حالة السيد حسن نصر الله: الرهان الإسرائيلي على الروح وليس الجسد
كانت "إسرائيل" تدرك تماماً أنّ اغتيال السيد نصر الله لن يمرّ مرور الكرام، وأنّ ردّ الفعل سيكون عنيفاً، لكنها كانت تعتقد أنّ هذا الاغتيال سيحدث شرخاً لا يمكن إصلاحه في بنية حزب الله، وسيؤدّي إلى انهيار معنويات مؤيّديه.
-
الاغتيال: من القائد إلى الرمز (أرشيف).
تعدّ سياسة الاغتيالات التي تتبعها "إسرائيل" تجاه قادة وكوادر حركات المقاومة أداة استراتيجية معقّدة ومتعدّدة الأبعاد، تتجاوز مجرّد إزالة شخصيات مؤثّرة. إنها سياسة مصمّمة بعناية فائقة ليس فقط لإضعاف بنية هذه الحركات القيادية والعسكرية، بل لضرب الروح المعنوية للجماهير والبيئة الحاضنة، وقطع حبل الأمل في مشروع المقاومة ذاته.
إنها حرب نفسية بامتياز، تهدف إلى إحباط الناس ودفعهم إلى حالة من اليأس وفقدان الثقة في قدرة المقاومة على تحقيق أهدافها.
الاغتيال: من القائد إلى الرمز
في كثير من الأحيان، لا يكون الهدف من الاغتيال هو القائد أو الشخصية المستهدفة بحدّ ذاتها، بل ما تمثّله هذه الشخصية من رمزية وارتباط عميق بالجماهير.
القائد ليس مجرّد فرد، بل هو تجسيد للمشروع، للأمل، وللمستقبل الذي يتخيّله الناس. لذلك، عندما يتمّ اغتياله، فإنّ الرسالة التي تريد "إسرائيل" إيصالها هي أنّ هذا المشروع غير قابل للتحقيق، وأنّ ثمن المقاومة هو الموت والفشل.
هنا يكمن البعد التحليلي الأعمق لهذه السياسة، "إسرائيل" لا تراهن فقط على فعل الاستشهاد، بل على تداعياته. إنها معادلة صراع معقّدة، حيث يتمّ حساب كلّ خطوة وكلّ ردّ فعل محتمل.
بعد الاغتيال، تنتظر "إسرائيل" ردّ فعل الجمهور، هل سيصاب باليأس؟ هل سيتراجع عن دعمه للمقاومة؟ هل ستنشب خلافات داخلية؟ هذه هي الأسئلة التي تشغل بال المخططين الإسرائيليين. إنهم يريدون هندسة الواقع بعد الاغتيال، لخلق حالة من الفوضى والارتباك والإحباط.
حالة السيد حسن نصر الله: الرهان على الروح وليس الجسد
تعدّ حالة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، مثالاً بارزاً على هذه الاستراتيجية. طوال سنوات طويلة، كان السيد نصر الله على قائمة الاغتيالات الإسرائيلية، ليس فقط بسبب دوره القيادي، بل بسبب مكانته الرمزية وتأثيره العميق على الجماهير. "إسرائيل" لم تراهن على قتله جسدياً فحسب، بل على قتل ارتباط الناس بشخصه وخطه الفكري والسياسي.
كانت "إسرائيل" تدرك تماماً أنّ اغتيال السيد نصر الله لن يمرّ مرور الكرام، وأنّ ردّ الفعل سيكون عنيفاً، لكنها كانت تعتقد أنّ هذا الاغتيال سيحدث شرخاً لا يمكن إصلاحه في بنية حزب الله، وسيؤدّي إلى انهيار معنويات مؤيّديه. لقد راهنت على أنّ روح الناس، التي يمثّلها السيد نصر الله، هي نقطة ضعف يمكن استغلالها. لقد أرادت أن تقول للجمهور اللبناني والعربي: "مهما كانت قوة مقاومتكم، فإنها ليست قوية بما يكفي لحماية رموزها".
لكن، ما حدث كان عكس ذلك تماماً. كلّ محاولة لاغتياله، وكلّ تهديد صريح، لم يزد الناس إلّا تمسّكاً به وبمشروع المقاومة. لقد تحوّل إلى أيقونة، إلى رمز للصمود والمقاومة. وهذا يثبت أنّ الرهان على إحباط الجماهير وفقدانهم الأمل ليس دائماً رهاناً ناجحاً. إنّ الإرادة الحرّة للناس أقوى من أيّ محاولة لقتلها.
يشهد المشهد السياسي في الشرق الأوسط تحوّلات جذرية، وتؤدّي "إسرائيل" دوراً محورياً في رسم ملامح هذه التحوّلات. أحد أبرز استراتيجيات "إسرائيل" في مواجهة حزب الله هي محاولة فصل الحاضنة الشعبية عن قيادتها، وتحديداً عن شخص الشهيد أمينها العامّ، السيد حسن نصر الله. إنّ هذا الرهان الإسرائيلي يقوم على فرضيّة أنّ اغتيال نصر الله سيؤدّي إلى فراغ قيادي، وبالتالي انهيار التماسك الداخلي للحزب، وتشتيت الحاضنة الشعبية الموالية له.
تعتبر "إسرائيل" أنّ شخصية حسن نصر الله تمثّل نقطة ارتكاز أساسية في عقيدة حزب الله القتالية والسياسية. فخطاباته العاطفية، وحضوره الكاريزمي، وتاريخه الطويل في المقاومة، جعلوه ليس مجرّد قائد عسكري، بل رمزاً للمقاومة في نظر الكثيرين، سواء في لبنان أو في المنطقة العربية.
ومن هذا المنطلق، فإنّ اغتياله يبدو في الحسابات الإسرائيلية بمثابة "ضربة قاصمة" من شأنها أن تقوّض شرعية الحزب، وتضعف من عزيمة أنصاره، وتخلق انقساماً داخلياً يمكن لـ "إسرائيل" أن تستغلّه لصالحها.
ومع ذلك، فإنّ الواقع على الأرض، كما يتجسّد في أحداث مثل ما حدث في منطقة الروشة أو غيرها من المناطق، يعكس صورة مختلفة تماماً. إنّ هذه الأحداث، التي قد تبدو للوهلة الأولى مجرّد تجمّعات شعبية عفوية، تحمل في طيّاتها دلالات سياسية عميقة تشير إلى فشل الرهان الإسرائيلي.
فعلى الرغم من كلّ الضغوطات والعقوبات والحرب الإعلامية التي تشنّها "إسرائيل" وحلفاؤها، يبدو أنّ الحاضنة الشعبية لـ"حزب الله" لم تتقلّص، بل على العكس، تبدو أكثر تمسّكاً بخيار المقاومة.
ما الذي يفسّر هذا التمسّك؟ يمكن تحليل هذه الظاهرة من عدة جوانب:
فشل نظرية "الضربة القاصمة" أنّ "إسرائيل" تبالغ في تقدير تأثير الاغتيال على بنية حزب الله. فالحزب ليس مجرّد تنظيم عسكري يعتمد على شخص واحد، بل هو حركة اجتماعية وسياسية متجذّرة في المجتمع اللبناني، ولها مؤسساتها الخاصة، وشبكاتها الاجتماعية والاقتصادية، وعقيدتها الفكرية. بالتالي، فإنّ اغتيال القائد قد لا يؤدّي إلى انهيار الحركة، بل قد يعزّز من تماسكها وتصميمها على الانتقام.
إنّ التمسّك بخيار المقاومة بالنسبة للكثيرين في لبنان، خاصة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، ليس مجرّد خيار سياسي، بل هو جزء من هويتهم وانتمائهم. فلقد عانوا لسنوات طويلة من الاحتلال الإسرائيلي، وشهدوا بأعينهم تدمير قراهم ومنازلهم، وتضحيات شهدائهم.
وبالتالي، فإنّ المقاومة بالنسبة لهم هي السبيل الوحيد للحفاظ على كرامتهم وحقوقهم، وأي محاولة إسرائيلية لكسر هذا التمسّك ستكون بمثابة عدوان على وجودهم وهويتهم.
لقد حاولت "إسرائيل"، بالتعاون مع بعض القوى الإقليمية والدولية، تقديم بدائل أخرى لحزب الله، مثل دعم قوى سياسية معارضة، أو نشر خطاب "السلام" و"التطبيع". ومع ذلك، فإنّ هذه الاستراتيجيات فشلت في كسب قلوب وعقول الحاضنة الشعبية، بل على العكس، ربما زادت من تمسّكها بخيار المقاومة، خاصة في ظلّ استمرار سياسات "إسرائيل" العدوانية تجاه الفلسطينيين والدول العربية الأخرى.
إنّ الرهان الإسرائيلي على اغتيال حسن نصر الله كسبيل لفكّ ارتباط الحاضنة الشعبية بـ"حزب الله" يبدو رهاناً خاسراً. إنّ الواقع على الأرض، كما تعكسه أحداث الروشة وغيرها، يشير إلى أنّ الحاضنة الشعبية تتوسّع وتزداد تمسّكاً بخيار المقاومة، ليس فقط كدفاع عن قائد، بل كدفاع عن وجودها وكرامتها. إنّ المقاومة لم تعدّ مجرّد خيار سياسي، بل أصبحت جزءاً من هوية شعب، وهذا ما يفسّر فشل كلّ المحاولات لكسر هذا التماسك.
فشل الاغتيال كأداة لإطفاء الشعلة
في النهاية، يمكن القول إنّ سياسة الاغتيالات الإسرائيلية لم تنجح في تحقيق هدفها الأعمق: إطفاء شعلة المقاومة. نعم، قد تؤدّي إلى إزالة قادة عسكريين وسياسيين، وقد تسبّب في بعض الفوضى والارتباك، ولكنها لم تستطع كسر الإرادة الحرة للجماهير. على العكس، في كثير من الأحيان، أدّى الاغتيال إلى تعزيز مكانة الشهداء وتحويلهم إلى رموز خالدة، مما زاد من تمسّك الناس بالمقاومة.
إنّ الاغتيال ليس نهاية المطاف، بل هو فصل في صراع مستمر. إنّ الرهان ليس على فعل الاستشهاد بحدّ ذاته، بل على كيفيّة استيعاب هذا الفعل وتحويله إلى قوة دفع جديدة. في حالة السيد نصر الله، كان الرهان الإسرائيلي على روح الناس، لكنه خسر هذا الرهان، لأنّ هذه الروح أقوى من كلّ محاولات "إسرائيل" لكسرها.