تفعيل الترويكا لآلية الزناد... التزام بالتوجهات الأميركية من خلال مناورة تفاوضية

رغم كل الإيحاءات التي تحاول الترويكا الأوروبية تسويقها من أن قرارها إعادة تفعيل السناب باك هو قرار يتوافق مع رؤيتها للملف الإيراني، فإن الظروف الموضوعية توحي بأن الهدف الأوروبي لا يستهدف الوصول إلى تسوية.

0:00
  • مسار الترويكا الأوروبية وإعادة تفعيل السناب جهد مكمل للمسار الأميركي الإسرائيلي.
    مسار الترويكا الأوروبية وإعادة تفعيل السناب جهد مكمل للمسار الأميركي الإسرائيلي.

سيكون من الصعب على الترويكا الأوروبية إقناع العالم بأن إعادة تفعيلها لآلية الزناد ضد الجمهورية الإسلامية يستند إلى تقدير أوروبي مستقل بعدم التزام إيران بالاتفاق النووي الذي جرى التوقيع عليه عام 2015. فالظروف التي أحاطت بالاتفاق منذ توقيعه قد دللت بشكل واضح على أن الأطراف الغربيين لا يستهدفون حل إشكالية النووي بشكل نهائي وفق معادلة التحقق من سلمية برنامجها النووي، مقابل إعادة دمجها في المجتمع الدولي، أي رفع العقوبات بشكل كامل عنها، كما أن هذه الظروف نفسها، قد أظهرت أن الترويكا الأوروبية لم تكن قادرة على فرض نفسها كشريك فعلي في الاتفاق، وإنما أمكن اعتبارها مجرد شاهد مشارك في التوقيع إلى جانب المقرر الرئيسي للجهة المعادية للجمهورية الإسلامية، أي الولايات المتحدة الأميركية.

 فعلى الرغم من الانخراط الأوروبي في مفاوضات مع إيران حول تخصيب اليورانيوم وبرنامجها النووي منذ عام 2003، أي قبل أكثر من 5 سنوات على فتح قناة تفاوض بين الولايات المتحدة وإيران، لم تتمكن الترويكا الأوروبية من إثبات قدرتها على إنتاج مسار فاعل مستقل لعلاقاتها مع إيران، واكتفت فيما بعد بلعب دور محدد ضمن إطار التنسيق والمساعدة في إعداد الأرضيات اللازمة للتفاوض، حيث إنها، أي الترويكا، لم تملك القدرة على صياغة اتفاق نهائي مع إيران من دون انخراط أميركي مباشر، نتيجة عدم قدرتها على فرض ضمانات أمنية وسياسية واقتصادية مستقلة.

فمن خلال التدقيق في تفاصيل اتفاق 2015 بين إيران والخمسة زائداً واحداً، سنجد أن الترويكا الأوروبية كانت تشكل طرفاً ثانوياً في ظل الدور المحوري للولايات المتحدة التي كانت تمتلك وحدها، عبر وزير خارجيتها في تلك المرحلة جون كيري، القدرة على جعل الاتفاق يبصر النور.

فقد كان واضحاً أن اللقاءات التي جمعت وزيري الخارجية الأميركي والإيراني  قد لعبت الدور الحاسم في الوصول إلى توقيع الاتفاق، في حين أن الترويكا الأوروبية كانت تنتظر، مكتفية بلعب دور المشارك القادر فقط على إعطاء الاتفاق شرعية دولية.

وفي مرحلة ما بعد انسحاب دونالد ترامب من الاتفاق عام 2018 وتبنّيه سياسة الضغوط القصوى على الجمهورية الإسلامية، حيث أعاد فرض كل حزم العقوبات التي نصت خطة العمل المشتركة الشاملة على شطبها، إضافة إلى مواظبة الإدارة الأميركية على فرض عقوبات جديدة متتالية، لم تتمكن الترويكا الأوروبية من تقديم ضمانات حقيقية بشأن الاستمرار في احترام التزاماتها. فقد امتنعت المؤسسات المالية وشركات الاستثمارات الأوروبية عن الاستثمار في الجمهورية الإسلامية وظهرت آلية دعم المبادلات التجارية ( INSTEX) عاجزة عن تحقيق الهدف الإيراني، حيث إنها بحسب تقدير وزير الخارجية الإيراني في تلك الفترة محمد ظريف، لن تغطي أكثر من 20% من حجم المبادلات الاقتصادية، ناهيك عن خضوع الترويكا لتهديد الولايات المتحدة الأميركية، بأن تعامل أي شركة أو دولة مع إيران سيعرضها لعقوبات اقتصادية قاسية.

في مكان آخر، يمكن القول إن الموقف الأوروبي، الذي تمثل في تلك الفترة برفض التخلي عن الاتفاق مع إيران والإصرار على المحافظة على الاتفاق النووي، لا يعبر في حقيقته عن عمق الموقف الأوروبي. فبعيداً عن الشعارات الإعلامية التي جرى تسويقها، يمكن القول إن التطابق بين الموقفين الأوروبي والأميركي من الجمهورية الإسلامية يكاد يكون مطلقاً. فبعيداً عن السردية التي تسوّق فكرة أن وصول إيران إلى عتبة القنبلة النووية قد يؤدي إلى دفع دول إقليمية كمصر والسعودية وحتى تركيا لبناء برنامج نووي عسكري، مع العلم أن إيران تنفي نيتها امتلاك برنامج نووي عسكري، يمكن التقدير أن سياسة إيران المناهضة لتدخل الغرب في الشؤون الإقليمية تشكل سبباً جوهرياً للموقف الأوروبي، حيث إن السياسات الأوروبية في المنطقة تستهدف كما السياسات الأميركية الإطباق على مفاصل القرار الإقليمي، وتستهدف أيضاً الحؤول دون ظهور أي منافس حقيقي قادر على حفظ سيادته واستقلاليته في المنطقة.

يُضاف إلى هذا السبب سبب آخر أكثر حدة، يتمثل في الحفاظ على الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي، حيث يتمثل الموقف الإيراني من الكيان الإسرائيلي بعدم الاعتراف بالكيان وبتبني لغة عدائية لا تتوانى الجمهورية الإسلامية عن ترجمتها بدعم مطلق لحركات المقاومة، بما ينعكس سلباً على توجهات القوى الغربية لحل القضية الفلسطينية.

في هذا الإطار، يبرز موقف دول الترويكا الأوروبية من الاعتداء الإسرائيلي على الجمهورية الإسلامية، حيث صنفوه في إطار الدفاع الإسرائيلي عن النفس. في هذا الصدد، ظهر الموقف الألماني الداعم للكيان بشكل واضح، حيث قال المستشار الألماني فريدريش ميرتس إن الكيان يقوم بالعمل القذر نيابة عن الغرب، وحين عبّر أيضاً عن بالغ احترامه لامتلاك الجيش الإسرائيلي الشجاعة للقيام بهذه المهمة. من جهة أخرى، ورغم دعوته جميع الاطراف إلى ضبط النفس، أعلن الرئيس الفرنسي ماكرون عن إمكانية إسهام بلاده في الدفاع عن "إسرائيل". أما ستارمر، وزير الدفاع البريطاني، فقد أعلن أنه يقف مع الكيان الإسرائيلي ويؤمن بحقه في الدفاع عن النفس في مواجهة ما اعتبره عدواناً إيرانياً عليها.

وعليه، بعيداً عن اللغة أو السلوك الدبلوماسي الذي تحاول الترويكا الأوروبية الإيحاء بالتزامها به، يمكن الاستنتاج أن النظرة الأوروبية إلى إيران لا تخرج عن دائرة العداء. فالإصرار خلال جولات التفاوض الأخيرة على إلزام إيران بالتفاوض مع الولايات المتحدة تحت وطأة العقوبات، إضافة إلى تقييد برنامجها الصاروخي وتسهيل الوصول إلى مخزون اليورانيوم الإيراني الذي فشلت الولايات المتحدة في الوصول إليه وتدميره خلال العدوان، يؤكد أن المسار الأوروبي يرمي إلى تحقيق أهداف الكيان الإسرائيلي التي عجز عنها خلال العدوان.

وعليه، يمكن اعتبار مسار الترويكا الأوروبية وإعادة تفعيل السناب باك بمنزلة جهد مكمل للمسار الأميركي الإسرائيلي الذي يستهدف إضعاف الجمهورية الإسلامية، والإعداد لإمكانية الانقضاض عليها في المستقبل. فإذا كان التحليل النظري في السابق يوحي بإمكانية التفريق بين موقف الترويكا من جهة، وبين الموقفين الأميركي والإسرائيلي من جهة أخرى، لناحية تفضيل الترويكا اعتماد المسارات الدبلوماسية لتطويع إيران، فإن الواقع الحالي يظهر أن هذه الدول الثلاث ستلتزم حكماً بالتوجهين الأميركي والإسرائيلي، عندما تقرر الولايات المتحدة ذلك. فالتوجه الأميركي والإسرائيلي الحالي ينحو نحو العمل على مواجهة الجمهورية الإسلامية بشكل مباشر يفترض، وفق تقديرهما، إمكانية إضعاف الجمهورية الإسلامية وتطويقها دبلوماسياً والإعداد عسكرياً بغية إسقاطها.

وبالتالي، رغم كل الإيحاءات التي تحاول الترويكا الأوروبية تسويقها من أن قرارها إعادة تفعيل السناب باك هو قرار يتوافق مع رؤيتها للملف الإيراني، فإن الظروف الموضوعية والمعطيات التي رافقت مسار التفاوض في جنيف وإسطنبول قد أوحت بأن الهدف الأوروبي لا يستهدف الوصول إلى تسوية، وإنما يستهدف إعداد الأرضية لتحقيق المطلب الأميركي بإعادة تفعيلها للسناب باك بطريقة لا تظهر أنها التزمت بالتوجيهات الأميركية بشكل حرفي ومباشر.