أبعد من الاستشراق: تأثير السيد نصر الله في الأكاديميا الغربية
جسّدت خطابات السيد نصر الله مجموعة عوامل أجبرت الباحثين على تجاوز الثنائيات الاستشراقية، فهو رجل دين وهو سياسي محنك، وهو أيضاً قائد عسكري ورمز للمقاومة في قضايا الصراع العربي الإسرائيلي.
-
تطور صورة حزب الله في الأكاديميا الغربية.
خلال دراسة الأدب الأكاديمي المنشور باللغات الأجنبية عن حزب الله، وعن شخصية السيد حسن نصر الله تحديداً، نجد أن الكتابات الأكاديمية تلك انتقلت من ثنائية اختزالية (إرهاب/ مقاومة) في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين إلى مقاربة أكثر تعددية وعمقاً، تعكس التطور في النظرة إلى الحزب، ودور وتأثير شخصية السيد حسن نصر الله في تبدل تلك الصورة.
أولاً – تطور صورة حزب الله في الأكاديميا الغربية
أ- الثمانينيات والتسعينيات
بداية ومع تأسيس حزب الله، وخلال فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، عكست الكتابات الأكاديمية عن حزب الله نزعات استشراقية واضحة، تنطلق من مركزية النظرة الغربية للحزب، وتُعطي الأولوية لأجندة أمنية غربية، وتطلق توصيفات تخفي الواقع الحقيقي المُعقّد ومتعدد الأوجه لحزب الله كظاهرة اجتماعية-سياسية ضمن سياقها اللبناني والإقليمي.
ولا شكّ، هذه الثنائية هي مظهر حديث لما سمّاه إدوارد سعيد بالاستشراق، وهو تقليد معروف في الدراسات الغربية الذي ينشئ "آخرَ" متجانسًا، غالبًا ما يكون مُهدِّدًا، وبالتالي يتم تحليله وتصنيفه وفقًا لمعايير غربية ومقاييس لا تعترف بالخصوصية الثقافية للمجتمعات.
ب- التحوّل الأول (بداية الألفية الثانية)
بعد انسحاب "إسرائيل" من جنوب لبنان عام 2000، وانتصار تموز 2006، ازدادت شعبية حزب الله في لبنان والعالم العربي بشكل كبير، وبدأ الباحثون يركزون على دوره في هزيمة "إسرائيل" (كبطل مقاوم)، وعمله السياسي والاجتماعي الخ... وسلّطت هذه الكتابات الضوء على هوية حزب الله متعددة الأوجه (عسكرية، سياسية، اجتماعية، دينية)، متجاوزةً بذلك ثنائية "الإرهاب/المقاومة".
ج- التحوّل الثاني: 2012- 2025
شكّل تدخل حزب الله في سوريا وحروب المنطقة، تحوّلاً إضافياًـ فباتت الكتابات تنظر إليه كفاعل عابر للحدود الوطنية، وكجزء من محور إقليمي تقوده إيران، وأطلقت عليه توصيفات طائفية/ مذهبية.
لاحقاً، ومع انهيار الدولة اللبنانية بعد 2019، وفتح معركة الاسناد للدفاع عن غزة 2025، أضيف إلى النظرة إلى حزب الله، باعتباره "مسيطراً على الدولة اللبنانية" أو "دولة ظل" تمارس سيادتها من دون مساءلة كاملة.
لكن، وبالرغم من كل تلك التحولات، من المهم الإشارة إلى أن هناك مدارس فكرية في الغرب (خاصة ذات المنظور الأمني أو القريب من "إسرائيل") ظلت تُصر على توصيف "الإرهاب" حتى بعد التحولات المذكورة أعلاه.
ثانياً - دور السيد حسن نصر الله في تلك التحولات
برز السيد حسن نصر الله في الأدبيات التي صدرت في التسعينيات كشخصية كاريزمية ذات جاذبية استثنائية في لبنان والعالم العربي. وكانت إشارات إلى مهاراته الخطابية، وتواضعه، ونزاهته الشخصية (مثل لباسه البسيط، وعيشه المتواضع، واستشهاد ابنه) كنقيض للسياسيين اللبنانيين التقليديين.
لاحقاً، مع التحولّ الأول، أكد باحثون أن شخصية السيد نصر الله حوّلت حزب الله من "جماعة مسلحة غامضة إلى قوة سياسية معروفة ذات وجه". وهذا جعل من الصعب على الباحثين الاستمرار في وصف حزب الله بأنه "مجموعة إرهابية بلا وجه" (من ضمن ثنائية الاستشراق التي تحدثنا عنها أعلاه).
وبعد انسحاب "إسرائيل" عام 2000، رسّخ السيد نصر الله صورة حزب الله كحركة مقاومة منتصرة وفاعل سياسي شرعي في لبنان. في هذا الإطار، اعتمد السيد نصر الله ثنائية خطابية: متشددة ومهددة في موضوع "إسرائيل"، ومنفتحة وتصالحية في الداخل اللبناني، محترماً التعددية الطائفية وأميناً عليها.
وضمن التحول الثاني، كان للسيد حسن نصر الله دور في وعي الباحثين إلى "الهويات المتعددة" للحزب. وهكذا نجد أن الأكاديميين المتخصصين في سياسات الهوية حلّلوا خطبه وشخصيته العامة للتأكيد على الهويات المتعددة التي يجسدها حزب الله (شيعية، لبنانية، عربية، إسلامية).
وضمن الكتب التي تناولت الإعلام السياسي والخطابة، نجد أن خطاباته المتلفزة بعد عام 2006، وخاصةً خلال حرب تموز، أشير اليها بأنها تعكس "صورة من المرونة والعقلانية"، وأن استخدامه "للسرد والرمزية والتواضع الأدائي" كان عنصرًا أساسيًا في "منح الشرعية السياسية لحزب الله"، وجعلته "أبعد من مجرد ميليشيا".
وخلال تدخل الحزب في سوريا والإقليم وأزمات لبنان، حلّل الباحثون كيف "حافظ خطاب السيد نصر الله وشخصيته على شرعية حزب الله رغم التناقضات"، ما جعله دراسة حالة في "القيادة الهجينة" ودورها في اكتساب الشرعية خلال الأزمات.
وهكذا، كانت شخصيته محورية في تغيير الخطاب الأكاديمي للأسباب التالية:
1. قدّم "وجهًا إنسانيًا" لحزب الله.
2. بيّنت قيادته الخطابية والرمزية الطبيعة الهجينة لحزب الله.
3. عكست تركيبة شخصيته المتنوعة تنوّع وتعقيد تركيبة حزب الله، ما جعل الثنائيات التبسيطية قاصرة عن إعطاء صورة كافية عن الحزب.
في المحصلة، جسّدت خطابات السيد نصر الله مجموعة عوامل أساسية، أجبرت الباحثين في الغرب على تجاوز الثنائيات الاستشراقية، فهو رجل دين وقائد سياسي لبناني مؤمن بالتعددية في آن واحد، وهو سياسي محنك يستطيع تدوير الزوايا في لبنان، وقائد عسكري ورمز للمقاومة المتشددة في قضايا الصراع العربي الإسرائيلي.