أميركا وازدواجية المعايير: كيف تحوّلت "أوكرنافتا" إلى نموذج للنجاح عندما خَدَمَت المصالح الغربية؟
عندما يخدم التأميم الغرب يُقدّم كنموذج عالمي، وعندما يخدم طرفاً آخر يُصوّر على أنه "اشتراكية مدمرة". هذا ليس سياسة اقتصادية تقليدية، بل سياسة إمبراطورية بامتياز!
-
أوكرنافتا: شركة النفط التي فجّرت التناقض.
من أغرب مفارقات السياسة الدولية اليوم أن الولايات المتحدة، التي لا تكفّ عن الضغط على دول العالم الثالث لإجبارها على الخصخصة، وتقليص دور الدولة، وفتح الأسواق بلا قيود أمام الشركات الأجنبية، أصبحت تحتفي الآن بتجربة تأميم شركة نفطية في أوكرانيا وتصفها بـ"النموذج العالمي"!
هذه ليست مزحة ولا سخرية سياسية، بل واقع تؤكده تقارير المؤسسات الأميركية نفسها ومراكز الأبحاث الأوروبية، بل وحتى البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية.
القصة ليست تقنية ولا اقتصادية فحسب؛ بل هي نموذج صارخ لكيفية تحكم السياسة الأميركية في تعريف "النجاح" و"الفشل"، وكيف يُصبح التأميم جيداً ومُرحباً به عندما يُعيد توزيع المكاسب لمصلحة الغرب، فيما يُصبح "اشتراكية" و"فساداً" و"تهديداً للديمقراطية" عندما يَمسّ مصالحهم أو مصالح الشركات متعددة الجنسيات.
أوكرنافتا: شركة النفط التي فجّرت التناقض
شركة "أوكرنافتا" تُعدّ أكبر منتج للنفط والوقود داخل أوكرانيا، وكانت ملكيتها منذ التسعينيات موزّعة بين:
- 56% للحكومة.
- تقريباً 44% لرجل الأعمال الأوكراني-الإسرائيلي إيهور كولومويسكي عبر مجموعة "بريفات".
مع العلم أن الشركة ذاتها تأسست عام 1994 من خلال خصخصة مؤسسة الدولة "إدارة إنتاج أوكرنافتا" التي كانت موجودة منذ عام 1945، حينما كانت أوكرانيا إحدى الجمهوريات السوفيتية الـ 15، أي أن الفضل الأول في إنشائها يعود إلى جوزيف ستالين، الذي قاد الاتحاد السوفياتي ما بين عامي 1922 و1953.
كولومويسكي، الذي كان يتحكم في أوكرنافتا، منذ منتصف التسعينيات، هو أحد أشهر رجال الأوليغاركية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأحد المستفيدين من موجة الخصخصة المفترسة التي جعلت ثروات الدولة تنتقل إلى قلة مالية ضيقة. وقد تم تصنيفه كثاني أغنى رجل في أوكرانيا عام 2010، لكن، وكما العادة، فإن الرجل لم يكن مجرد ملياردير، بل كان لاعباً سياسياً مهماً، ويمكن تلخيص مسيرته آخر عشر سنوات في النقاط الستّ التالية:
١- دعم الثورة الملونة 2014 ضد الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، وحزبه الموالي لروسيا.
٢- قام بتمويل ميليشيات يمينية متطرفة مثل كتيبة آزوف لمواجهة المجموعات الأوكرانية في المناطق الشرقية، والتي تدعم التعاون مع موسكو.
٣- شغل منصب حاكم منطقة دنيبروبيتروفسك من عام 2014 حتى عام 2016.
٤- هاجم مراراً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ودعم التحالف مع واشنطن وعواصم غرب أوروبا.
٥- دخل في صدام مع الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو عام 2016 للسيطرة على مشغل خط أنابيب النفط المملوك للدولة. ومع تصاعد الأمور بين الرجلين، تمت إقالة كولومويسكي من منصبه، كما أُعلن أن البنك المملوك لمجموعته المالية، والذي يعاني من نقص رأس المال يشكل تهديداً للأمن المالي لأوكرانيا، وبالتالي نُقلت ملكيته إلى الدولة عام 2016.
٦- عام 2019، قدّم كولومويسكي الدعم لفولوديمير زيلينسكي لإزاحة بوروشينكو عن منصب رئيس أوكرانيا، وذلك من خلال المحطات التلفزيونية والصحف المملوكة له، مع العلم أن زيلينسكي كان قد أدّى في وقتٍ سابق دور البطولة في المسلسل الكوميدي "خادم الشعب" الذي عرض في إحدى المحطات التلفزيونية المملوكة لكولومويسكي. لذا، كان يُنظر إليه من قبل المعارضين، ولا سيما من قبل بوروشينكو، على أنه مرشح كولومويسكي.
حتى تلك اللحظة، كان كولومويسكي في نظر القطاعات الأوسع من الشعب الأوكراني ثرياً يحكم من خلف الستار، ويستخدم السلاح ولغة العصابات لترهيب خصومه، كما أنه يتهرّب من دفع الضرائب، ويسخّر موارد الدولة لخدمة مصالحهم الشخصية، ويقوم بغسل الأموال الناتجة من تلك الأعمال خارج البلاد. في المقابل، لم تكن الولايات المتحدة الأميركية ترى في كولومويسكي "فاسداً" أو "خطراً على الديمقراطية". على العكس، كان هناك صمت كامل، لكن كل شيء تغيّر مع نهايات عام 2019.
فجأة، بدأ كولومويسكي يبتعد عن النغمة الأميركي، وأبدى موقفاً أكثر إيجابية تجاه روسيا، مدفوعاً بخيبة أمله من الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، فاقترح الاستفادة من التمويل الروسي بدل الاعتماد على القروض الغربية، واعتبر أن الصراع في منطقة الدونباس صراع "مدني داخلي، وليس عدواناً روسياً خارجياً". وفي إبريل/نيسان 2022، لم يصدر عنه موقف واضح يُدين غزو روسيا
هنا، تغيّرت الرواية بالكامل، إذ تحوّلت الولايات المتحدة والسلطة الأوكرانية إلى عداء مفتوح تجاه الرجل. وبين ليلة وضحاها، فُتحت كل الملفات التي تدين كولومويسكي، والتي هي في الحقيقة امتداد للاتهامات التي وجهت إليه بواسطة السلطات الأوكرانية قبل عام 2014، ففساد الرجل كان معروفاً للجميع منذ 20 عاماً، لكن الملف لم يُفتح إلا عندما تغيّرت مواقفه السياسية، أو عندما قرر زيلينسكي الحدّ من قوة الأوليغارشيين وموازنة النفوذ وفرض سيطرته الشخصية على مؤسسات الدولة.
في ضوء تلك الأحداث، وبالتزامن مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تم تأميم "أوكرنافتا" عام 2022، أو بلغة أدق، سيطرت الحكومة على حصة مجموعة "بريفات"، وأصبحت الدولة تملك الشركة بنسبة 100%، وروّج أنصار زيلينسكي لتلك الخطوة باعتبارها أمراً ضرورياً بهدف "حماية الموارد الوطنية" و"مكافحة الفساد" و"تحصين الأمن القومي".
تلك الشعارات التي رُفعت في كييف، بدعم أميركي، تُعتبر — وفق الخطاب الأميركي التقليدي — "خرافات اشتراكية" أو "خطاباً قديماً من زمن الحرب الباردة"، لكن في أوكرانيا، أصبحت هذه الشعارات فجأة مقبولة، محمودة، ومدعومة أميركياً.
والسبب أن واشنطن لم تعد تثق بمالك الشركة، ولأن السيطرة على قطاع الطاقة الأوكراني تُعدّ جزءًا من استراتيجية إعادة تشكيل اقتصاد أوكرانيا وفق نموذج لا يسمح بوجود مراكز قوة منافسة للنفوذ الأميركي.
المفارقة: الغرب يحتفي بالتأميم.. لأنه يخدم مصالحه
الفارق أن الدول النامية — من مصر إلى الأرجنتين إلى باكستان — عندما تتحدث عن تأميم قطاعات استراتيجية، تُتهم بأنها مُعادية للسوق، وتُرهب المستثمرين، وتسحق القطاع الخاص، وتعمل ضد للتنمية. أما في أوكرانيا، فقد تحولت إلى نموذج عالمي!
بعد ثلاث سنوات من تأميم الشركة، بدأت مراكز الأبحاث الغربية مثل CEPA تنشر تقارير تقول إن التأميم "قصة نجاح"، وتتحدث عن نجاح الشركة في دفع 375 مليون دولار ضرائب دفعتها في سنة واحدة — أكثر من إجمالي ما دفعته خلال عشر سنوات، وعن ارتفاع مبيعات المحطات 20% في الربع الأول من 2025 رغم تراجع السوق، مع نمو في إنتاج النفط 5%، ونمو في إنتاج الغاز 1.7%.
حتى البنك الأوروبي (EBRD) بدأ ضخ قروض بملايين الدولارات لتوسيع الإنتاج، وهذه القروض كانت مستحيلة في ظل إدارة كولومويسكي، لأنها كانت ستُعتبر تمويلاً للأوليغاركية، لكن حين أصبحت الشركة "تحت سيطرة الدولة" — وبالأخص تحت سيطرة دولة تعمل وفق المعايير الغربية — صار التمويل متاحاً.
في المقابل، عندما يتحدث بلد عربي أو أفريقي عن حماية قطاع استراتيجي عبر إدارته من قبل الدولة، يصبح ذلك "سياسة سيئة" أو "معاداة للاستثمار"، ولكن عندما تقوم أوكرانيا — الشريك السياس والعسكري والأيديولوجي لواشنطن — بتأميم أحد أكبر أصول الطاقة، يصبح هذا التأميم "درساً للعالم"، وتُلفت أنظار الجميع إلى دراسة الاقتصاد الأوكراني الذي يعاد تشكيله بالكامل وفق المصالح الغربية، وما حدث مع "أوكرنافتا" جزء من عملية أوسع تشمل:
أ- إعادة هيكلة القطاع العسكري بحيث يصبح معتمداً على التكنولوجيا الأميركية.
ب- ربط قطاع الطاقة بالشركات الأميركية والأوروبية.
ج - تحويل أوكرانيا إلى سوق مفتوحة للشركات الغربية بعد الحرب.
د- إقصاء الأوليغاركية التقليدية، لأنها قد تعيد بناء علاقات مع روسيا في المستقبل، إذ إنها تتحرك وفق مصالحها الخاصة.
هـ - تحويل الدولة الأوكرانية إلى نموذج اقتصادي قائم على "الحوكمة الغربية" — أي وفق رؤى المؤسسات الأميركية والأوروبية.
ليست الأيديولوجيا بل المصالح
إذاً، القضية ليست "تأميماً" مقابل "خصخصة"، بل إن القضية هي: هل هذه الشركة تقع تحت نفوذ طرف يتماشى مع واشنطن أو لا؟ فالولايات المتحدة وصندوق النقد يفرضان على الدول الفقيرة بيع أصولها، وتقليل دور الدولة، ورفع الدعم، وإفساح المجال أمام الاستثمار الأجنبي، لكن الحكومة الأميركية نفسها تتدخل لإدارة الاقتصاد وتوجيهه حين يستدعي الأمر ذلك.
خلال الحرب العالمية الثانية، سيطرت الحكومة الأميركية عملياً على الاقتصاد، واستخدمت أسلوب التوجيه لضمان تعبئة الموارد للحرب، فقد أعطت الحكومة أوامر مباشرة للمصانع لإنتاج الأسلحة والطائرات والدبابات والذخائر، وأرغمت مؤسسات كبيرة مثل فورد وجنرال موتورز بالكامل على الإنتاج العسكري.
كما تولت الحكومة تخصيص المواد الخام الأساسية مثل الصلب والنفط والأخشاب وفقاً للأولويات العسكرية، وقامت بإنشاء مجلس للتحكم في الأسعار والأجور بهدف منع التضخم، فكان كل شيء حينها يُدار من أعلى، وعلى القطاع الخاص الالتزام الكامل.
وفي أزمة عام 2008، أمّمت الدولة مؤقتاً بنوكاً وشركات سيارات لمنعها من الانهيار، ولحماية العملية الاقتصادية. وعام 2020، استخدم دونالد ترامب، خلال فترة رئاسته الأولى، قانون الإنتاج الدفاعي الأميركي (DPA)، الذي يعود إلى عام 1950 خلال الحرب الكورية، وهدفه الأصلي هو تمكين الحكومة الأميركية من "إجبار الشركات الخاصة على إنتاج سلع ضرورية للأمن القومي أو لتلبية احتياجات الطوارئ". وقد حدث ذلك خلال جائحة كوفيد-19، حين تم إجبار شركات السيارات جنرال موتورز على تصنيع أجهزة التنفس الاصطناعي، كما استُخدم لاحقاً، في عهد جو بايدن، لتوجيه شراكة ميرك وجونسون آند جونسون لتمويل وتجهيز مصانع ميرك في مارس 2021 لإنتاج لقاح J&J.
وهناك أمثلة أخرى لتدخل الدولة الأميركية في الاقتصاد من دون أي التفات إلى شعارات "دعه يعمل، دعه يمرّ"، فهناك إصرار ترامب على فرض تعريفات جمركية عالية جداً على المنتجات الصينية لحماية المُصنّعين الأميركيين، واستهداف شركات تكنولوجية محددة مثل هواوي، بدعوى الأمن القومي، وهناك أيضاً رفض جو بايدن بيع شركة "يو إس ستيل" الأميركية لـ"نيبون" الياباني، مؤكداً أن "صناعة الصلب التي يملكها ويديرها أميركيون تمثل أولوية أساسية للأمن القومي"، وكان هذا قبل رحيله من منصبه بأسابيع معدودة.
سياسة إمبراطورية: التدخل الاقتصادي باسم المصالح
تُنتقد بعض الدول عندما تتدخل في اقتصادها، فيما يُشجع تدخل دول أخرى، وهذا يُظهر جوهر التناقض الأميركي في السياسات الاقتصادية.
الولايات المتحدة لا تعارض التأميم أو الخصخصة من حيث المبدأ، بل تقيّم كل حالة بحسب من سيستفيد ومن سيتضرر: إذا كان التأميم يقوّي الدولة على حساب الشركات الغربية، فيُنظر إليه سلباً، وإذا كان يضعف مليارديراً غير موالٍ ويعزز قدرة الشركات الغربية، فيُعتبر إيجابياً.
قصة تأميم شركة "أوكرنافتا"، وأمثلة عديدة أخرى، توضح هذا بجلاء، فهي ليست مسألة فساد أو تحسين لآليات الإدارة، بل إعادة توزيع النفوذ الاقتصادي بما يخدم مصالح واشنطن.
عندما يخدم التأميم الغرب يُقدّم كنموذج عالمي، وعندما يخدم طرفاً آخر يُصوّر على أنه "اشتراكية مدمرة". هذا ليس سياسة اقتصادية تقليدية، بل سياسة إمبراطورية بامتياز تتحكّم في كيفية إدارة اقتصاد دولة وفقاً لأولويات القوة العالمية.