"عن الرجال والفئران"

لن يقتل الأميركي الذكي صديقه الإسرائيلي الغبي، لكنه سيبحث عن تسوية تسمح للفئران بالخروج من جحورها، وتلعب دور المنتصر. هذه المرة ستكون التسوية بشروطنا، ولن تشبه تسوياتهم التي تعوق النضال.

0:00
  • "إسرائيل" ليست حليفاً للغرب الاستعماري، لأنها ببساطة جزء من الاستعمار نفسه.

رواية لجون شتاينبك نشرها عام 1937 تتناول أوضاع الغرب الأميركي في زمن الكساد والجفاف، من خلال صديقين، أحدهما شديد الذكاء والآخر يعاني من إعاقة عقلية، يبحثان عن حلم إنشاء مزرعتهما الخاصة.

تنتهي الرواية بقيام الصديق الذكي بقتل صديقه المعوّق بعد أن ورطهما في جريمة قتل. كان رأي معظم النقاد أن القتل كان لحماية الصديق المعوّق من التعذيب ومعاناة المحاكمة والإعدام، لكنني أرى أن الصديق الذكي قدّر العواقب، واختار النجاة بدلاً من إعدام كليهما.

تنطبق أحداث الرواية على الكثير من الممارسات السياسية للغرب الاستعماري عبر تاريخه. ذلك التاريخ حافل بالتخلي عن الحلفاء في سبيل المصالح، وترك الحلفاء ليلقوا أبشع مصير كما حصل مع شاه إيران وديكتاتور تشيلي أوغستو بينوشيه، وزين العابدين بن علي، وحسني مبارك وعشرات غيرهم. في كل مرة تتعرض فيها مصالح الغرب الاستعماري للخطر، يقدم كبش فداء من حلفائه، ويتظاهر بقبول التغيير على الأرض، لكنه سرعان ما يحوّل الأزمة إلى فرصة تمكّنه من استعادة هيمنته، وفي معظم الأحيان، بصورة أكثر قسوة وبشاعة.

هذا السلوك الغربي يدفع البعض إلى التساؤل عن إمكانية تخلي الغرب عن الكيان الصهيوني كحليف رئيس له في المنطقة، أو على الأقل، التخلي عن دعم بنيامين نتنياهو وحكومته في سياق تسوية إقليمية، يقودها "المعتدلون" العرب والصهاينة. يروّج هذا البعض لرغبة أميركية بتجنب توسيع الحرب وتحويلها إلى حرب إقليمية تشغل الولايات المتحدة عن حروبها الرئيسة مع روسيا في أوكرانيا، ومع الصين في مضيق تايوان. كلتا الحربين لا تتعلقان بالجغرافيا قدر ما تمثلان التعبير العسكري عن الحرب التجارية التي بدأت في فترة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. يرى المثلث الرأسمالي (أميركا، أوروبا واليابان) في روسيا والصين تهديداً حقيقياً لهيمنته على العالم اقتصادياً وعسكرياً، لذلك نجده متشدداً في دعم أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً وشعبياً، فالمسألة بالنسبة إلى النظام الرأسمالي مسألة حياة أو موت. لذلك، فالغرب الرأسمالي يرغب، كما فعل دائماً، في الحرب لأن بطش آلته العسكرية كان عبر التاريخ أداته لفرض الهيمنة على الدول والشعوب.

"إسرائيل" ليست حليفاً للغرب الاستعماري، لأنها ببساطة جزء من الاستعمار نفسه. من ينتظر انقلاب الغرب الاستعماري، وخصوصاً الولايات المتحدة، على مشروعها في المنطقة، يشبه تماماً من ينتظر أن يطلق هذا النظام الرأسمالي رصاصة إلى رأسه ويعلن حلّ نفسه. الغرب لا يدعم "إسرائيل" فقط، بل هو شريك في التخطيط والتسليح وتقديم المعلومات في كل طلقة أطلقها هذا الكيان على أصحاب الأرض، منذ إنشائه وحتى اليوم. الإعراب عن القلق والاستنكار وحتى الإدانة ليست سوى عملية إلهاء تثير زوبعة في فنجان لا تلبث أن تختفي، وتبقى الأمور على حالها من مجازر وتدمير وتشريد.

أما من يبني آمالاً على الأمم المتحدة ومنظماتها ووكالاتها، فليتذكر أن مأساة الشعب الفلسطيني لم تبدأ من الحرب على غزة. على الأقل، هناك وكالة مختصة بتشغيل اللاجئين الفلسطينيين منذ خمسينيات القرن الماضي، وبرامج الأمم المتحدة الأخرى من اليونسكو إلى اليونيسيف إلى برنامج الغذاء العالمي، تعمل جميعاً في فلسطين، وتدرك تماماً حجم المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في كل أرجاء فلسطين.

عشرات التقارير التي وصفت تفصيلاً أو اقتضاباً المجازر التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين، بعضها كتبه الصهاينة أنفسهم. ماذا فعلت الأمم المتحدة؟ اتخذت جميع الإجراءات التي تضمن استمرار المأساة الفلسطينية، وبشكل رئيسي تحويل هذه المأساة إلى قضية إنسانية، ونزع الصفة الوطنية التحررية عنها.

أرسل الغرب إلى بلادنا مجموعات موتورة، تربت على الحقد في المجتمعات الغربية التي مارست ضدها أسوأ أشكال التمييز على مدى قرون، والتي ترافقت بمجازر ارتكبت ضدها في أكثر من بلد أوروبي، لتتوّج بالهولوكوست خلال الحرب العالمية الثانية.

القناعة التي جاء بها هؤلاء أن معاناتهم التاريخية ستنتهي إن هم أفرغوا هذه الأرض من سكانها بالقتل والتشريد، ليحققوا أسطورة "أرض الميعاد". هذا النمط من التفكير ليس غريباً على الرأسمالية التي أرسلت مستوطنيها إلى أميركا الشمالية والجنوبية تحت اسم الحجاج. لم يأت هؤلاء الحجاج بثرواتهم من أوروبا، بل على العكس، كانوا من المؤمنين الفقراء، لكنهم ومن منطلق ديني نظروا إلى أنفسهم على أنهم "شعب الله المختار"، وأن واجبهم تطهير الأرض من الهمج غير المؤمنين. هذا ما جعل إبادة السكان الأصليين عملاً دينياً يتقربون به إلى الله.

القصة نفسها تقريباً تكررت في نيوزيلندا، وأستراليا. الشيء الوحيد المختلف في حالتنا أننا قاومنا، ولم نسمح لهذا الاستعمار بالحلول مكاننا.

المقاومة هي أزمة الكيان، وأزمة من صنعه بهدف تغيير طبيعة المنطقة. كان المطلوب أن نتحوّل إلى مصنع بعمالة رخيصة، وبئر نفط يدير ماكينات الصناعة، وثروات طبيعية تملأ خزائن الرأسمالية. نجحوا أحياناً، لكننا في كل مرحلة نهضنا وصنعنا مقاومتنا، فكان منا القسام، وعبد القادر الحسيني، وبهجت أبو غربية، وفؤاد نصار، وسلطان الأطرش وعمر المختار. امتدت السلسلة لتصل إلى أبطال محور المقاومة وقيادته بأسماء لا يتسع المجال لذكرها.

لن يقبلوا بالتسوية، لأن الحرب بيننا كلنا، دولاً ومنظمات وشعوباً، وبينهم كلهم، غرباً استعمارياً وكياناً صهيونياً وأنظمة ذليلة تحت لافتة الاعتدال. انتقال بلينكن بين عواصمهم لا يغير شيئاً من الواقع، عنوان المقاومة معروف في غزّة، وبيروت ودمشق وصنعاء وبغداد وطهران. من يريد تسوية عليه الذهاب إلى تلك العواصم وتوسل قبولها. أم أساطيلهم وبوارجهم وطائراتهم ومؤامراتهم فقد عرفناها وخبرناها ولم نعد نخشاها.

لن يقتل الأميركي الذكي صديقه الإسرائيلي الغبي، لكنه سيبحث عن تسوية تسمح للفئران بالخروج من جحورها، وتلعب دور المنتصر. هذه المرة ستكون التسوية بشروطنا، ولن تشبه تسوياتهم التي تعوق النضال، بل ستكون لبنة جديدة على طريق التحرير، إن لم يكن غداً، فبعد غد.