أوروبا وإيران والضغط على الزناد، هل هو صراع حضارات؟
يثير الموقف الأوروبي المعادي لإيران تساؤلات جوهرية حول أسس هذا العداء وطبيعته، خاصة أن إيران بذلت وتبذل جهوداً مضنية لاستقرار العلاقات مع أوروبا.
-
عجزت أوروبا عن التأثير في السياسة الأميركية فأدارت قرص الرحى نحو إيران.
يعكس العداء الأوروبي لإيران رؤية الغرب النابعة من منظومة قيمه الحضارية المادية، أكثر مما يعكس تحالفاً سياسياً مع أميركا وربيبتها "إسرائيل"، أو خشية أوروبية من مخاطر المشروع الإيراني النووي العسكري، يظهر ذلك في مستوى الإجماع الأوروبي ووضوح تنكره للاتفاق النووي مع إيران، وهو الاتفاق الذي وقعته أوروبا وأميركا مع إيران وانسحبت منه أميركا عند انتخاب ترامب في فترته الأولى، في وقت عجزت فيه أوروبا عن الوفاء بأدنى التزاماتها تجاه هذا الاتفاق، عندما خضعت الشركات الأوروبية للقرصنة الأميركية وتخلفت الدول الأوروبية عن تعويض هذا الخضوع.
وكانت أوروبا، وتحديداً بريطانيا وفرنسا وألمانيا "دول الترويكا" قد ألغت حزمة من العقوبات المفروضة على إيران عقب توقيع الاتفاق النووي عام 2015، والتي أطلق عليها "آلية الزناد" أو "السناب باك" وتركز هذه العقوبات على شركات ومنظمات وأفراد يُسهمون بشكل مباشر أو غير مباشر في برامج إيران النووية أو تطوير صواريخها البالستية، بما يشمل تقديم المعدات والخبرات أو التمويل، وتشمل حظر بيع أو نقل الأسلحة التقليدية إلى إيران، ومنع الواردات والصادرات أو نقل المكونات أو التكنولوجيا المرتبطة بالبرامج النووية والبالستية، وتجميد أصول كيانات وأفراد مرتبطين بهذه البرامج في الخارج، ومنع الأشخاص المشاركين في الأنشطة النووية المحظورة من السفر إلى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وتقييد الوصول إلى المنشآت المصرفية والمالية التي قد تدعم هذه البرامج.
وقد أعادت الترويكا الأوروبية آلية الزناد ضد إيران هذا الأسبوع، ما يدفع لإعادة تفعيل قرارات الأمم المتحدة السابقة بحق إيران، لكن تنفيذها عملياً يتطلب تحديث قوانين الدول الأعضاء لتمكين تطبيق العقوبات، ويتوقف الأمر على الاتحاد الأوروبي وبريطانيا لاتخاذ الإجراءات التشريعية اللازمة، رغم عدم كشف أي منهما عن تفاصيل عملية التنفيذ حتى الآن، ورغم أن قرارات مجلس الأمن الدولي ملزمة، فإن الالتزام بها يختلف بين الدول، وتعد الصين وروسيا من الدول التي تعتبر تفعيل "آلية الزناد" غير قانوني لهذا من المستبعد خضوعهما لها.
يثير الموقف الأوروبي المعادي لإيران تساؤلات جوهرية حول أسس هذا العداء وطبيعته، خاصة أن إيران بذلت وتبذل جهوداً مضنية لاستقرار العلاقات مع أوروبا، ولا تستشعر إيران أن لها مشكلة خاصة مع الدول الأوروبية بما فيها بريطانيا رغم ماضيها السيئ مع إيران، إلا أن هذه الدول تصرّ على معاداة إيران، فما هي حقيقة أسس العداء المتولد في أوروبا ضد إيران؟
مرّ على الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي سبع سنوات عجاف، وهو انسحاب مثّل بلطجية السياسة الأميركية، وقد أعلنت أوروبا عن أسفها لهذا الانسحاب، ولكنها عجزت عن تصحيح الموقف الأميركي بهذا الخصوص حتى في عهد بايدن، في وقت نكصت الشركات الأوروبية عن عقودها مع إيران خشية أن تطالها العقوبات الأميركية، مثلاً شركة توتال الفرنسية تراجعت عن اتفاقها النفطي مع إيران، ما تسبب بخسائر هائلة للطرفين، ما يشير إلى أن أميركا تسببت بأزمة لأوروبا وليس فقط لإيران، فلماذا تحولت أوروبا من لوم أميركا إلى معاقبة إيران؟ ولماذا في هذا التوقيت؟
عجزت أوروبا عن التأثير في السياسة الأميركية فأدارت قرص الرحى نحو إيران، في وقت أخذ التباين في السياسة الأوروبية مع الأميركية يتسع بشأن الحرب في أوكرانيا وغزة، وكان يفترض بذلك أن يقلص التباين بين أوروبا وإيران، ولكن ما حصل هو العكس تماماً، فهل يكمن السبب في الحرب التي وقعت بين الكيان الإسرائيلي وإيران في حزيران الماضي؟
شنت "إسرائيل" عدوانها على إيران فدافعت إيران عن نفسها، وكان يفترض بأوروبا أن تقف مع القانون الدولي والقوانين الأممية، أو تختار الحياد بين الطرفين، ولكن الحاصل أن أوروبا وقفت مع "إسرائيل" وشاركت في التصدي للصواريخ الإيرانية، وليس ثمة تفسير قانوني أو سياسي لهذا الموقف، في وقت تواصل فيه "إسرائيل" المذبحة ضد المدنيين في غزة، وتستهدف المباني العامة في إيران وليس فقط الأهداف الأمنية أو العسكرية، فيما ظهر الحرص الإيراني على استهداف المراكز الأمنية والعسكرية الإسرائيلية طوال المواجهة بين الطرفين.
تحاول أوروبا منذ أكثر من سنة أن تنأى بنفسها عن المجازر الإسرائيلية في غزة، خاصة في ظل التعاطف الشعبي الأوروبي وحتى الأميركي مع الضحايا في غزة، بخلاف موقفها الداعم للحرب على غزة بعد هجوم السابع من أكتوبر مباشرة، عندما حضر زعماء أوروبا إلى "تل أبيب" ودعموا نتنياهو ضد غزة، وهو ما تغير نسبياً باستثناء ألمانيا التي ما زالت أقرب إلى الموقف الأميركي في هذا السياق.
يتضح من السياسات الأوربية تجاه "إسرائيل"، في ظل تصاعد التوتر بين أميركا و "إسرائيل" من جهة وبين إيران من جهة أخرى، أن العوامل السياسية والاقتصادية وحتى مركزية "إسرائيل" في العقل الغربي، ليست المحدد الرئيس حصراً في العداء الأوروبي ضد إيران، والذي تطور إلى تفعيل آلية الزناد ضد إيران في هذا التوقيت الحساس، بما يمثله هذا التفعيل من تشجيع أوروبي لـ"إسرائيل" ومن خلفها أميركا للعدوان العسكري مجدداً على إيران، وإن كان لهذه العوامل دور المحفز في تحريك الأساس الرئيس، وهو الخلاف الحضاري بين ما تمثله أوروبا من مدنية غربية رأسمالية مادية، وبين ما تمثله الجمهورية الإسلامية في إيران من حضارة إسلامية عريقة.
سبق أن تحسنت العلاقات بين إيران وفرنسا عقب انتخاب خاتمي رئيساً لإيران سنة 1997، وهو الانتخاب الذي فهمه الغرب انتصاراً لقيمها، باعتبار أن خاتمي يحمل الفكر الليبرالي على الرغم من كونه عالم دين، وقد طرح نفسه كإصلاحي علماني يؤمن بالمجتمع المدني وحوار الحضارات بعيداً عن ولاية الفقيه وإن لم يقل ذلك صراحة، وهو ما دفع فرنسا لاستضافته في باريس، ولكن المفاجأة أن خلافاً طويلاً تسبب في تأجيل هذه الاستضافة، بسبب البروتوكول الفرنسي العلماني الذي يلزم بتقديم أقداح النبيذ على مائدة الضيف، وهو ما رفضه طاقم تحضير الزيارة تبعاً للقانون الإيراني الذي يحرّم النبيذ، وقد حملت هذه الحادثة إشارة رمزية لحقيقة الخلاف بين الدولتين، وهو خلاف عكس طبيعة المزاج الحضاري الغربي في النظر للشرق عامة والمسلمين خاصة.
يرفض العقل الغربي أن ينظر للشرق نظرة إنسانية محضة، لذا هو يتعامل مع الأوكراني بعينيه الزرقاوين ككائن يستحق الاحترام وأن تشن لأجله الحرب على روسيا، باعتبارها دولة شرقية وإن غاصت جغرافيتها في أطراف أوروبا، ولعل الهزيع الذي يجتاح أوروبا حالياً تجاه المذبحة في غزة وتعاطف شعوب أوروبا مع مظلوميتها، بات يؤرق العقل الغربي الساكن في النخب الفكرية والسياسية الحاكمة في أوروبا، وقد استشعرت خطر تفلت المزاج النفسي لهذه الشعوب من قيدها الحضاري المتعجرف، وهو ما تسبب بتصاعد نزعة اليمين الأوروبي، والانقسام الحاصل في أوروبا تبعاً لهذا التصاعد على وقع المذبحة في غزة، وهو تصاعد متصل بالتأصيل الحضاري الغربي، عبر منظومة قيم تستعلي على شعوب العالم وتنظر لها بشكل دوني.
يدرك الإيرانيون أن مهمتهم التاريخية في النهضة الإسلامية المعاصرة، تعترضها عقبات عصية، ليست محصورة في التحريض المذهبي السلفي والوهابي والخليجي تجاه الأكثرية الشيعية في إيران، ولا في الإطار التفسيخي القومي بين العرب والفرس مثلاً، ولا في مركزية الشر الإسرائيلي، إنما في الصراع الحضاري والثقافي الممتد بين الشرق والغرب، وطبيعي أن يتكاتف الغرب ضد إيران دفاعاً عن قيمه المادية، وهو يجدها تنهض رغم الحصار المطبق عليها منذ ثورتها الإسلامية عام 1979، لتتطور علمياً وعسكرياً وتطمح بمشروع نووي وصل إلى إنجاز تخصيب اليورانيوم بنسب عالية وإن ضمن مشروع مدني، لكنه الغرب ونظرته المادية المستكبرة، لا يريد أن يرى نهضة إسلامية شرقية قائمة على العلم والدين، لما يمثله هذا الثنائي من عصف قوي في أسس الفكر الغربي وأصول الحضارة الغربية، وهو ما يفسر هذا التكالب الغربي طوال عقود خمسة متصلة مضت، ضد إيران ومشروعها النووي بأساسها الإسلامي الثوري.