بين الإمبراطورية الأميركية والإمبراطورية البريطانية
أدرك المؤيدون للإمبراطورية البريطانية أن أعداء الإمبراطورية يُقتلون لأنهم رفضوا الخضوع الكامل للملك ومطالبه. بينما يعتقد المؤيدون للإمبراطورية الأميركية أن الولايات المتحدة وحلفاءها يهاجمون الأشرار دائماً.
-
القوة الغاشمة مقابل التلاعب بالعقول.
اتخذ الصعود الأوروبي من مزاعم "الاكتشافات الجغرافية"، ومبدأ الحرب العادلة، وشرعية الغزو والفتح الروماني، وعبء الرجل الأبيض تجاه الارتقاء بالشعوب البدائية والمتخلفة، تكئة لشرعنة الغزو والاحتلال، ومبرراً لاستباحة قارات العالم وإبادة سكانها ونزح ثرواتها إلى المتروبوليتان الأوروبي وإقامة كيانات استيطانية أوروبية في ما وراء البحار.
تقاسمت الإمبرياليات الأوروبية قارات العالم، فتكوّنت لها إمبراطوريات وثروات هائلة نتج عن تراكمها الثورة الصناعية وقيام الرأسمالية بمنظوماتها وأزماتها المزمنة؛ ورافق ذلك تأسيس منظومات سياسية وتشريعية ودستورية لاستدامة المشروع الإمبريالي الرأسمالي، وبعضها لا يبتعد في جوهره كثيراً عن الشمولية والفاشية.
هكذا تشكل النظام الدولي على أساس الاستعمار والاستيطان والعنف والنهب المتواصل واستباحة العالم؛ وهكذا اكتملت ركائز المشروع الغربي: الإمبريالية والرأسمالية والعنصرية والفاشية صريحة وكامنة.
الاستعمار والاستحمار
في هذا السياق، تساءلت الكاتبة الأسترالية المستقلة، كايتلين جونستون، مؤخرًا عن الفارق بين طبيعة الإمبراطورية الأميركية وطبيعة الإمبراطورية البريطانية، لتقدم مقارنة هامة بين الإمبراطوريتين في أمور جوهرية تميز جيدًا بين سمات وآليات الاستعمار (القديم) والاستعمار (الجديد) أو بالأحرى "الاستحمار"، كما سمّاه المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي.
فأحد الفوارق بين أنصار الإمبراطورية البريطانية وأنصار الإمبراطورية الأميركية هو أن أنصار الإمبراطورية البريطانية كانوا يعلمون أنهم يدعمون إمبراطورية صريحة.
كذلك، يؤيد أنصار الإمبراطورية البريطانية المجازر العسكرية الجماعية التي ارتكبتها حول العالم، وقد أيدوا ذلك لأنهم يدعمون التاج البريطاني وأرادوا من جلالة الملك أن يُحضّر أولئك المتوحشين الملحدين ويرتقي بهم ليصبحوا لائقين كرعايا لجلالته، بل وأن يُحوّل العالم كله إلى رعاياه.
أما من يدعمون إمبراطورية الولايات المتحدة في حروبها حول العالم، فإنهم يعتقدون أنها تفعل ذلك لأن صدام حسين ديكتاتور شرير، ومُعمّر القذافي ديكتاتور شرير، وكارلوس مادورو ديكتاتور شرير، وحماس وحزب الله والحوثيين إرهابيون أشرار، وهكذا.
أدرك المؤيدون للإمبراطورية البريطانية أن أعداء الإمبراطورية يُقتلون لأنهم رفضوا الخضوع الكامل للملك ومطالبه. بينما يعتقد المؤيدون للإمبراطورية الأميركية أن الولايات المتحدة وحلفاءها يهاجمون الأشرار دائمًا باسم نشر الحرية والديمقراطية، وإذا كان هذا يحدث بهدف الدفع قدمًا بأجندات جيوستراتيجية قائمة مُسبقًا أو مصالح متعلقة بالموارد، فذلك مصادفة محض!
القوة الغاشمة مقابل التلاعب بالعقول
مبكرًا، أدرك المؤيدون للإمبراطورية البريطانية أنهم يعيشون في ظل إمبراطورية حقيقية: مظلة من القوة تتألف من مستعمرات ومحميات ومناطق نفوذ وانتدابات وأقاليم تمتد عبر العالم. في حين يعتقد المؤيدون للإمبراطورية الأميركية أنه من قبيل المصادفة تمامًا وجود تكتل ضخم من الدول يتحرك بتناغم شبه كامل في جميع أجندات السياسة الخارجية، ويشن حروبًا مستمرة على دول ليست جزءًا من هذا التكتل.
كانت الإمبراطورية البريطانية صريحة تمامًا بشأن ماهيتها. كانت تغزو وتحتل أي مكان، وتبلغ سكانه أنهم أصبحوا رعايا بريطانيين، وتجبرهم على رفع العلم البريطاني Union Jack على السواري. أما الإمبراطورية الأميركية، ذات الهيكل الفضفاض المتمحور حول واشنطن، فهي تسمح لدولها الأعضاء بالاحتفاظ بأعلامها الخاصة والتظاهر بأنها دول ذات سيادة، بينما تتصرف بطرق لا تختلف جوهريًا عن رعايا الإمبراطورية البريطانية.
كانت الإمبراطورية البريطانية صريحة وغير معتذرة عن نهب موارد الشعوب ذات البشرة الداكنة التي غزتها واستخدام تلك الموارد لتحسين حياة الناس في مركز الإمبراطورية. لكن في الإمبراطورية الأميركية، تُستخرج هذه الموارد بالطريقة نفسها، ولكن تحت غطاء شعارات مثل "فتح الأسواق" و"التجارة الحرة" و"العولمة" و"التنمية" و"الاستثمارات".
تم الحفاظ على الإمبراطورية البريطانية بالقوة الغاشمة والتلقين العلني. أُخضع الناس بالقوة، ثم تمّ تعليمهم على مر السنين ليعتقدوا أن العيش تحت التاج الملكي البريطاني يخدم مصالحهم؛ وإذا ما حاولوا الاستقلال، فسيتم إرسال قوات السترات الحمراء العسكرية الخاصة لتذكيرهم بكرم جلالة الملك.
تُحافظ الإمبراطورية المركزية الأميركية على مكانتها بكثير من القوة الغاشمة أيضًا، لكن سلاحها الرئيس هو التلاعب النفسي. إنها تمتلك أحدث آلة دعائية عرفتها البشرية ولا نظير لها من قبل، وتُدرّب عقول رعاياها على دعم جميع أجنداتها المتنوعة من الرأسمالية والعسكرة والإمبريالية والهيمنة العالمية، تحت ستار وسائل الإعلام الإخبارية، وإنتاجات هوليوود، وخدمات تكنولوجيا وادي السيليكون.
ثورات ملوّنة
وهنا، لا بد أن نتذكر المفكر الأميركي، جوزيف ناي، وكتابه حول مستقبل القوة الأميركية، الصادر عام 1990، بعنوان: "حتمية القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية". يقدم جوزيف ناي رؤيته للقوة الأميركية ويقترح إطاراً نظرياً يميز بين نوعين من القوة: القوة الصلبة، أي القوة الغاشمة والإكراه والتلقين الفظ كالتي اعتمدتها الإمبراطورية البريطانية، والقوة الناعمة التي اعتمدتها الإمبراطورية الأميركية ومقوماتها من الدعاية أو البروباغندا والتلاعب بالعقول والقلوب والحلم الأميركي وأفلام هوليوود والسيارات الفارهة ومنتجات الكوكاكولا.
للمفارقة، ورغم أن الإمبراطورية الأميركية خاضت حتى الآن أكبر عدد من الحروب والصراعات والإبادات في تاريخ إمبراطوريات العالم، يرى ناي أن القوة الأميركية لا تتمظهر دائماً كقوة صلبة، وأن القوة الناعمة، من دبلوماسية وتحالفات واعتماد متبادل ونفوذ ثقافي واسع، كفيلة باستمرار القوة الأميركية، وأنها لا تزال القوة العالمية المهيمنة!
تجد الدول المتمردة على السيطرة الإمبراطورية منظوماتها المعلوماتية غارقة بوسائل إعلام إعادة التثقيف التابعة لـ"الصندوق القومي للديمقراطية"، والتي تُخبرها لماذا لا تخدم حكومتها الحالية مصالحها، وإذا لم يُفلح ذلك، فستكون هناك "ثورة" – أو بالأحرى "ثورات ملونة"، برتقالية أو خضراء أرجوانية – وقد تعترف وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بعد عقود أنها حرّضت عليها ونظمتها وموّلتها.
ترى جونستون أن الإمبراطورية الأميركية هي نسخة أكبر وأقوى وأكثر مكرًا وخداعًا وأقل صدقًا وأكثر تلاعبًا مما كانت عليه الإمبراطورية البريطانية. أبلغت الإمبراطورية البريطانية رعاياها أنهم مِلكٌ للملك وعليهم أن يمتثلوا لطاعة أوامر جلالته. في حين تُخضع الإمبراطورية الأميركية الشعوب بخداعهم ليعتقدوا أنهم أحرار.
مآلات الإمبراطوريات
في 1988، أصدر المؤرخ البريطاني بول كينيدي، الأستاذ بجامعة ييل الأميركية، عمله الأهم: "قيام وسقوط القوى العظمى"، خلص فيه إلى معادلة اقتصادية سياسية تحكم مسار القوى العظمى منذ القرن السادس عشر حتى التاريخ المعاصر: تبدأ القوى العظمى ومشروعاتها الإمبراطورية في التراجع أو الأفول عندما تتجاوز أكلاف مشروعات الإمبراطورية قدراتها العسكرية والاقتصادية وعوائدها المتحققة. وأذكرُ آنذاك أن مجلة "تايم" نشرت في عددها الصادر بعد صدور كتاب كينيدي بأيام خبرًا موجزًا حول الكتاب وأطروحته بعنوان بالغ الدلالة: "تحذير! أخبار سيئة للقوى العظمى".
من هذه الخلفية، يستدعى كنيدي، في مقال قبل عقدين، خبرة اللورد سالزبري، رئيس وزراء الإمبراطورية البريطانية في عصر الملكة فيكتوريا. فعندما يتباين أو يتباعد مسار السياسة الخارجية للدولة عن قدراتها العسكرية؛ يحذر سالزبري هذه الدولة أن عليها أن تنتبه! وحين تسير سياسة البلاد الخارجية في طريق، بينما تسير ظروفها الاستراتيجية وقدراتها العملية في طريق آخر، يؤدي ذلك حتمًا في نهاية المطاف إلى "كوارث ومهانة وتشويه للسمعة الوطنية".
تنطبق تلك الكلمات على ما تواجهه السياسة الخارجية الأميركية في العقدين الأخيرين، وعلى ما كانت تواجهه السياسة الخارجية البريطانية في القرن التاسع عشر.
فلدى الولايات المتحدة حالياً سياسة خارجية معلنة والتزامات عديدة بالغة هي: الحرب الباردة الجديدة والاحتواء المزدوج لكل من الصين وروسيا ومنع تحالفهما ومطاردة نفوذهما في العالم، وحماية تايوان من الغزو الصيني، ومحاولة تغيير النظام الحاكم في فنزويلا، واستمرار استنزاف روسيا بدعم أوكرانيا عسكريًا والحيلولة دون هزيمتها، والسيطرة على المشرق والخليج، وردع إيران وحلفائها الإقليميين عقب العدوان الإسرائيلي- الأميركي عليها، وتفكيك البرنامج النووي الإيراني، وفرض خطة ترامب في قطاع غزة، والسيطرة على عصيان نتنياهو ونشوزه.
لا حاجة إلى القول إن هذه الأهداف أكبر من قدرة الإمبراطورية الأميركية، ولو عُرضت على اللورد سالزبري أو معاصره العظيم المستشار الألماني فون بسمارك، فإن أول سؤال سيخطر في بال الرجلين: هل تتوفر قدرات كافية لمعالجة هذه التحديات الهائلة؟!