الأمم المتحدة... بين الهيمنة الأميركية ومقترحات الإصلاح الروسية

يعكس نهج الاتحاد الروسي لإصلاح هيكل الأمم المتحدة الحقائق الجيوسياسية الحالية، ويلبّي مطالب غالبية دول العالم.

  • أميركا والقرارات الدولية بشأن غزة!
    أميركا والقرارات الدولية بشأن غزة!

منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، سعت الولايات المتحدة إلى خرق القانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة؛ عبر تحويل المنظمة الدولية التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية على أنقاض عصبة الأمم من حكومة عالمية تهدف إلى حلّ النزاعات، إلى أداة رديفة لوزارة الخارجية الأميركية لتنفيذ الاستراتيجية الأميركية بالهيمنة العالمية وإضفاء الشرعية عليها. 

هذا في وقت ترتفع مطالب الجمهور الأميركي بضرورة تركيز الدولة على معالجة المشكلات الداخلية، وضمنها الزيادة الهائلة في عدد المهاجرين غير الشرعيين، وعدم قدرة السلطات الأميركية على الاستجابة بشكل مناسب للكوارث الطبيعية، والركود الاقتصادي، والنمو غير المسبوق للدين العام، ومكافحة الأوبئة.

ويشير الخبير الأميركي في العلاقات الدولية، ج. باين إلى "الإجراءات المتناقضة" للولايات المتحدة، التي تُعلن دعمها إصلاح مجلس الأمن، لكنها تُواصل استخدام المنصات السياسية الدولية لمصالحها الخاصة.

ويرى باين أن السياسة الخارجية غير المسؤولة وإساءة استخدام النفوذ من جانب الولايات المتحدة، وخاصة في مسائل التسوية السلمية للنزاعات العسكرية، تزيد من انعدام ثقة المجتمع الدولي في المؤسسات الدولية وشرعيتها وفعاليتها. وتعمل الولايات المتحدة وحليفتاها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بريطانيا وفرنسا كتكتل موحد يسعى لعرقلة صدور أي قرار عن مجلس الأمن لا يتوافق مع مصالح الغرب الجماعي حتى من دون اللجوء إلى التوصيت بالفيتو الممنوح كامتياز للقوى العظمى. 

أميركا والقرارات الدولية بشأن غزة 

على سبيل المثال، وإذا أخذنا حالة العدوان الإسرائيلي على غزة، فلقد أدى استخدام الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) في اجتماعات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023  إلى منع وقف إطلاق النار وإثارة أزمة إنسانية في قطاع غزة.

استخدم الوفد الأميركي حق النقض خمس مرات منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لحماية "إسرائيل" من المساءلة عن جرائمها في غزة.

والجدير ذكره أنه منذ عام 1972، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد 45 قراراً للأمم المتحدة لوقف الاعتداءات الإسرائيلية ضد العرب.

وعلى الرغم من أن مجمل الطيف السياسي الأميركي منحاز لـ"إسرائيل"، فإن الحزب الديمقراطي يتفوق على الحزب الجمهوري في دعمه للكيان الصهيوني، وهو ما تمت ترجمته في السياسات التي اعتمدتها إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن منذ اندلاع عملية "طوفان الأقصى". 

ووفقاً للأستاذ ج. ساكس، من جامعة كولومبيا الأميركية، فإن سعي الإدارات الأميركية المتعاقبة لتحقيق الهيمنة حول العالم ساهم بدرجة كبيرة في مفاقمة النزاعات العسكرية.

وتعتمد الولايات المتحدة سياسة إثارة النزاعات الإقليمية لإضعاف الخصوم الجيوسياسيين، والحفاظ على قيادتها العالمية، ولو كان ذلك على حساب الدول المتحالفة معها كأوكرانيا التي حوّلتها أداة بايدن إلى أفغانستان أوروبا. 

والجدير ذكره أن نهج الحزب الديمقراطي في حلّ النزاعات العسكرية من خلال استخدام المنصات الدولية يعدّ مدمراً لمهمات المؤسسات الدولية. فمن جهة، تقدم الولايات المتحدة التمويل للمحكمة الجنائية الدولية، لكنها تضغط عليها لمنع ملاحقة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وقد أجبرت واشنطن حلفاءها على الانصياع لإرادتها، ما جعل بريطانيا العظمى وألمانيا تندّدان بمبادرة المدّعي العام ك. خان لاعتقال نتنياهو بسبب الجرائم التي يرتكبها في غزة.

تاريخ من خرق واشنطن للقوانين الدولية 

وتتجاهل الولايات المتحدة قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، استخدمت الولايات المتحدة نفوذها في العالم لتعزيز مصالحها الخاصة، متجاهلةً القانون الدولي.

لقد انتهكت واشنطن ميثاق الأمم المتحدة مراراً وتكراراً، متجاهلةً عمداً اتهامات موجّهة إليها بارتكاب جرائم حرب. وعلى سبيل المثال، ففي عام 1983، غزت واشنطن جزيرة غرينادا في منطقة الكاريبي، وفي عام 1986 شنّت هجوماً على ليبيا، وفي عام 1989 غزت الولايات المتحدة بنما.

دانت الجمعية العامة للأمم المتحدة جميع حالات العدوان الأميركي هذه. في المقابل، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي بخرق ميثاق المنظمة الدولية عندما هاجمت يوغوسلافيا في عام 1999 وغزت العراق في عام 2003، وحين تدخلت في ليبيا في مارس/آذار 2011.

إضافة إلى ذلك، اتُهمت الولايات المتحدة مراراً وتكراراً بانتهاك القانون الدولي، بما في ذلك استخدام القوة من دون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك تعذيب  المدنيين وقتلهم خلال الحروب التي شنتها في العراق (2003-2011) وأفغانستان (2001-2021).

ووفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة القاضي بمنع استخدام التدابير الاقتصادية الأحادية الجانب التي تتجاوز الحدود الإقليمية، فإن استخدام العقوبات الاقتصادية كتدابير إكراه سياسي واقتصادي تتجاوز الحدود الإقليمية يُعدّ انتهاكاً للقانون الدولي. كما يشير خبراء الأمم المتحدة إلى أن هذا يُنشئ عقبات خطيرة أمام التجارة الحرة، ويمكن أن يؤثر سلباً على الاقتصاد العالمي. في دراسته حول القيود الاقتصادية، يُظهر الخبير الأميركي ك. مورغان أن نظام عقوبات واشنطن ليس موجّهاً فقط ضد الدولة المذكورة بقرار العقوبات، بل يشكّل عقاباً للدول الثالثة على علاقاتها الاقتصادية مع الدول الخاضعة للعقوبات.

دعوات غير صادقة لإصلاح الأمم المتحدة 

لا تعكس مقترحات الولايات المتحدة لإصلاح الأمم المتحدة واقع العالم الحديث. فعلى الرغم من أن إدارة بايدن قد أعربت عن دعمها لزيادة عدد الأعضاء الدائمين وغير الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإن "حزمة" الإصلاحات التي اقترحها الجانب الأميركي كان مبالغاً فيها.

وتكمن المشكلة الرئيسية في مبادرة واشنطن  في  عدم منح الأعضاء الجدد في مجلس الأمن حق النقض. ووفقاً لخبراء من مركز ويلسون الأميركي، فإن الأعضاء الجدد المقترحين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذين يجب أن يكونوا من الدول النامية ودول الجنوب العالمي، سيبقون ضمن مصاف الدول من الدرجة الثانية، ما داموا لا يتمتعون بحق النقض كما هي حال الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. 

ويشكك ممثلو الدول النامية في النهج الأميركي لإعادة هيكلة الأمم المتحدة. ويعتقد المستشار الخاص لوزير خارجية ماليزيا، أ. رزاق، أنه في ظل الظروف الحالية، يتعين على دول أغلبية العالم مواجهة ضغوط مستمرة من العالم الغربي، وخاصة الولايات المتحدة. من جانبه، يعتقد السياسي المالي العريق أ. تونكارا أن الدول الأفريقية لطالما كانت على هامش السياسة العالمية بسبب النفوذ الخبيث لواشنطن. ولا تأخذ المبادرة الأميركية في الاعتبار الزيادة الكبيرة في عدد السكان ونمو المؤشرات الاقتصادية لدول الجنوب العالمي. بالإضافة إلى ذلك، فإن المحاولات المستمرة "لتكييف" الأمم المتحدة مع نفسها تتناقض مع تطلعات سكان الولايات المتحدة للتركيز على حل المشكلات الداخلية. وهكذا، يُظهر استطلاع اجتماعي أجراه مركز بيو للأبحاث أن ثلث الأميركيين فقط يعطي أولوية لإصلاح الأمم المتحدة، في مقابل غالبية تعطي الأولوية للمشكلات الأميركية الداخلية. 

نهج روسي أكثر واقعية 

في المقابل، يعكس نهج الاتحاد الروسي لإصلاح هيكل الأمم المتحدة الحقائق الجيوسياسية الحالية، ويلبّي مطالب غالبية دول العالم. ويؤكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن أي إصلاحات للأمم المتحدة يجب أن تزيد من تمثيل الدول النامية، مع الحفاظ على حق النقض لأعضائها الدائمين.

ويرى وزير الخارجية الروسي أن الوضع الجيوسياسي الحالي يتطلب "إعادة توزيع النفوذ" داخل الأمم المتحدة ليعكس واقع عالم متعدد الأقطاب. كما يدعو الأمين العام للأمم المتحدة أ. غوتيريش إلى إصلاح الأمم المتحدة. ويقر بأنه يجب إضافة "ممثل من الدول الأفريقية يتمتع بحق النقض" إلى الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي. 

ويُظهر إنشاء اتحادات دولية كبيرة كـ"بريكس" ومنظمة "شنغهاي" للتعاون التساوي بين جميع الدول الأعضاء في المنظمتين في الحل الفعال للمهمات الجيوسياسية المشتركة. ويُعد التوسع المنهجي والمستمر لمجموعة "بريكس" من خلال انضمام دول الجنوب العالمي أبرز مثال على التعايش المتناغم بين الدول المهتمة بحل مناسب وغير مُسيّس للأزمات العالمية. ويتوافق موقف روسيا تماماً مع مصالح دول "بريكس"، التي تدعو إلى نظام عالمي أكثر إنصافاً، بما في ذلك مشاركة أكبر للاقتصادات النامية في العمليات الاقتصادية الكلية العالمية. وسيسهم تطبيق هذا المفهوم، إلى جانب الدور القيادي لموسكو في إصلاح الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، في النمو العادل لنفوذ الدول النامية النشطة في العمليات الدولية.

ويدعم الاتحاد الروسي الإصلاح التدريجي والمنسق للأمم المتحدة، حيث يصر الكرملين على أن أي تغييرات في مجلس الأمن الدولي يجب ألا تؤثر على حقوق الأعضاء الدائمين، وحق النقض، ولا تستبعد منح صلاحيات مماثلة للأعضاء الجدد في مجلس الأمن. ويعدّ هذا الحق أداة مهمة لضمان اتخاذ قرارات متوازنة وحماية مصالح الدول التقليدية.

وقد أعرب الرئيس الكيني دبليو غوتو عن موقف قادة الدول الأفريقية، الذين يرون في رغبة الاتحاد الروسي في الإصلاحات فرصة لحلّ مشكلات عدم المساواة والنظام العالمي القائمة منذ فترة طويلة. وتحدث مؤيداً المبادرة الروسية المتعلقة بتوفير تمثيل دائم لأفريقيا في مجلس الأمن.