تسريب "سدي تيمان" كأكبر فضيحة دعائية في تاريخ "الجيش" الإسرائيلي
لم تكن قضية التعذيب والاغتصاب التي تسربت من "سدي تيمان"، هي الأفظع في تاريخ الكيان الإسرائيلي، وإن كانت عملية التسريب هي الأخطر.
-
لم تكن قضية التعذيب التي تسربت من "سدي تيمان" هي الأفظع في تاريخ الكيان!
اغتصاب وتعذيب، والأهم تغطية مستويات سياسية وعسكرية وأمنية بل وحاخامية، على هذا الفعل الفاضح الذي جعل مرتكبيه يظهرون في صورة تفاخر، وقد رأت شريحة واسعة من الشارع الإسرائيلي اليميني وحتى الليبرالي أنهم يستحقون وسام الشجاعة، خصوصاً مع الممارسة المنهجية الدائمة لهذا الفعل الفاضح كروتين في أروقة "الجيش"، وهو "الجيش الأكثر تحضراً في العالم" بحسب هرطقات نتنياهو المطلوب للجنائية الدولية كمجرم حرب، وقد نظر إلى هذا التسريب من زاوية الجرم الدعائي وليس الاعتبار الأخلاقي حيث الاعتداء على فتى بكل خسة ونذالة وهو أسير عاجز عن الدفاع عن نفسه.
نتنياهو هو نفسه الذي ذكّر الغرب غداة القصف الإسرائيلي الوحشي للمستشفى المعمداني في غزة، بأن بريطانيا قصفت في الحرب العالمية الثانية مستشفى للأطفال في كوبنهاغن، يزعم أيضاً أن الرئيس ريغان أمر "الجيش" الإسرائيلي أن يوقف قصفه المدفعي لبيروت سنة 1982 بعد إصابة طفلة فلسطينية بالقصف، مؤكداً أنه شخصياً اكتشف يومها أن صورة الطفلة المزعومة كانت مفبركة من العرب، لكنه اليوم أمام هذا التسريب الصريح وما احتواه من مشاهد قذرة، لم يجد فيه نتنياهو سوى خطر الدعاية المضادة لـ"إسرائيل"، فهل هو بالفعل مجرد دعاية خطرة ضد "الجيش" الإسرائيلي؟ وأنه الأكبر منذ قيام الكيان الإسرائيلي؟
ضجة كبيرة تسود الفضاء الإسرائيلي منذ تم تسريب فيديو الفضيحة، وتتركز الإثارة حول المدعية العامة العسكرية لـ"الجيش" الإسرائيلي ييفعات تومر ييروشالمي، والتي توصف بالمرأة الحديدية في "جيش" الاحتلال وتحمل رتبة لواء، وهي أعلى رتبة بين النساء في "الجيش"، وسبق لها طوال سنتين أن ساهمت في تمرير منهجي لكل أنواع الجرائم التي يرتكبها "الجيش"، وخصوصاً في "سدي تيمان" و"راكفيت" ونحو ثلاثين منشأة اعتقال مؤقت حول غزة، تخرج منها جثامين مئات الشهداء لتدفن في غزة من دون أن يتمكّن الناس التعرف إلى أصحابها من هول التشويه والقيود ما زالت تحيط بالمعصم، وكثير منهم تمت سرقة أعضائهم.
أخيراً، قررت ييروشالمي فضح القصة والسبب ليس أخلاقياً أو صحوة ضمير، ولكنه الاعتداد في العمل الادعائي حسب ما يترجح، فهي المرأة الحديدية التي وصفها رئيس الحكومة السابق نفتالي بينيت بالمخيفة للجنود أكثر من خوفهم من يحيى السنوار، وهو ما جعلها تنظر إلى المعارضة العنيفة التي رافقت محققي الشرطة العسكرية في "سدي تيمان"، نظرة قلق على مستقبل عمل الادعاء العسكري، خصوصاً مع تأييد المشاغبين من جانب المؤسسة السياسية، وحتى المشاركة في مهاجمة معسكر بيت ليد حيث تم احتجاز المجرمين الخمسة المتهمين بالاغتصاب قبل أكثر من عام مضى، وهو ما وضع ييروشالمي أمام اختبار غير بسيط، جعلها تقرر أخيراً إخراج شريط فيديو التعذيب إلى وسائل الإعلام، وكتبت في رسالة استقالتها أنها اضطرت إلى العمل من أجل الدفاع عن وحدة الادعاء العسكري في "الجيش" والمحققين الذين يخدمون فيها.
اعتاد الادعاء العسكري الإسرائيلي أن يحمي ظهر كل أنواع الممارسات الإجرامية ضد الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم من كل الجنسيات، ففي الاعتداء الجنسي على الشيخ مصطفى الديراني في سجن "عتليت" الإسرائيلي في التسعينيات، تم احتواء القضية حتى إغلاق ملفها في النهاية، وقبل ذلك في قضية تصفية اثنين من الأسرى الفلسطينيين على يد عناصر الشاباك بعد اعتقالهما وتقييدهما سنة 1984 فيما عرف بقضية الحافلة 300، وتصفية عشرات الأسرى خلال التحقيق والتعذيب في مسالخ الشاباك في سجون عسقلان والمسكوبية والجلمة، مثل إبراهيم الراعي وعبد الصمد حريزات وعرفات جرادات وخالد الشيخ علي وكثيرين غيرهم، خصوصاً خلال "طوفان الأقصى".
بلغ مستوى المزاودات السياسية في الكيان الإسرائيلي، أن يتم تشريع إعدام الأسرى الفلسطينيين في القراءة التمهيدية عبر تصويت غالبية الكنيست، في أوج فضيحة تعذيب الأسرى واغتصابهم، وما زال كثير من الغموض يكتنف حقيقة تسريب هذه القضية، ولكن نتنياهو يعلن تأييده الصريح لمقترح بن غفير القاضي بإلزام القضاة الحكم بإعدام كل من يدان بقتل إسرائيلي على خلفية قومية، في تعزيز رسمي عبر المنصة التشريعية الإسرائيلية لأقسى أنواع السلوك الوحشي ضد الأسرى الفلسطينيين.
وقد نظر كثير من الباحثين والمختصين في الكيان الإسرائيلي، إلى أزمة التسريب والتعذيب كتعبير عن شرخ اجتماعي مستمر منذ 20 عاماً في البحث عن هوية "الجيش"، وقد تسللت إليه روح العصابة، من هؤلاء الباحث في العلاقة بين "الجيش" والمجتمع في "إسرائيل" بروفيسور يغيل ليفي، حيث اعتبر عبر صحيفة "هآرتس" أن هذه القضية امتداد لهذا الشرخ الاجتماعي والذي تتسبب به مجموعتان تضعان تحدياً أمام هوية "الجيش"، وقد بلورتها تاريخياً مجموعة القوة من الطبقة الوسطى العلمانية، وهما؛ مجموعة "الحريديون القوميون" مثل أتباع كهانا، و"جنود الياقات الزرقاء" وهم من الطبقة الاجتماعية الأضعف اقتصادياً، وقد برز فيهما اليهود الشرقيون المتدينون، والعنصر المركزي في الهوية التي يتم تحديها هو خضوع "الجيش" وتصرفه بموجب القانون، وقول رئيس أركان "الجيش" الأسبق في قضية الجندي إليؤور أزاريا الذي قتل فلسطينياً مقيداً وجريحاً قرب الخليل سنة 2016، إنه "إذا أراد أحد روح عصابات في الجيش، فليقُل" هو حدث مؤسس في هذا الصراع وأحد التعبيرات عن التمسك بالهوية التاريخية لـ"الجيش".
والحقيقة التي يحاول هؤلاء الباحثون تجاهلها أن "جيش" الاحتلال ولد من رحم عصابة الهجاناه ومعها عصابات شتيرن وأرغون وإيتسل، وهي العصابات التي ارتكبت عشرات المذابح وفق التوثيق الغربي والأممي، وعلى الرغم من محاولات إظهار هذا "الجيش" بشكل حضاري لائق، فإن انكشافه على حقيقته ظل يبرز للعلن مرات ومرات، حتى جاء السابع من أكتوبر 2023 حيث أطلق نتنياهو ومعه وزير دفاعه غالانت ورئيس الأركان هليفي شهية هذا "الجيش" ليتجلى على حقيقته الكاملة من دون أي نوع من الماكياج أو الرقابة.
جاءت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين الفظة وتعليمات الذبح والقتل والتجويع والتدمير من كبار الضباط في الحرب على غزة، ما أدخل القضاء العسكري الإسرائيلي في أزمة جنوح وتحلل في هوية الادعاء العسكري، ففي الوقت الذي يطالب فيه هذا الادعاء بفرض منظومة قوانين صارمة على الجنود والضباط، باعتبارها معايير انضباطية ضرورية لحماية هوية "الجيش" في دولة ديمقراطية، فإن الواقع بعد ذلك أطلق يد هؤلاء الجنود ليفعلوا ما يحلو لهم، بل إن كبار المسؤولين والجنرالات شجعوهم على إطلاق كل غرائزهم الوحشية مع اعتبار سكان غزة حيوانات لا يستحقون الأكل والشراب وكل أنواع الحياة.
لم تكن قضية التعذيب والاغتصاب التي تسربت من "سدي تيمان"، هي الأفظع في تاريخ الكيان الإسرائيلي، وإن كانت عملية التسريب هي الأخطر وهي تتم على يد الرتبة الأعلى للادعاء العسكري الإسرائيلي، وكأن لسان الحال يقول إن "الجيش" الإسرائيلي فقد الأهلية القانونية الانضباطية، ولم يعد ثمة رادع يكبح جماح جنوده، لهذا السبب خرجت المدعية العسكرية عن طورها دفاعاً عن أصول المهنة التي اعتبرتها قد اهترأت، وهي التي اعتادت أن ترعب الجنود بطلتها، فإذا هي فجأة مجرد كاذبة تعمل منذ سنتين على ستر عورات هؤلاء الجنود، حتى وهم في أوج جنونهم الجنسي وسط معسكرات "الجيش" خارج ميدان الحرب، فهل بقي لعمل وحدتها مع واقع كهذا أثر أو مجرد دور هامشي؟