهيداً لمرحلة جديدة تُفرض فيها “الحماية الدولية” تحت لافتة “الإنقاذ الإنساني”.

لكن خلف هذه الشعارات تختبئ مصالح كبرى، تريد موطئ قدمٍ في قلب القارة الأفريقية وثرواتها من الذهب والنفط والمعادن النادرة.

دارفور اليوم ليست فقط جغرافيا منكوبة، بل هي شاهدٌ على عجز الضمير العالمي.

فبينما تُرتكب المجازر وتُحاصر المدن، لا يملك المجتمع الدولي سوى بيانات الشجب، في انتظار اللحظة التي يُعلن فيها “التدخل الإنساني” بغطاءٍ أممي جميل، فيما جوهره وصاية جديدة.

ومع كل ذلك، يبقى في السودان ما يستحق الحياة إرادة الناس العاديين الذين ما زالوا يتمسكون بالأمل رغم الدمار، والذين يرون في الفاشر ليس مدينة محاصرة فحسب، بل رمزاً لكرامة وطنٍ يريد أن ينهض من تحت الركام.

إن ما يحدث اليوم هو حصاد سنوات من الانقسام والغرور السياسي من شعارات “المشروع الرسالي” إلى أوهام “المنقذ العسكري”، ومن تقسيم الجنوب إلى تفكك الشمال، ظلّ الخط واحداً تآكل الدولة لحساب من يملك القوة والذهب والدعم الخارجي.

الفاشر اليوم جرحٌ مفتوح في الجسد العربي والأفريقي معاً، وصرخة تنبهنا إلى أن الوطن لا يُحمى بالشعارات، بل بالعدالة والمواطنة والمساءلة.

وإذا لم يتوقف هذا النزيف، فلن يبقى من السودان إلا خرائط جديدة يرسمها الآخرون، وأجيال تبحث عن وطنٍ بين الأنقاض.

الفاشر ليست مأساة محلية، بل مرآة لزمنٍ عربي فقد مناعته، زمنٍ تُسرق فيه الأوطان باسم الإنسانية، ويُعاد فيه إنتاج الخراب بوجوه قانونية أنيقة.

والسودان اليوم، بكل دخانه وألمه، ليس سوى الإنذار الأخير حين تُترَك الدولة لتأكلها انقساماتها، يتحول الوطن كله إلى منجمٍ مفتوحٍ ومأتمٍ طويل.