"إسرائيل" أمام معضلة "اليوم التالي"

"إسرائيل" العاجزة عن حسم مسألة سلاح حماس لن تكون قادرة بالطبع على حسم سلاح حزب الله، ولا صواريخ إيران بعيدة المدى، ولا قدرات أنصار الله البحرية والصاروخية.

  • "إسرائيل" غير قادرة على الحسم.

معادلة الحروب تُقاس في اليوم التالي، فالحرب ليست غاية بحدّ ذاتها، بل أداة لفرض وقائع جديدة وتحقيق مصالح طرفٍ على حساب آخر.

لذلك، فإنّ نجاح أيّ حرب لا يُقاس بحجم الإنجازات التكتيكية والعملياتية التي تحقّقها الآلة العسكرية؛ فكثير من الجيوش عبر التاريخ حقّقت انتصارات باهرة في الميدان، واحتلت مساحات واسعة، وأوقعت خسائر كبيرة في خصومها، لكنها لم تنجح مع مرور الزمن في استثمار هذه النتائج استراتيجياً أو في تثبيت واقع جديد طويل الأمد على المستويين الجيوسياسي والاستراتيجي.

وتُظهر أمثلة كثيرة في التاريخ الحديث والقديم هذه الحقيقة؛ من فيتنام وكوريا الشمالية وأفغانستان والعراق وصولاً إلى لبنان. فقد شهدت هذه البلدان محطات شكّلت دليلاً واضحاً على عجز القوة العسكرية، رغم جبروتها، عن تغيير الواقع الميداني لأنها افتقرت إلى مشروع واقعي لليوم التالي للحرب.

هذا الملف طرح منذ اليوم الأول لبدء العدو حربه التي سمّاها "السيوف الحديدية"، والتي شنّها على خلفيّة عملية طوفان الأقصى التي شكّلت صدمة عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، مخلّفة ندوباً زعزعت ثقة "إسرائيل" الوجودية بقدرتها على البقاء ككيان آمن ومستقر.

وقد اعتمد العدو في محاولته لمعالجة هذه الأزمة تطوير عملياته الحربية معتمداً على تفوّقه الاستخباراتي والتكنولوجي والتسليحي، إضافة إلى الدعم غير المحدود من الولايات المتحدة. فشنّ سلسلة حروب في ساحات متعدّدة، من لبنان إلى سوريا واليمن وإيران، وبلغت ذروة الغطرسة في هجومه الجوي على الدوحة، عاصمة قطر، الحليف الخليجي لواشنطن والمستضيف لأكبر قاعدة أميركية في المنطقة.

انطلقت هذه الحروب من عقيدة ارتكزت على انتهاء مرحلة الاحتواء والمعارك بين الحروب، والانتقال إلى مرحلة الحسم التي ترى "إسرائيل" فيها ضرورة التخلّص جذرياً ونهائياً من أيّ تهديد. وعلى هذا الأساس وضعت "تل أبيب" تصوّراً لـ"النصر المطلق"، يقوم على تفكيك قوى المقاومة وإحداث تغيير عميق في الواقع الجيوسياسي، وهو ما عبّر عنه رئيس حكومة العدو، نتنياهو، بالحديث عن "تغيير الشرق الأوسط" وصولاً إلى الهدف الأكثر طموحاً: قيام "إسرائيل الكبرى".

هذه الأهداف الضخمة، التي شكّلت مادة للنقاش والجدل داخل الكيان وفي العلاقة بين "تل أبيب" وواشنطن، تُطرح تحت عنوان "اليوم التالي".

ولا يقتصر مفهوم اليوم التالي على ساحة غزة وحدها، وإن كانت غزة هي المركز والمختبر الأساسي له، باعتبارها الساحة التي انطلقت منها شرارة هذه المرحلة من الصراع، لكنه يمتدّ ليشمل المنطقة بأسرها.

اليوم، ومع الخفوت الجزئي لصوت المدافع وهدير الطائرات، بدأت النقاشات تأخذ بُعداً أكثر جدّية حول طبيعة "اليوم التالي". كما انخرطت دوائر الدراسات والأبحاث السياسية والعسكرية في الكيان، وكذلك في الولايات المتحدة الأميركية، في هذا النقاش.

وفي هذا السياق، كتبت شيرا إيفرون في صحيفة نيويورك تايمز مقالاً بعنوان: "الحقيقة المزعجة بشأن انتصار نتنياهو". وأشارت إيفرون، التي تشغل منصب كرسي السياسة الإسرائيلية وزميلة أولى في مؤسسة راند، إلى أنّ "الافتراض السائد في أورشليم هو أنه، رغم عدم استئناف القتال الشامل، فإنّ الجيش الإسرائيلي سيستمر في شنّ ضربات كلما رصد تحدّيات". وترى الباحثة أنّ "الحقيقة المزعجة هي أنّ هذا الانتصار هو في الواقع هزيمة. هزيمة ضرورية ومباركة لرؤية هذه الحكومة، إذ يتعارض الاتفاق (اتفاق غزة) بشكل مباشر مع ما سوّقته الحكومة الإسرائيلية على مدار عامين من وعود بالانتصار الكامل وتدمير حماس".

في الجبهة اللبنانية، تزايدت التصريحات الرسمية الأخيرة لـ "جيش" العدو، والتسريبات الواسعة في الصحافة الإسرائيلية حول تعاظم قدرات حزب الله واستعادته عافيته بشكل كبير، ما أثار قلقاً متجدّداً لدى مستوطني الشمال. وقد جاءت هذه التطوّرات مناقِضة تماماً للرواية الإسرائيلية التي روّجت لضعف المقاومة اللبنانية.

أما على المستوى الإيراني، فيتواصل الحديث داخل "إسرائيل" عن حرب لا مفرّ منها مع طهران، وأنّ المسألة هي مسألة وقت لا أكثر.

صحيح أنّ الوقائع تؤكّد أنّ "إسرائيل" شنّت حروباً على سبع جبهات، وقد حقّقت بالفعل إنجازات تكتيكية وأحياناً عملياتية في أكثر من ساحة، لكنّها عاجزة حتى الآن عن إقفال هذه الجبهات أو حسم نتائج حروبها. وقد عبّر عن هذه الحقيقة رئيسُ أركان "جيش" العدو بقوله: "إنّ الجيش الإسرائيلي لا يزال يعمل على مختلف الجبهات"، وكذلك رئيس حكومة العدو بقوله: "إنّ العمل لم ينتهِ بعد".

وقد لخّص هذه المعضلة الباحث عزرا جات—الباحث الأول في التاريخ العسكري في جامعة "تل أبيب" ورئيس برنامج الماجستير في الدبلوماسية والأمن—بقوله: "إنّ فكرة الشرق الأوسط الجديد التي بدأت وهماً في وقتها، هي في أحسن الأحوال مشروع لأجيال قادمة."

وانطلاقاً من هذا الواقع، يعتبر كثير من الباحثين أنّ تدخّل ترامب في خطة وقف الحرب في غزة لم يكن سوى محاولة أميركية لإنتاج "يوم تالٍ" برعاية واشنطن، تعوّض فشل "إسرائيل" في حسم حروبها المفتوحة، بحيث تستخدم الولايات المتحدة نفوذها العسكري والاقتصادي لاستثمار نتائج هذه الحروب في مشروع "شرق أوسط جديد" بنكهة أميركية أكثر منها إسرائيلية.

لكن يبقى السؤال المركزي: هل تستطيع واشنطن تحقيق هذا الهدف؟ وهي التي عجزت على مدار أكثر من 40 عاماً عن تحقيق التسوية التي سعت إليها، من كامب ديفيد إلى اتفاق 17 أيار، وصولاً إلى أوسلو ووادي عربة، وهي اتفاقيات اندثرت بمعظمها، وتلاشى معها وهمُ إيجاد تسوية للصراع حول فلسطين.

تظهر هذه الحقيقة أيضاً في مقالة شيرا إيفرون نفسها، إذ تعلّق على اتفاق غزة بالقول: "يمكن فهم سبب احتفال حكومة نتنياهو بالاتفاق، ولكنّ وقف إطلاق النار قد يكون مؤقتاً." وتضيف "أنّ الاعتراف بغير ذلك يعني الاعتراف بحقيقة لا تُطاق، وهي أنّ أطول حرب كبرى في تاريخ إسرائيل، وتحويل غزة إلى أنقاض، والعزلة المتفاقمة دولياً، لم تؤدِّ إلى الرؤية الموعودة، بل إلى تسوية تفاوضية تعيد إحياء الأفكار نفسها التي قضى نتنياهو حياته المهنية في معارضتها".

ومن ذلك يتبيّن أنّ هناك تعارضاً جوهرياً ووجودياً بين ما تريده "إسرائيل" وما هو حقٌ لشعوب المنطقة، وأنّ الولايات المتحدة فشلت في إيجاد تسوية نتيجة انحيازها الكامل لـ "تل أبيب"، في حين فشلت "إسرائيل" نفسها في فرض هذه التسوية بالقوة—لا سابقاً ولا اليوم، رغم ذروة القوة العسكرية التي تحوّلت صورتها معها عالمياً إلى رمز لـدولة الإبادة الجماعية.

وتصف دراسة بحثية صادرة عن معهد أبحاث الأمن القومي—للباحثين يوئيل غوزنسكي، وعوفر غوتمان، وغاليا ليندشتراوس—المعضلة بقولها: "إنّ المعضلة الاستراتيجية المتعلّقة بصوغ اليوم التالي في قطاع غزة وعلى الساحة الفلسطينية بأسرها تتعمّق، ما دامت إسرائيل تعارض إشراك السلطة الفلسطينية فعلياً في السيطرة على القطاع وترفض الانخراط في مسار قابل للاستمرار نحو إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح". وتخلص الدراسة إلى أنّ هذه المعضلة ستظلّ قائمة حتى لو أجرت الولايات المتحدة و"إسرائيل" مواءمات في تطبيق تصوّر ترامب.

وبدوره، كتب جوناثان بانيكوف، نائب مسؤول الاستخبارات الوطنية للشرق الأدنى سابقاً، في فورين أفيرز: "إذا سُمح لحماس بإعادة تأكيد نفوذها واضطرّت إسرائيل إلى مواصلة التدخّل بهذا النطاق أو بنطاق أوسع، فقد يصبح وقف إطلاق النار مجرّد فاصل مؤقت آخر في صراع لا نهاية له". ويضيف: "أظهرت الأشهر الأخيرة عجز إسرائيل عن تحقيق هدف نزع سلاح حماس". وبواقعية شديدة يكتب: "إذا عادت إسرائيل إلى مواجهة حماس عسكرياً، فهدفها الواقعي يجب أن يكون الاحتواء وتقليل مستوى التهديد". ويجزم قائلاً: "ستعلق إسرائيل في إعادة احتلال غزة من دون تحقيق تقدّم في تعزيز أمنها على المدى الطويل إذا أصرّت على هدف نزع سلاح حماس بالكامل".

وبالخلاصة، فإنّ "إسرائيل" العاجزة عن حسم مسألة سلاح حماس لن تكون قادرة بالطبع على حسم سلاح حزب الله، ولا صواريخ إيران بعيدة المدى، ولا قدرات أنصار الله البحرية والصاروخية، ولا السيطرة على الضفة الغربية الرافضة للاستيطان ومحو الهوية.

هذه هي حقيقة "إسرائيل" التي وصفها ستيفن وولت في مجلة فورين بوليسي قائلاً إنّ "إسرائيل ليست دولة طبيعية بسبب أصولها التاريخية وتراكم مآسي العداء الأوروبي لليهود وإرث الهولوكوست، ووجودها في منطقة شديدة الصراع ". وأضاف "أنها باتت تتطابق أكثر مع تعريف العالم السياسي الإسرائيلي يحيزكيل درور لـ (الدولة المجنونة) التي تسعى لتحقيق أهداف عدوانية تضرّ بالآخرين غالباً".

ومن يتأمّل ما جرى خلال العامين الماضيين يمكنه الجزم بأنّ الحرب الطويلة لن تحسم الصراع ولن تغيّر الشرق الأوسط، لأنّ كياناً مؤقتاً مصطنعاً لا يمكن له أن يعيش بأمن أو يصبح طبيعياً وهذا حال كلّ الدول المستعمِرة والمحتلة والمتغطرسة قديماً وحديثاً.